المنبر الحر

المنبر الحر | الأنثروبولوجية السياسية في الحقل السياسي المغربي

بقلم: بنعيسى يوسفي

    لا يمكن أن ننكر أن المغرب راكم تجربة سياسية كبيرة على مر السنوات الأخيرة، فبعد الاستقلال مباشرة، بدأ في التأسيس لنظام سياسي يجعل البلاد مستقرة، وبعد ذلك تم التفكير في خلق آليات التنمية وبناء أسس اقتصاد وطني حقيقي، وتحسين مستوى عيش الساكنة، وإن كانت الأمور في البداية ليست بتلك السهولة التي قد يتصورها البعض، لكن على المستوى السياسي رغم العديد من الإكراهات والتحديات التي واجهها المغرب، سواء بسبب الكثير من الأحداث الداخلية التي كادت أن ترمي به في أتون الديكتاتورية وحكم العسكر، أو الأحداث ذات الصبغة السياسية الصرفة التي كانت بين المؤسسة الملكية وقوى المعارضة. فرغم كل ما حدث ورغم كل تلك الصراعات السياسية ومخلفاتها، فالمغرب استطاع أن يستثمر تلك الصراعات، والتدافعات إن صح التعبير، لكي يصل إلى ما وصل إليه الآن، وهو على الأقل التأسيس لثقافة سياسية مبنية على قواعد قانونية ودستورية، التي لازالت العديد من الدول المتخلفة تكافح وتناضل من أجلها ولم تستطع الوصول إليها، وصحيح أن سقف الطموحات في المغرب كبير في وصول أعلى درجات ومستويات الديمقراطية والممارسة الحقوقية، لكن على الأقل هناك أرضية مواتية وصلبة ممهورة بتجربة سياسية محترمة ورصيد تاريخي لا يستهان به في ذلك، ممكن أن تفضي بنا إلى الأفضل، لكن ما يمكن ملاحظته ويشكل في الحقيقة نقطة ضعف في هذه السيرورة التاريخية التي ابتدأت منذ الاستقلال إلى الآن، هو غياب دراسات وأبحاث سوسيولوجية وأنثروبولوجية محايثة لكل تلك التطورات والتحولات التي عرفها المغرب على جميع المستويات وعلى مدار كل هذه السنين الطويلة، تجعلنا أمام حقائق سياسية واقتصادية وغيرها مبنية على أسس علمية رصينة، بل يمكن القول أن غياب دراسات من هذا النوع لازال قائما إلى حدود الساعة وتكاد لا تجد لها أثرا حتى على مستوى اهتمامات النخبة السياسية والمؤسسات السياسية، وتبدو خارج اهتماماتها، فعلى المستوى الأكاديمي، قد لا يتجاوز عدد المهتمين بالمجال الأنثروبولوجي بالتحديد أصابع اليد الواحدة، نذكر منهم على سبيل الذكر عبد الله حمودي، محمد الطوزي، وحسن رشيق.. هؤلاء رغم قلتهم فهم على الأقل استطاعوا من خلال كتابتهم تشريح الواقع السياسي المغربي وفق قواعد ومبادئ الأنثروبولوجية كعلم قائم بذاته، تجعل كل من سنحت له فرصة الاطلاع على كتاباتهم أن يفهم ويستوعب كيف تشتغل الآلة السياسية في المغرب، وكيف يتطور الحقل السياسي فيه، وما هي المقومات والأسس التي يستند عليها نظام الحكم وكيف يتطور، وكيف يتكيف ويتأقلم مع التغيرات والمطالب الشعبية؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى العميقة التي توضح بشكل أو بآخر العلاقات والتقاطعات التي يعرفها المشهد السياسي ببلادنا بين كل مكوناته من أعلى هرم في السلطة إلى أصغر حلقة في هذه السلسلة، وانعكاسات ذلك على المجتمع، فالأنثروبولوجية السياسية تبحث في ثنايا كل هذه التشابكات عن أسبابها وتشكلاتها، وأشكال تطورها والمسارات التي تأخذها والعناصر الفاعلة والمؤثرة فيها، وبالتالي، إذا تم التمكن من كل تمفصلات هذه العلاقات والتداخلات، نكون آنئذ أمام حقيقة الواقع السياسي الذي يصير أكثر وضوحا وشفافية، ويكون سهل الفهم والاستيعاب، وتنكشف كل الأساليب والتحركات التي تقوم بها كل القوى أو الأطراف التي تحرك خيوط السياسة في البلاد من أجل الوصول إلى أهدافها وغاياتها السياسية، ناهيك عن كونها هي القادرة على الإجابة عن العديد من الأسئلة المرتبطة بالتحولات السياسية التي يعرفها الحقل السياسي، وكيف ينتقل هذا الحقل من مرحلة لأخرى والديناميات الفاعلة في ذلك؟ هذا بالإضافة إلى تمثل المواطنين السياسة وكيف ينظرون إليها ونزعاتهم وميولاتهم في ذلك، وكيف تتشكل التحالفات السياسية المبنية على القبلية ودور الأعيان في القرى وكيف تتشكل على المستوى الحضري؟ وهي أيضا بقدر ما تجيب عن تساؤلات من قبيل ما ذكرناه، لكن في الآن نفسه تطرح تساؤلات وتحاول أن تجد من يجيب عنها، والذي لن يكون بطبيعة الحال إلا طرفا من الأطراف المشكلة لتلك المنظومة أو الفاعلة في تلك المحطة أو تلك الحالة أو الوضعية السياسية، فهل هذا الواحد أو هذا الطرف مستعد لكي يقول الحقيقة ويقدم أجوبة صريحة عن كل ما يحيط بهذه الحالة أو تلك من حيثيات وملابسات، من قبيل: لماذا يتم التركيز في ثقافتنا السياسية على التوافق ولا يتم التركيز على الاختلاف المعلن؟ كيف يتم الرجوع إلى شخصيات سياسية كبيرة أدوا ما أدوا في سياق سياسي معين، كعلال الفاسي أو أحمد بن جلون وآخرين؟ بأي لغة سنتعامل مع هؤلاء؟ من يستطع أن يعطينا أجوبة أو توضيحات شافية بخصوص هذه الأسئلة وأخرى التي ينضح بها الحقل السياسي والتي لا زالت في حاجة إلى من يكشف عنها الغطاء ؟

وإذا أردنا أن نوجز كل هذه التفصيلات المرتبطة بالأنثروبولوجية السياسية، فيمكن أن نقول أنها تجيب باختصار عن السؤال المحوري والجوهري: الثقافة السياسية؟ وهذا السؤال، يحيلنا مباشرة على سؤال آخر عريض، وهو هل نتوفر في المغرب على هذه الثقافة السياسية من المنظور الأنثتروبولوجي ولو في حدودها الدنيا ؟

تتمة المقال تحت الإعلان

فالفاعلون السياسيون لحد الآن لم يستطيعوا بلورة إنتاج معرفي حول الموقع السياسي في المغرب داخل القوى الشعبية وداخل الجهاز الرسمي، ونفس الشيء على المستوى الأكاديمي، فالأنثروبولوجيا شبه غائبة في اهتمامات السياسيين عامة، على سبيل المثال إذا تأملنا الانتخابات نجد أن هناك من يتحدث عن منطق “التحالفات القبلية” أو “الشكارة” دون تحليل أو فهم، علما أنه لا يمكننا اختزال منطق السياسة في مجرد مبدأين من هذا النوع ونحن نعرف أن هناك عدة مبادئ وأصول لهذه الممارسة، هناك منطق متعدد للفعل السياسي يجب فهمه، ثم حينما يتم الحديث عن الثقافة السياسية التي تعتبر العصب الحي الذي تنهض عليه الأنثروبولوجيا، ليس بمفهومه الرائج أو المتداول الذي يختزل هذه الثقافة في مجرد مفاهيم أو مقولات محددة، مثل التناوب، حقوق الإنسان، المجتمع المدني، تشبيب القيادات السياسية وما إلى ذلك، التي يبدو أن هناك إمكانيات كبيرة أخرى لفهم ظروف ومخاضات والعوامل التي أفرزتها، وشكلت معالمها.

لا يمكن أن نخفي أن الكثير من الأعطاب السياسية التي يشكو منها المغرب، وكذا بعض الاختلالات الهيكلية التي تحف الممارسة السياسية فيه، لا شك أن جزء كبيرا منها نابع بالأساس من عدم الاستعانة بنتائج الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية السياسية، رغم قلتها، وهو ما يجعل العمل السياسي في بعض الأحيان مبنيا على فرضيات وتصورات غير صحيحة أو غير دقيقة، مما يقتضي فتح المجال لمثل هذه العلوم وتشجيع حضورها في الجامعات والمعاهد، وتحقيق تراكم كمي ونوعي يساعد على بلورة واقع سياسي أكثر فاعلية ودينامية.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى