تحقيقات أسبوعية

للنقاش | دور المغرب في القرن الإفريقي بعد تحوله لساحة صراع جديدة بين فرنسا وتركيا

غادرت سنة 2024 وتركت القارة الإفريقية تعزف على إيقاعات مختلفة من التشظي نتيجة عدم نضج القرارات السياسية من جهة، ومن جهة أخرى، التدخلات الخارجية التي تنتعش أينما كان هنالك صراع، وخاصة في المناطق التي تعرف نزاعات حدودية، هذه الحدود التي تركها المستعمر مفتوحة جغرافيا، ومفتوحة سياسيا على كل الاحتمالات والانقسامات التي تسهل توقيع اتفاقيات في كل المجالات حسب المصلحة، وتستغلها القوى الكبرى لضمان النفوذ وضمان مصادر الثروات، ومن بين المناطق التي تعيش على وقع نزاعات مسلحة، منطقة القرن الإفريقي، التي زارها الرئيس الفرنسي مؤخرا من أجل رد الاعتبار للنظام الفرنسي، بعدما فقدت البلاد في عهدته نفوذها في غرب القارة.

بقلم: جميلة حلبي

    في ظل سياق إفريقي متغير باستمرار، وحالة الفوضى واللااستقرار التي تعيشها منطقة القرن الإفريقي، والصراعات الحدودية بين دول المنطقة، وفي ظل تزعم تركيا لما يمكن تسميته مصالحة بين الصومال وإثيوبيا، بتوقيع اتفاق بين البلدين في العاصمة أنقرة، يوم 11 دجنبر 2024، والذي من شأنه أن ينهي حقبة من التوترات بين البلدين وتوسيع الاستفادة التجارية لكلا الطرفين، اللذين ((أكدا احترام سيادة ووحدة أراضي الآخر، مع التخلي عن الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، والمضي قدما بشكل تعاوني لتحقيق الرخاء المشترك، كما اتفق البلدان على العمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولا إلى البحر موثوقا به وآمنا ومستداما تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفيدرالية بما يحقق المنفعة المتبادلة)) حسب ما جاء في الاتفاق الذي نشرته وسائل إعلام نقلا عن وزارة الخارجية التركية.. في ظل هذه الأجواء، بات القرن الإفريقي ساحة صراع جديدة بين فرنسا وتركيا.

فالقرن الإفريقي ظل على الدوام منطقة متخمة بالصراعات السياسية والأمنية، إذ لا تكاد تخبو أزمة حتى تنفجر أخرى، فإلى جانب تواصل الحرب الأهلية في السودان منذ شهر أبريل 2023، تعيش إثيوبيا أوضاعا داخلية غير مستقرة بفعل تجدد الاشتباكات مع جبهة “تيغراي”، واستمرار تحركات “حركة الشباب” المسلحة ضد الحكومة الصومالية، بالإضافة إلى تفاقم الخلافات بين الصومال وإثيوبيا، على إثر الاتفاق الذي أبرمته الأخيرة مع حكومة “إقليم أرض الصومال” الانفصالي في يناير 2024، والذي يمنح إثيوبيا حق إنشاء قاعدة عسكرية وميناء تجاري لمدة خمسين عاما مقابل اعترافها باستقلال الإقليم، وهو ما اعتبرته حكومة الصومال تعديا على سيادتها وتقويضا لاستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها.

تتمة المقال تحت الإعلان

وبالنسبة للمغرب، فإنه أصبح لاعبا أساسيا في السياسات الإفريقية، ورغم أن المملكة وطدت مكانتها أكثر في غرب القارة التي تربطها بها علاقات قوية في مختلف القطاعات على رأسها خط أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، فضلا عن مجموعة من الشراكات والمبادرات التي يتزعمها من أجل النهوض بأوضاع القارة على جميع المستويات من أجل التحرر من التبعية السياسية والاقتصادية، كما أصبح له دور أيضا في القرن الإفريقي، خاصة مع إثيوبيا التي تجمعها بالمملكة علاقات مميزة خاصة بعد عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وقد قام مؤخرا وفد عسكري مغربي رفيع المستوى بزيارة إلى إثيوبيا تتويجا وتوطيدا للعلاقات وتعزيز التعاون بين المؤسستين العسكريتين في البلدين، خاصة على مستوى التكوين والتدريب في المدارس العسكرية المغربية، وهذا الانفتاح على أديس أبابا يعزز سياسة المغرب الخارجية في شرق القارة، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بخصوص القضايا الإقليمية، على غرار قضية الصحراء المغربية، ومن جهة أخرى، يقوم المغرب بتزويد إثيوبيا بالأسمدة من أجل تحقيق الأمن الزراعي، وبالتالي، فمن شأن هذا التقارب الإثيوبي المغربي أن يكون له دور إيجابي في منطقة القرن الإفريقي ككل.

كما سبق للمغرب أن عرض وساطة على طرفي الصراع في السودان، الذي لا زال يعيش على وقع الغليان في حرب أهلية منذ سنة 2023، لكن أكبر وأهم دور يلعبه المغرب في القارة هو المبادرة الأطلسية التي طرحها الملك محمد السادس على جميع البلدان الراغبة في الوصول إلى المحيط الأطلسي، في ظل السباق المحموم لدول إفريقيا الشرقية على منافذ إلى بحر العرب والبحر الأحمر والمحيط الهندي اعتبارا لأهميته التجارية..  

وفي ظل هذه الأوضاع المتأججة وهذا التوتر المستعر، وفي ظل التسابق نحو النفوذ في القارة السمراء.. قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يومي 20 و21 دجنبر 2024، بزيارة إلى منطقة القرن الإفريقي، شملت جيبوتي وإثيوبيا، وقد ناقش مع مسؤولي البلدين “القضايا الإقليمية التي تموج بها منطقة القرن الإفريقي، وسبل تعزيز الشراكة والتعاون الاقتصادي والأمني مع حكومتي البلدين”، علما أن ماكرون لم يزر المنطقة منذ سنة 2019، في فترة رئاسته الأولى.

تتمة المقال تحت الإعلان
ماكرون // أردوغان

وقد جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إلى منطقة القرن الإفريقي، بعدما فقدت فرنسا نفوذها التقليدي في غرب القارة ومنطقة الساحل، وتحولها من حليف استراتيجي إلى طرف غير مرغوب فيه.. فبعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر في السنوات الأخيرة، والتي أنهت الوجود العسكري لفرنسا في المنطقة، واستمرار مناهضة التوغل في المنطقة، طالبت هذه الدول باريس بضرورة جلاء قواتها العسكرية من هذه البلدان، وخاصة من طرف الرئيس السنغالي، بسيرو ديوماي فاي، كما أعلنت تشاد في شهر نونبر 2024 عن تعليق اتفاقيات التعاون الدفاعي والأمني مع فرنسا، ودعت القوات الفرنسية إلى الانسحاب الكامل من أراضيها خلال موعد أقصاه 31 يناير 2025، يضاف إلى ذلك تقلص الوجود العسكري الفرنسي إلى حده الأدنى في كل من الغابون وساحل العاج، مما كان له سيء الوقع على سياسة فرنسا الداخلية والخارجية، وضربة قاصمة لنفوذها في إفريقيا رغم استقلال دول القارة، وهو ما أثر كثيرا على مكانتها كفاعل له وزنه في السياسة الدولية.

هذا بالإضافة إلى فقدان فرنسا لنفوذها في مالي بشكل كلي، وهو ما لخصته مجلة “لوفيغارو” في شهر دجنبر 2024، تحت عنوان: “هكذا فقدت فرنسا نفوذها في إفريقيا” قائلة: ((قررت تشاد يوم الجمعة الماضية إلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك مع فرنسا على نحو مفاجئ، وطلبت رحيل ألف جندي فرنسي متمركزين في قاعدة نجامينا العسكرية، وأكدت السنغال في اليوم ذاته عزمها إنهاء وجود الجيش الفرنسي على أراضيها، لتكتمل القطيعة أو تكاد بين باريس وشركائها الأفارقة السابقين بعد الانسحاب القسري من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عام 2022)).

ولذلك غير الرئيس ماكرون وجهته نحو القرن الإفريقي.. ففرنسا التي بنت مجدها الحضاري والسياسي وقوتها العسكرية انطلاقا من القارة الإفريقية بسواعد إنسانها وثروات أراضيها، لا يمكن أن تفرط في هذا المجد وهذا النفوذ، فهي لا تريد إخلاء الجو لقوى أخرى تستفيد من الصراعات والانقسامات التي تنخر جسم القارة، رغم الجيل الجديد من الرؤساء الذين يتصدون لاستمرار الوجود الفرنسي في إفريقيا، ففرنسا تسعى من وراء زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لكل من إثيوبيا وجيبوتي، إلى تحقيق عدة أهداف تعزز من خلالها مصالحها الاستراتيجية، أهمها توطيد نفوذها في شرق إفريقيا بعد الضربات المتوالية التي منيت بها في غرب القارة بسبب الانقلابات العسكرية التي أفرزت نخبة سياسية رافضة لبقائها متسلطة على دول المنطقة، واضطرتها إلى سحب قواتها العسكرية من مستعمراتها السابقة، ولذلك غيرت بوصلتها نحو القرن الإفريقي الذي ترى فيه مرتكزا للإبقاء على النفوذ الفرنسي في إفريقيا بما يمنحها القدرة على الاضطلاع بدور فاعل ومؤثر في ملفات وقضايا الصراع الإقليمي في البحر الأحمر ومنطقة الشرق الأوسط، كما يسعى ماكرون إلى تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع بلدان المنطقة، ونسج شراكات جديدة في مجالات متنوعة.. فبالنسبة إلى جيبوتي، وهي للإشارة توجد على البحر الأحمر، فقد احتفظت بعلاقات مستقرة مع باريس منذ استقلالها عنها سنة 1977، ومنذ ذلك التاريخ وفرنسا تحتفظ بقاعدة عسكرية في جيبوتي تعتبر أكبر قاعدة عسكرية لفرنسا في الخارج، حيث تطرق الرئيس ماكرون خلال لقائه بنظيره الجيبوتي، عمر جيله، إلى “الشراكة القوية بين البلدين في مجال الأمن والدفاع والبنية التحتية، والتي تعززت بإبرام اتفاقية دفاعية بين الجانبين قبل خمس سنوات، وتم تجديدها في يوليوز 2024″، كما شدد ماكرون على “أهمية جيبوتي لبلاده في إطار استراتيجيتها بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”.

تتمة المقال تحت الإعلان

أما إثيوبيا، فهي تعتبر شريكا استراتيجيا مهما لفرنسا في القرن الإفريقي، وقد أعلن ماكرون خلال اجتماعه برئيس الحكومة الإثيوبية، آبي أحمد، أن “باريس تشجع جهود إعادة هيكلة ديون إثيوبيا في أعقاب توصلها لاتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن برنامج تمويل يفوق الـ 3 ملايير دولار”، كما وصف ماكرون مطالب إثيوبيا بالوصول إلى البحر وتنويع منافذها البحرية بالحق الطبيعي والمشروع، داعيا إلى فتح آفاق جديدة للتعاون بين البلدين استكمالا لجهود الشراكة التي تكللت بتوقيع عدة اتفاقيات في مارس 2019، من بينها اتفاق يرمي إلى تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، ومساعدة الحكومة الإثيوبية على بناء وتطوير قدراتها البحرية.

كل هذا مقابل تنامي النفوذ التركي في المنطقة، والذي يتجلى في عدة مؤشرات، أهمها “الاتفاق الإطاري للتعاون الدفاعي والاقتصادي” الذي أبرمته أنقرة مع الصومال في شهر فبراير 2024، والذي يرمي إلى “إنشاء قوة عسكرية مشتركة بين البلدين لتأمين سواحل الصومال، ويسمح للشركات التركية بالتنقيب واستخراج النفط والغاز في المياه الإقليمية للصومال”، قبل أن يوافق البرلمان التركي في يوليوز 2024 على “نشر قوات تركية ضمن نطاق المياه الإقليمية للصومال لمدة عامين”، ولتأكيد وتوطيد دور أنقرة في إدارة صراعات القرن الإفريقي، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في شهر دجنبر 2024، عن “مصالحة تاريخية بين الصومال وإثيوبيا، من شأنها نزع فتيل التوتر بين البلدين وتهيئة الظروف السياسية لإجراء مفاوضات لتسوية نقاط الخلاف”.

وبالتالي، تبقى منطقة القرن الإفريقي مفتوحة على كل المتغيرات السياسية التي ربما ستغير خريطة المنطقة، خاصة في السودان الذي لم تستطع أطراف الصراع فيه إنهاء الحرب التي أتت على الأخضر واليابس، والصومال الذي يعيش أسوأ الأوضاع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى