الحقيقة الضائعة | الفرق في معركة الجهاد بين قبائل زعير وقبائل زيان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 105"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
عندما ارتفعت معنوية الجهاد لدى القبائل المجاورة للدار البيضاء وبلغت أوجها بهذا التضامن الكبير، وهذا الدعم الحفيظي، قرر الزعيم البوعزاوي الذي كان قد اتجه إلى فاس عن طواعية لتسليم نفسه للمولى عبد العزيز بعد أن عرف نيته في اعتقاله، في السجن يبعث الرسائل الحماسية وينشر روح الجهاد، قرر وقدر هذا الزعيم أن الوقت يتطلب حضوره للمشاركة في جهاد دعا إليه، ولم يكن ذلك بالأمر الصعب.. فقد فر في ظروف غامضة من سجن فاس، وعندما وصل للشاوية، لم تتمالك جموع المقاومين نفسها وهي تنظم مظاهرة كبرى لاستقبال زعيمها.
هنا أخذ الجهاد طابعا وطنيا متسع الآفاق.. فقد أخذت القوافل تتناقل أخبار الجهاد، وكان يوما مشهودا ذلك الذي أعلنت فيه قبائل زيان، بقيادة حمو وعقا، عن انضمامها للجهاد.
وأخيرا عمت الفرحة الكبرى حينما وردت أخبار من مناطق الحدود الجزائرية تعلن عن قيام عدة قبائل بربرية بمهاجمة الثكنات العسكرية الفرنسية على طول الحدود المغربية -الجزائرية.
أمام اتخاذ الأحداث لهذا المنعطف الذي لم يكن أحد يتوقعه، إذ أصبح الجهاد هو المنطق الجديد في طول البلاد وعرضها، ولم تبق سيبة ولا فوضى ولا قطع طريق، وإنما اتجهت القبائل والسهول للتجنيد ضد العدو المهاجم.. جلس المولى عبد الحفيظ في مراكش يدرس الأوضاع، فقرر أن ينتظر أولا عودة سفرائه الذين بعثهم إلى برلين ولندن وروما ولاهاي، طالبا دعم حكومات هذه الدول للمغرب المستنجد ضد الغزو الفرنسي.
وعاد السفراء جميعا وأيديهم فارغة، فلا عونا ماديا وعسكريا، ولا وعدا بالتأييد ولا رغبة في الاستنكار، والكفر ملة واحدة، وكانت خيبة كبرى للمولى عبد الحفيظ، الذي قر رأيه على الاختيار.. اختيار الاعتماد على النفس، وعلى الشعب، وعلى إرادة المواطنين المغاربة في منع احتلال أرضهم.
وفي يوم 28 نونبر 1907، بعث رسالة إلى الرأي العام يخبر فيها رسميا بمغادرته لمراكش والتوجه للالتحاق بجيوش الجهاد في الدار البيضاء مرورا بجميع القبائل الموجودة في طريقه، لجمع الدعم والمتطوعين.
مناورة لكسر الجبهة
فهل سيقف الجيش الفرنسي مكتوف الأيدي أمام هذا الإصرار، أم أنه سيخوض حربا هو غير مستعد لها في شرق البلاد ووسطها وغربها وعلى الشواطئ والموانئ، وهو الذي لم يخطط ولم يضع هذه التطورات في حسبانه ؟
هنا، كان لا بد لقوات الاحتلال الفرنسية أن تجد مخرجا لهذا الحصار، ففكرت طبعا في المناورة، وصب الماء البارد على الهمم المتقدة.. وهذا كان مخططها.
لقد بدأت بعض القبائل في الشمال، مثل قبائل زعير، تعلن عن رفضها لتعيين المولى عبد الحفيظ سلطانا على المغرب، وانضمت إليها قبائل أخرى، مما جعل شبح الانقسام يهيمن من جديد على آفاق الوحدة الوطنية، ويهز روح المقاومة والجهاد.
وعندما حل فصل الحرث انطلق جواسيس المخابرات الفرنسية، وأغلبهم مغاربة، يتحدثون عن انسحاب الجيش الفرنسي، وأما الجيوش التي ستبقى فستبقى منتظرة تاريخ انسحابها.
وانقسم المجاهدون في الشاوية إلى قسمين:
– قسم يدعو إلى الاستمرار في الجهاد مؤمنا بأن الأمر هو مجرد مؤامرة؛
– وقسم يقول: ما دام أنهم قرروا الانسحاب، فلنتجه لحرث أرضنا وضمان حصادنا لنجد ما نأكله في حالة استئناف الحرب.
ووسط هذه الحيرة جاء أحد المرابطين، وهو السيد محمد بن داود الشرقاوي، شريف بجعد، وأخبر الناس أنه توجه إلى الدار البيضاء ورأى بعينه انسحاب القوات الفرنسية وتوقف القوات الغير منسحبة عن كل نشاط أو توسع.. ومن لا يصدق الشريف ؟
وصدقت قبائل الشاوية كلام شريف بجعد، ووضعت السلاح واتجهت للفلاحة، وسقطت الشاوية في فخ المناورة العسكرية الفرنسية، وكانت خيبة أمل كبرى للمولى عبد الحفيظ الذي توقف عن تحركه، خصوصا عندما سمع أن فرنسا تفاوض المولى عبد العزيز في الانسحاب من الدار البيضاء في نهاية دجنبر 1907.
معارك أكتوبر 1907 ووصول الجنرال داماد
لكن، وكما قيل قديما فإن حبل الكذب قصير.
لقد فطن سكان الشاوية إلى أن الأمر لم يكن إلا مجرد مناورة، وأن الاحتلال الفرنسي قائم وأنه لا انسحاب لقوات الاحتلال، لذلك عاد الشمل للاجتماع من جديد والتحق المتخاذلون بالفريق الذي كان مستمرا في التدريب والتسليح، وكان مخطط ولد مولاي رشيد يقضي ببث العناصر المجاهدة وسط الدار البيضاء وتضييق الخناق على الفرنسيين ومقاطعتهم.
وفي 19 أكتوبر 1907، عادت قوات الجهاد للهجوم على الجيوش الفرنسية في تادرت قرب الدار البيضاء، وكان الفرنسيون قد استعادوها من أيدي الثوار خلال فترة الحرث.
وكان هجوم 19 أكتوبر مفاجئا حقا للقوات الفرنسية التي تقهقرت حتى إلى داخل الدار البيضاء، وحاصر المجاهدون مدينة الدار البيضاء بينما كان تأطير السكان داخل المدينة قد تم بنجاح.
وعندما هجم الثوار على قصبة مديونة وهلك كل من كان فيها من جیوش فرنسية، بدأ السكان في مقاطعة الأسواق ومنع التعامل مع الأجانب، والامتناع عن خدمتهم، وقد سجل المؤرخ الفرنسي مارتان، أن الفرنسيين اضطروا بأنفسهم لحفر القنوات وتشطيب المدينة وجمع النفايات، وتسريح القنوات المختنقة بالماء الحار والقاذورات، ونقل مارتان التصريح التالي الذي قال فيه الجنرال درود: ((إن المغاربة ليسوا فقط في خدمة الفرنسيين، وإنما نحن هم المتاعيس)).
وعندما يتحدث الجنرال درود عن التعاسة، فذلك يعني مدى قسوة الضغط الثوري عليه، ضغط لم يشعر به الجنرال الفرنسي وحده، وإنما شعر به الجنود الفرنسيون الذين خافوا على حياتهم فبدأوا يباشرون عمليات الفرار إما بحرا في البواخر الصغيرة، وإما انضماما لجيوش الثوار.
وعندما بدأ الوضع الفرنسي يتردى ولوائح الجنود الفرنسيين الهاربين تطول، قرر الجنرال درود فك الحصار العسكري والنفسي والهجوم على معاقل الثوار.
وفي فاتح يناير 1908، انطلق على رأس خمسة آلاف عسكري نحو قصبة مديونة لمهاجمتها، واحتلالها، وجرت معارك صب فيها الجيش الفرنسي غضبه وسلاحه على الثوار، لكنه لقي منهم ما لم يتوقعه، وعاد إلى الدار البيضاء مكسورا منهزما، وكان ذلك أول انهزام عسكري كبير يعرفه الجيش الفرنسي في المغرب منذ بداية القرن العشرين.
وقدرت الحكومة الفرنسية هذا الانهزام ولم تقبله ولم تستسغه، فقررت أن المسؤول هو الجنرال درود، وأن المدرسة العسكرية في التجربة الجزائرية هي الحل الوحيد، لذلك قررت أن يدخل من الجزائر الجنرال داماد (صاحب الشارع المشهور)، الذي تحرك بقوة ضاربة رهيبة عبر وجدة ودخل الدار البيضاء يوم 5 يناير 1908.
وكان الجنرال داماد يتوفر على قوة تفوق الحصر، قوة تتوفر لها كل الإمكانيات لاحتلال المغرب كله، لذلك لم يتوقف عند احتلال فضالة، بل دخل بوزنيقة يوم 11 يناير موجها مدافعه نحو الرباط..
وفي يوم 12 يناير، كان قد وضع خطة سرية للضرب شمالا وجنوبا، فدخل مدينة برشيد التي كانت معقلا كبيرا من معاقل الثوار، وتحت عنف المفاجأة، استطاع اعتقال أحد قادة الجهاد ومؤطري المقاومة، وهو ولد الحاج حمو.
وكان السلطان مولاي حفيظ يسرع في تحركه نحو الدار البيضاء، لكنه وجد الجيوش الفرنسية تعترض طريقه في سطات، حيث اشتبك جيش المولى عبد الحفيظ وجيش الجنرال داماد في شوارع سطات يوم 15 يناير 1908، ودارت معركة حامية لم ينتصر فيها أي جانب، وإنما غادر الطرفان مدينة سطات وهي تحترق وتتساقط أنقاضا.
وعاد الجنرال داماد إلى برشيد ليتمعن في خرائطه، فمهمته هي احتلال المغرب، ولا بد له من إتمام هذه المهمة.
وبدأ داماد في رسم الخطط العسكرية العصرية، إذ أطلق يوم 21 يناير تشكيلتين عسكريتين متفرقتين: الأولى انطلقت من مديونة، والثانية انطلقت من بوزنيقة على أن تلتقيا في عين مݣون، بعد أن تؤديا مهمتهما في القضاء على معاقل الثوار عند الزيايدة والمذاكرة.