تحقيقات أسبوعية

متابعات | غياب القانون الجنائي يصعب تنزيل العقوبات البديلة

تشكل العقوبات البديلة نقلة نوعية في المجال القضائي والتشريعي قصد ترشيد الاعتقال الاحتياطي ومراجعة المقاربة الزجرية التي ينهجها المشرع لمعالجة الجرائم أو الظواهر الاجتماعية، عبر فرض العقوبات السالبة للحرية وفرض العقوبات الحبسية، مما يضع المؤسسات السجنية والقضاة ومنفذي القانون أمام مهام صعبة، بالإضافة إلى إثقال ميزانية الدولة بتحمل نفقة عشرات الآلاف من السجناء بشكل سنوي.

إعداد: خالد الغازي

    وصلت المؤسسات السجنية إلى مرحلة الانفجار نتيجة الاكتظاظ، حسب العديد من التقارير، ولذلك حذر المندوب السامي لإدارة السجون وإعادة الإدماج، محمد صالح التامك، من العواقب التي يمكن أن تنتج عن ذلك، وأعلن أن عدد النزلاء في المؤسسات السجنية بلغ 105 آلاف سجين إلى غاية شهر أكتوبر الماضي، بزيادة 2000 سجين عن السنة الماضية، إلى جانب ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي في صفوف السجناء، إذ بلغت 45 في المائة من عدد الساكنة السجنية، مما جعل العديد من الهيئات والأصوات تدعو إلى التعجيل بتنزيل العقوبات البديلة المرتقب الشروع في تنفيذها خلال شهر غشت القادم.

تتمة المقال تحت الإعلان

فبالرغم من الدور الهام الذي سيلعبه قانون العقوبات البديلة للتخفيف من ظاهرة الاكتظاظ في المؤسسات السجنية، إلا أنه يطرح العديد من الإشكاليات والقضايا التي تحتاج إلى أجوبة ناجعة فيما يتعلق بقضايا الأحداث والنساء والمدمنين وبعض الجرائم المصنفة في الجنايات، من قبل الحكومة ووزارة العدل والبرلمان، قبل إصدار النصوص التنظيمية المرافقة لقانون العقوبات البديلة، في ظل الغموض الذي يلف مصير مشروع القانون الجنائي المرتبط بشكل أساسي بقانون العقوبات البديلة رقم 43.22، بحيث لا يمكن تنزيل هذا القانون الجديد دون إخراج القانون الجنائي والمسطرة الجنائية إلى حيز الوجود، حتى تتضح الصورة لدى القضاة والنيابة العامة وبقية المتدخلين..

في هذا السياق، تحدث مصطفى أيت عيسى، مستشار وباحث أكاديمي، عن الوضعية المزرية للسجناء والنزلاء في المؤسسات السجنية، والتي تفوق الطاقة الاستيعابية للسجون وتبرز الحالة الكارثية التي تعاني منها سجون المغرب، كمثال غرفة تأوي 160 شخصا تحتوي فقط على 60 سريرا، مما يدفع ببعض السجناء للنوم أمام المراحيض وأمام أبواب الزنازين، معتبرا أن تطبيق قانون العقوبات البديلة من شأنه أن يخفض عدد الساكنة السجنية إلى 50 في المائة، منهم المحكومون بأقل من 6 سنوات، مشيرا إلى التكلفة المالية لإقامة وتغذية السجناء على ميزانية المندوبية العامة لإدارة السجون، والتي تصل إلى أزيد من 75 مليار سنتيم، حسب ميزانية المؤسسة.

وأضاف أيت عيسى أن “هناك مجموعة من التحديات والإكراهات، لعل أهمها الإكراهات البشرية والمادية، التي تتطلب توفير أطر مؤهلة وبعدد كافي لإدارة السجون لتنزيل قانون العقوبات البديلة، وتوفير موارد مالية لاقتناء السوار الإلكتروني بعدد كافي، إلى جانب الإشكاليات التي قد يثيرها تطبيق هذا القانون، خاصة كيفية التنزيل، والتعامل مع الأعطاب التي قد تحصل في المراقبة الإلكترونية، وما هي آليات التتبع والرقابة والضمانات الكفيلة في قانون العقوبات، بالإضافة إلى إشكاليات توفير فضاءات خاصة لعقوبة العمل البديلة، هل تتوفر كل المدن على دور الرعاية الاجتماعية”.

تتمة المقال تحت الإعلان
إلهام رياض

من جانبها، تطرقت إلهام رياض، قاضية وأستاذة جامعية، للإشكاليات المطروحة عند تطبيق قانون العقوبات البديلة بخصوص حماية المرأة والطفل، لاسيما وأن المغرب سن مجموعة من القوانين المتعلقة بمحاربة العنف ضد النساء، والقواعد الخاصة بالأحداث، متسائلة “أي حماية مقررة للمرأة والطفل في قانون العقوبات البديلة مقارنة بالمكاسب التي حققتها المرأة؟”.

واعتبرت القاضية رياض أن تطبيق العقوبات البديلة في حالة قضايا النساء، يثير العديد من الإشكالات في جرائم العنف ضد النساء وكافة الجرائم التي تمس بسلامتهن وحقوقهن، مما قد يشكل تراجعا بالنسبة للمكتسبات المحققة، لكون المرأة تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية تحول دون وصولها للعدالة وتمنعها من تقديم الشكايات، إلى جانب صعوبات تؤكد أن العنف الممارس عليها يكون في مكان مغلق يصعب إثباته، مبرزة أن تطبيق العقوبة البديلة في هذه الحالة قد يجعل المرأة عرضة للانتقام والاعتداء مرة أخرى، الأمر الذي قد يجعلها تتساءل ما الجدوى من اللجوء إلى العدالة في حالة تطبيق العقوبة البديلة على المعتدي عليها، سواء الزوج أو أخ أو قريب أو صديق، ما يتطلب مراجعة العقوبات البديلة في قضايا العنف ضد النساء مع مراعاة مركز الضحية وإشراكها قبل استفادة الجاني من العقوبة البديلة، مما قد يشعرها بنوع من الارتياح.

وتناولت نفس المتحدثة قضية الأحداث وكيفية استفادتهم من العقوبات البديلة، في إطار حمايتهم ووقايتهم وإعادة إدماجهم في المحيط الأسري والمجتمع، مشددة على ضرورة البحث عن مدى نجاعة هذه العقوبات البديلة في تحقيق الغاية منها تماشيا مع ظروف الحدث، فتحقيق الردع وإعادة الإدماج في المجتمع هو الغاية من متابعة الحدث والحكم عليه بالإصلاح والتهذيب بعقوبة سالبة للحرية أو استبدالها بعقوبة بديلة.

تتمة المقال تحت الإعلان
أنس سعدون

في نفس الإطار، أكد أنس سعدون، خبير في القانون ومستشار رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، على أهمية توسيع نطاق إعمال العقوبات الصديقة للحرية والتي تهدف بشكل مباشر إلى إشراك المجتمع بشكل إيجابي في منح المحكوم عليهم الحق في الفرصة الثانية من أجل ضمان تأهيلهم وإعادة إدماجهم في بيئتهم، وذلك من خلال إجراءات غير احتجازية وعلى نحو يقلل من احتمال العودة إلى الجريمة، مذكرا في هذا السياق بتوصيات المجلس التي أوصى فيها بتوسيع نطاق العقوبات البديلة وتضييق نطاق الجرائم المستثناة منها، مع مراعاة مركز الضحية، والأخذ بعين الاعتبار بوضعية عدد من الفئات الهشة عند تفريد العقوبة، فضلا عن ضرورة تخصيص ميزانية كافية لتنزيل القانون الجديد والتعريف به.

وأوضح سعدون أن تطبيق العقوبات البديلة يحتاج إلى مراجعة للقانون الجنائي، لإعادة النظر في التقسيم الثلاثي للجرائم بحسب معيار الخطورة الإجرامية والتطورات المجتمعية، ودعا المجلس إلى توسيع مجال تطبيق العقوبات البديلة لفائدة الرشداء، وكذلك الأحداث، لتشمل أيضا بعض الجنايات التي لا تتسم بالخطورة من أجل إعطاء المتهم الحق في فرصة ثانية على غرار “محاولة إضرام النار ومحاولات إغلاق أو عرقلة الطريق، أو السرقات في الطرقات التي لا تتسم بالخطورة”، مضيفا أنه عكس الاعتقاد بأن تطبيق العقوبة البديلة لن يحقق الردع، إلا أنه عمليا سيحقق الردع المطلوب لأن الاستفادة من هذه العقوبة لا تطبق في حالة العود، كما أن تطبيق العقوبة البديلة يكون بديلا عن العقوبة السجنية، وإذا لم يلتزم المحكوم عليه بالالتزامات المحددة في الحكم القضائي، يتم إلغاء العقوبة البديلة وتطبق العقوبة السجنية في حقه”.

واعتبر نفس المتحدث أن تطبيق العقوبات البديلة ستواجهه تحديات قانونية وتنظيمية تتمثل في التعجيل بإصدار النصوص التنظيمية اللازمة، وتسريع وتيرة مراجعة قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي، وتحديات مالية ترتبط بضرورة توفير ميزانيات مرصودة لتنزيل القانون الجديد، وكذا تحديات ثقافية ترتبط بضرورة التعريف بالعقوبة البديلة وتغيير الصور النمطية التي تربط الزجر والردع بالعقوبة السجنية وحدها.

تتمة المقال تحت الإعلان
إيمان لعوينا

من جهتها، تحدثت الخبيرة في حقوق الإنسان والأستاذة الجامعية إيمان لعوينا، عن انخراط المغرب في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، وتوجهه نحو أنسنة العقوبات، لاسيما وأن تكلفة إدارتها وتدبيرها ثقيلة جدا على ميزانية الدولة وعلى  أجهزتها، كما أن الأوضاع المزرية التي يعيشها نزلاء المؤسسات السجنية من اكتظاظ وغيره، دفعت المشرع المغربي إلى اقتراح حلول بديلة مستوحاة من ممارسات فضلى، ساقها الحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة في مخرجاتها، مشيرة إلى أهمية تنفيذ المغرب للتوصيات الدولية للجنة مناهضة التعذيب والاعتقال التعسفي، حيث تم التأكيد على ضرورة تحسين ظروف الاحتجاز وجعلها تتناسب مع المعايير الدولية، وضمان المحاكمة العادلة والتعجيل بها، وتجاوز كل العراقيل الإدارية التي تطيلها ومراجعة كل ما يتعلق بإجراء الاعتقال الاحتياطي.

وأكدت لعوينا أن المشرع المغربي لم ينتظر إصدار قوانين هيكلية كالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية، بل بادر إلى إصدار القانون رقم 43.22 بشكل استباقي، ليكون مرجعا أساسيا للجسم القضائي لاعتماد عقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية في إطار فلسفة جنائية جديدة تنسجم مع كل المعطيات الوطنية والدولية سابقة الذكر، مبرزة بعض التوصيات في أفق التنزيل الجيد للقانون، خاصة وأن مراسيمه التنظيمية بصدد الإعداد والتي من شأنها أن تضمن حكامة جيدة لتفعيله، شريطة أن يكون مشمولا بآليات للرصد والتتبع من أجل الوقوف على مدى استجابة الجسم القضائي للأخذ بمقتضياته، مع ضرورة الانفتاح على المؤسسات البحثية والمدنية في أفق تجويده مستقبلا.

بدورها، كشفت ملاك الروكي، قاضية وأستاذة جامعية، أن أصناف العقوبات البديلة في الأنظمة الجنائية كثيرة ومتنوعة، ففي الخدمة المجتمعية نجد الخدمة لمصلحة المجتمع أو لأجل المنفعة العامة، وفي العقوبات المالية نجد الغرامة المالية اليومية، وفي تدابير رقابية المراقبة الإلكترونية والإقامة الجبرية، وحظر أماكن معينة، والسجن نهاية الأسبوع، واختبار التأهيل بحضور برامج تعليمية وتدريبية والالتزام بالعلاج، والتدريب على المواطنة، مضيفة أن المتدخلين في تنفيذ العقوبات البديلة هم النيابة العامة، والقاضي الحكم، وقاضي تنفيذ العقوبات، والمندوبية العامة لإدارة السجون، حيث يجب أن يكون الفعل المعاقب عليه جنحة وألا تتجاوز العقوبة المحكوم بها خمس سنوات، وعدم التوفر على حالات العود، وأن تكون الجنحة خارج الاستثناءات المقررة في المادة 35.3 وهي “الجرائم المتعلقة بـ: أمن الدولة والإرهاب، الاختلاس أو الغدر أو الرشوة أو استغلال النفوذ، تبديد الأموال العمومية، غسل الأموال، الجرائم العسكرية، الاتجار الدولي في المخدرات، الاتجار في المؤثرات العقلية، الاتجار في الأعضاء البشرية، الاستغلال الجنسي للقاصرين أو الأشخاص في وضعية إعاقة”، وأضافت أن هناك تجارب لدول أخرى مكنت من القيام بدراسة للاستفادة من النجاحات ومعرفة المعيقات التي مرت منها هذه البلدان، بالإضافة إلى عقد لقاءات مع شركات متخصصة في المراقبة الإلكترونية لمعرفة التكنولوجيات الحديثة في هذا المجال والوقوف على تجربة بعض الدول التي تعتمد السوار الإلكتروني، منبهة إلى التجربة التونسية التي وقعت في إشكالية تمثلت في اقتناء عدد محدود من الأساور الإلكترونية مقارنة مع جرأة القضاة في إصدار أحكام بالعقوبات البديلة، مما تسبب في إحراج كبير للحكومة من طرف القضاة.

تتمة المقال تحت الإعلان

وحسب الخبراء المشاركين في اللقاء الدراسي المنظم من قبل “الجمعية المغربية للنساء القاضيات” ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، فإن قانون العقوبات البديلة رقم 43.22 يعد حلا لتخفيض ساكنة المؤسسات السجنية، لأن 50 في المائة محكوم عليهم بأقل من 6 سنوات، لكن هذا القانون يبقى رهينا بمدى توفر الموارد المالية اللازمة والموارد البشرية قصد تعزيز آلية الرقابة، وتتبع السجناء المستفيدين من هذه العقوبات الجديدة، مع ضرورة إصدار النصوص التطبيقية، والإفراج عن القانون الجنائي والمسطرة الجنائية ومراجعة قضايا الجنح والجنايات حتى تتلاءم مع الأحكام البديلة، قصد تسهيل المهمة على القضاء لاختيار هذه العقوبات البديلة، وتمكين قضاة التنفيذ من الإمكانيات اللازمة والوسائل والاختيارات، مع مراعاة وضعية الأحداث والنساء، والسجناء المصابين بالأمراض المزمنة والعقلية والنفسية والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى