الحقيقة الضائعة | قصة أول مجلس عسكري للمقاومة المغربية
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 104"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كان الجيش الفرنسي ينتقل بعد نزوله من المرسى، بعيدا عن المدينة، وبالضبط جعل مراكزه ومعاقله في تيط مليل، وفي تادرت، وفي مرشيش.. ولم يفهم الناس لماذا لم يحتل الجيش الدار البيضاء وابتعد عنها، والواقع أن التعليمات كانت هكذا، فإن الجيش الفرنسي يجب أن يستقر بعيدا عن مرامي القصف الفرنسي.. أن يكون بعيدا عن القصف.
ولم يكن الجيش الفرنسي يعرف أنه بنزوله في تادرت إنما كان قد اختار مقر قيادة الثوار.. الثوار الذين اجتمعوا في تادرت لتدارس الوضع والتفكير في سبل المقاومة.
وكانوا بالدرجة الأولى محتاجين إلى السلاح لمواجهة الغزو ولضرب القوات المحتلة، وأحاطوا بالموضوع من كل جوانبه.
وأخيرا قرروا الكتابة إلى من هو أمل الجهاد، الأمير مولاي حفيظ، الذي كان بمراكش يعلن منذ مدة طويلة استعداده للجهاد، وحرروا الرسالة التالية:
((أمير المؤمنين، إنه لا يخفى عليكم أن العدو دخل بلادنا بخيله وجنده وسلاحه مستهدفا ترويضنا وإخضاعنا بجميع الوسائل.
وإنه لم يحتل الدار البيضاء إلا لأننا لا نتوفر على السلاح الكافي، لهذا نطلب من جلالتكم تزويدنا بالأسلحة الضرورية للدفاع عن شرفنا وحماية بلدنا وعائلاتنا، وإننا لنعاهدكم على أننا سنبقى متفانين في الدفاع عن وطننا.
إن أعناقنا مشرئبة في انتظار مقدمكم لمساندتنا. لقد بلغ السيل الزبى والعدو بالأبواب.
عجل، عجل فقد بدأ الاحتلال.
النجدة، النجدة فليس الوقت وقت انتظار.. إن من يجد الأعذار سيفوته الأوان والفاهم لا يتأخر، وليس من رأى بأصدق ممن سمع.
وعلى أية حال، فالحكم بيد الله هو القادر على نصرنا وسنعمل بنصحكم وإرشادكم)).
هناك ملاحظة كبرى لا تخلو من أهمية بالغة في تحرير هذه الرسالة، لا شك أن القارئ لن يفطن إليها حتى ولو قرأ هذه الرسالة عشر مرات، وهي أكبر برهان على مدى الوعي السياسي عند محرري هذه الرسالة.. إنهم وهم يحررون هذا الاستنجاد، كانوا يعرفون أن المغرب ممزق مشتت، وأن الخلاف بين المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ ليس من شأنه أن يخدم القضية الوطنية ولا أن يطرد الفرنسيين، وكانوا يعرفون أن المشاكل الداخلية، والنزاعات الشخصية، لا بد وأن توضع في رف منسي حتى يتم تطهير البلاد من العدو المحتل.
لذلك لم يذكروا في رسالتهم لا اسم مولاي عبد العزيز ولا اسم مولاي عبد الحفيظ، حتى إذا ما تسربت نسخة من الرسالة إلى مولاي عبد العزيز فإنه ربما لن يبخل عليهم بالدعم ولن يحكم عليهم بأنهم يؤيدون المولى عبد الحفيظ.
ولا أحد يدري هل بعثوا نسخة من هذه الرسالة إلى المولى عبد العزيز، وإنما المؤكد أن المقاومين كلفوا من بينهم السيدين الحاج مامون الزيراوي، والجيلالي بن عروب، بتبليغ الرسالة إلى المولى عبد الحفيظ.
وبينما كانت الرسالة في طريقها إلى مراكش، كان الفرنسيون يستقرون في الدار البيضاء، ويسجلون محاضر بالخسائر، بما فيها خسائر القصف الفرنسي، لتحرير لائحة بالتعويضات التي سيطلبون من السلطان دفعها.
وفي يوم 17 غشت 1907، اتخذ الفرنسيون قرارا انفراديا بخرق اتفاقية الجزيرة، وأعلنوا فصل السلطات وأمروا البوليس والجيش الإسباني بالانصراف.
وكان مبعوثا الثوار قد وصلا إلى مراكش يوم 16 غشت، حيث استقبلهما المولى عبد الحفيظ بمحضر ساعده الأيمن، الحاج المدني الكلاوي، الذي كان قد أعلن تأييده للمولى عبد الحفيظ وإعلانه سلطانا على المغرب.
وصادف وصولهما يوم الجمعة، حيث دعا بمساجد مراكش بالمولى عبد الحفيظ سلطانا على المغرب، وقرئ النص رسميا بمسجد “بريمة” وقف السكان بعده في باب الرياض يرددون: “الله ينصر مولاي حفيظ ولد مولاي الحسن، الله ينصر سلطان الجهاد”.
وحضر مبعوثا الثوار البيضاويين يوم السبت 17 غشت حفل تقديم مراكش للطاعة لمولاي حفيظ، في ذلك اليوم، أبلغ المولى عبد الحفيظ أن باخرة ألمانية قد خرجت من مرسى هامبورغ محملة بوفود ألمانيا تحمل اتفاقيات وقروضا ومساعدات للمولى عبد الحفيظ، وأخذت وفود القبائل تتقاطر على مراكش لتهنئ السلطان الجديد.
بينما كان المولى عبد العزيز لا زال سلطانا في فاس، وكانت فرصة للمولى عبد الحفيظ قدم فيها رسميا جوابه لطلب الثوار في الدار البيضاء وموقفه الرسمي من الأحداث، حيث وزع منشورا يخبر فيه الرأي العام بأنه: ((أعلن نفسه سلطانا للجهاد ضد الاحتلال، واستجابته لدعوة الشعب ليبقى المغاربة في وطنهم أحرارا وأسيادا، وأن يبقى كل واحد في حدوده، والله ينصر من يشاء ويذل من يشاء، وسيكللنا بالنصر الموعود.
ولقد أسسنا – يقول مولاي حفيظ – جيشا من رجال الجيش والقبائل، وسنضع على رأس هذا الجيش أحد المقربين إلى شخصنا حاملا دعما ماديا وعسكريا لطرد الفرنسيين من الدار البيضاء)).
كان هذا المنشور مؤرخا بـ 25 غشت 1907.
وكان هذا المنشور كاللهيب.. حيث بدأت القبائل تجمع الأسلحة وتوجهها إلى مولاي حفيظ.
وقد بعث القنصل الفرنسي في الجديدة، المسيو دو يوتيزا، تقريرا إلى حكومته يخبرها فيه بأن سكان الجديدة وأزمور جمعوا من الأسلحة 500 صندوق كل واحد به ألفي رصاصة، و191 صندوقا كل واحد به 2500 رصاصة، وأن المجموع مليون و477 ألف رصاصة، وأن سكان الجديدة بعثوا الصناديق ومعها بعثوا عامل الجديدة مكبلا بالسلاسل إلى مراكش.
ويسجل المؤرخون أن كل أقاليم المغرب أعلنت تأييدها للمولى عبد الحفيظ سلطان الجهاد، باستثناء أقاليم: فاس، طنجة، الرباط، الصويرة، وعبدة.
إلا أن أخبار قرار المولى عبد الحفيظ بعثت في سكان الدار البيضاء الأمل الكبير في طرد المحتلين.
معركة 20 غشت
وكان الثوار بالدار البيضاء قد نظموا أنفسهم وبدأوا في القيام بهجمات على مواقع الجيش الفرنسي.
وفي صباح 20 غشت 1907، نظم هجوم على المواقع الفرنسية توسعت رقعته من ميناء الدار البيضاء حتى إلى مدينة فضالة، مما اضطر البحرية الفرنسية إلى التدخل، حيث أصلت مدينة فضالة بالقنابل.
وكان هجوم 20 غشت على يد مجموعة من الثوار بلغت ستة آلاف مغربي، أشفوا غليلهم في الجيش الفرنسي الذي أصبح محاصرا في مناطق أخرى.
واستمرت هذه المعارك إلى يوم فاتح شتنبر، حيث اشتبك الجانبان في سيدي ميمون، وذعر الفرنسيون، وأحصوا عدد الثوار في هذا الموقع وكان عشرة آلاف مغربي.
بينما جاءت أخبار من شمال الدار البيضاء تتحدث عن مجيء جيش ماء العينين الصحراوي من ضواحي فاس، ويتكون من 800 عسكري في اتجاه الدار البيضاء.
وأخرج الفرنسيون ورقة المفاوضة، لكن المغاربة رفضوا المفاوضة، خصوصا بعد أن احتلوا الموقع الفرنسي في تادرت يوم 11 شتنبر وحطموه.
وكان السلاح قد نفذ عند قبائل الزيايدة، وزناتة، وأولاد زيان، فجلسوا على مائدة المفاوضات مع الجيش الفرنسي.
وفي يوم 16 شتنبر 1907، وصلت فيالق جيوش المولى عبد الحفيظ من مراكش بقيادة الأمير محمد ولد مولاي رشيد، مولاي رشيد الذي سبق الحديث عنه في حربه ضد احتلال الصحراء الشرقية وتنظيمه للمقاومة وتجميعه للاجئين في تافيلالت.
ونصبت خيام جيش المولى عبد الحفيظ في زناتة يوم 26 شتنبر، وكانت هذه الجيوش قد تعززت في طريقها بالمتطوعين من السراغنة والرحامنة.
وأسلم ثوار الشاوية مقاليد أمورهم للقايد الأمير محمد بن مولاي رشيد، الذي لم تكن قيادته العسكرية محط نزاع.. فقد كان اسمه يسبقه، واسم أبيه مرتبط بالجهاد وبملاحم تناقلها الصحراويون والفيلاليون، كما أقضت مضاجع الفرنسيين.
وأقام الأمير محمد في الشاوية جهازا كبيرا للتجسس على الفرنسيين وعلى تنقلاتهم، كما أمر كتابه بنسخ عدة مناشير وتوزيعها على القبائل، وهذا واحد من تلك المناشير: ((إخواني أولاد إبراهيم (المذاكرة)،
بمجرد وصول هذه الرسالة إليكم، شدوا رحالكم والتحقوا في الصباح الباكر إن شاء الله، لأن الفرنسيس شتته الله يريد الهجوم يوم العيد..
ولا بد ولا بد، ولن يتأخر إلا من ليس في قلبه عرق من الإسلام)).
في 30 رمضان 1325
الموافق لـ 6 نونبر 1907
كان هذا نموذج من المناشير التي كان قائد جيش المقاومة يوزعها وكثير منها وقع في أيدي قوات الاحتلال، وعلقوا عليها في ملفاتهم قائلين: ((لقد كان ولد مولاي رشيد يبعث كل رسائله قصيرة وجافة، وكثيرا ما كان يبعث تهانئ للقبائل بعد انتصاراتها في المعارك)).