الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الاستعمار و”عبيد المصالح الأجنبية في المغرب”

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 103"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    قد يتساءل القارئ وهو يتمعن في هذه الأحداث، عن موقف الشعب المغربي من مناورات الدول المصرة على احتلال الوطن، كما قد يتساءل القارئ وهل كان هناك رأي عام؟ بعد أن تأكد بأنه لم تكن هناك أخلاق دولية ولا أعراف قانونية، وقد رأينا التكالب الدولي والاتفاق العالمي على احتلال المغرب.. فقد بدأ القرن العشرون أيامه الأولى ملفوفا في تمائم الاحتلال والاستعمار وغزو الدول القوية للدول المستضعفة، وكانت فرنسا بارعة في مخططها، إذ أصبح المغرب طوع أيديها بعد أن احتلت الجزائر، واحتلت المناطق الصحراوية المغربية المتاخمة للجزائر، وتمكنت من تفكيك المغرب ونزف دمه، وكسر عظامه، وإهانة سلطانه، وتشتيت قبائله مستهدفة من كل هذه الممهدات دخول المغرب دون أن تطلق أي رصاصة حتى لا يحتج أحد، وحتى يأخذ هذا الاحتلال طابع الإنقاذ وطابع الاستجابة لرغبة السلطان..

وأجمعت كل كتب التاريخ التي اهتمت بهذه الفترة، على أن المغرب كان وقتها شعبا جاهلا سائبا، فوضويا جائعا، لا مجد ولا حضارة ولا روح للمقاومة، بعد أن تم طمس الصفحات المجيدة من تاريخ الجهاد المغربي منذ احتلال أقاليم توات والساورة وكورارة.. تلك الصفحات التي سبق أن توسعنا من خلال حلقات “الحقيقة الضائعة” في إزالة أثار الغموض من حولها وقدمناها على حقيقتها تصحيحا للتاريخ وإنصافا لأجداد لنا قدموا أروع الأمثلة في الجهاد.. هذا الجهاد الذي لم تخب جذوته لا قبل احتلال المغرب ولا بعده.

وجذوة الجهاد كانت كالشعلة الأولمبية، يسلمها الجد للأب، والأب للابن، والابن للحفيد..

تتمة المقال تحت الإعلان

ومثلما لم تتوقف المناورات الاستعمارية منذ سنة 1880 إلى سنة1980 ، فإن جذوة المقاومة والجهاد لم تتوقف طوال هذا القرن من الزمان.. وإنما كان الوضع يعدم الكثير من التكافؤ في الفرص، وفي الإمكانيات.

شعب – كما قالوا – جائع جاهل فاقد لكل مبررات القوة، يواجه قوات دولية عظمى رأس حربتها دولة فرنسا العظيمة، ببوارجها وجيوشها وقواعدها في الجزائر، وجواسيسها في كل أنحاء المغرب، وأموالها المتدفقة كالسيول.

وهو تكافؤ أصبح منعدما منذ موت الملك العظيم الحسن الأول، الذي بدأ حياته بتأسيس مصانع السلاح، لأنه كان يعرف الظروف التي كان وطنه محكوما بمواجهتها.

تتمة المقال تحت الإعلان

وإذا كانت الأيدي المسخرة قد انقضت على مشاريع الحسن الأول، فطمست معالمها وأقفلت معامل السلاح وجمدت أوراش البواخر ووضعت حدا للبعثات الدراسية وجوعت جيشه وأتلفت بواخر أسطوله ومهدت لاحتلال أطراف مملكته، فإن شيئا واحدا لم تستطع المناورات القضاء عليه، وروحا عالية عجزت المؤامرات عن إتلافها، ألا وهو الشعب المغربي، وروح الجهاد، وهو عامل لم تضعه المخابرات الاستعمارية في حسبانها، وعندما دخلت الجيوش الفرنسية لمدينة وجدة دون أن تطلق رصاصة واحدة، حيث وجدت عامل المدينة عبد السلام الوزاني واقفا يردد: “هذا ما كتب الله”، حسبت أن المغرب كله سيستسلم بهذا الأسلوب، وقررت الذهاب من وجدة، وقررت احتلال الدار البيضاء.

1907.. احتلال الدار البيضاء

    كانت شوارع الدار البيضاء في ذلك الصباح من 29 يوليوز 1907، تتفجر غيظا على ألسنة آلاف المتظاهرين، الذين كانوا يجوبون الأحياء هاتفين بسقوط الاحتلال الاقتصادي للدار البيضاء.

تتمة المقال تحت الإعلان

واتجه المتظاهرون إلى مقر شركة “لاكومباني ماروكان”، أول صرح للاستعمار الفرنسي في الدار البيضاء، وحصل اشتباك بين الجنود الفرنسيين الذين كانوا يحرسون الشركة، وكانت هذه الشركة قد اتخذت مقرها قرب مرسى المدينة، حيث تجري على يد العمال الفرنسيين والجزائريين أعمال البناء المزدوج للمرسى ولسكة الحديد المنطلقة من “سيدي أبو الليوث”، وهي ثلاث منشآت أشفى المتظاهرون غليلهم في تحطيمها وهدم كل ما ارتفع من بناء حولها.

وهب عامل الإقليم، السي بوبكر السلاوي، على رأس قوة من الجيش، ليشتت المتظاهرين ويحمي الثلاثين ألف أوروبي المتواجدين في الدار البيضاء.. وكيف لا يقوم بهذا الواجب وهو الذي يعرف إنذار الفرنسيين باحتلال المغرب إذا قتل أي فرنسي ؟

ولكن العامل بوبكر السلاوي تجمد في موقفه عندما وجد بين يديه جثثا مرمية على الأرض، وتفحصها وإذا هي جثث أربعة فرنسيين وثلاثة إيطاليين واثنين من الإسبان.

تتمة المقال تحت الإعلان

وهرب الفرنسيون مذعورين للاحتماء بقنصليتهم والإنجليز والإسبان أيضا، بينما تهافت عدد آخر من الأجانب على البواخر الواقفة في المرسى طالبين منها الإقلاع.

وفي نفس الوقت الذي شوهدت فيه عدة بواخر محملة بالرعايا الأجانب تغادر المرسى، غادر المتظاهرون مدينة الدار البيضاء للالتقاء على بعد ثمان عشر كيلومترا من المدينة بمحل يسمى سيدي علي بنموسى، لعقد أول تجمع شعبي للمقاومة المغربية للاحتلال.

والتحقت بالتجمع قبائل أولاد سعيد المزاب، المزامزة، أولاد بن داود، وبوزيري، ولم يكن هناك ميكروفون ولا مكبر للصوت، وإنما كانت هناك إرادة واحدة لطرد الأجانب من المغرب.

تتمة المقال تحت الإعلان

تجمع آخر كان في باريس، وتجمع آخر كان في الجزائر.. إن الفرنسيين أصبحوا يلمسون الانهيار يهدد مخططهم، إنهم لن يدخلوا المغرب دون إطلاق رصاصة، ولكنهم سيدخلونه تحت قصف المدافع.

وتحركت البارجة “لوكاليلي” مخفورة بطرادتين من مرسى تولون الفرنسي، وكان ذلك إعلانا للحرب على المغرب، فلا مولاي عبد العزيز، ولا “عقد الجزيرة”، ولا أي شيء من هذا القبيل.

لكن المجتمعين في سيدي علي بنموسى وصلوا قبل البارجة الفرنسية إلى الدار البيضاء ودخلوها يوم 30 يوليوز 1907، حيث عرفت الدار البيضاء أكبر مجزرة في تاريخها لم يذهب ضحيتها مئات الأجانب، وإنما استهدفت أيضا بيوت الأغنياء ومن كانوا يسمون “عبيد المصالح الأجنبية”، وهو تعبير سجله المؤرخ مارتان على ألسنة المتظاهرين، ويضيف مارتان قائلا: ((من حسن الحظ أن بعض القبائل قد تأخرت عن الوصول في الموعد المحدد للهجوم، أمثال قبائل أولاد الحاج حمو، والمذاكرة، وأولاد علي، ولو وصلوا لكانت الدار البيضاء قد انمحت من الخريطة)).

تتمة المقال تحت الإعلان

واتصلت باريس بمدريد، وأخبرت فرنسا إسبانيا بالوقائع، وذكرتها بأن نصوص “عقد الجزيرة” تجعل الدار البيضاء من اختصاص البوليس الفرنسي والإسباني، وهبت إسبانيا لنصرة فرنسا.

وبينما كانت البوارج الفرنسية في طريقها، أقلع من موانئ فرنسا خمسة آلاف جندي فرنسي ومن موانئ إسبانيا خمسمائة جندي، ووصلت الباخرة “لوكاليلي” لميناء الدار البيضاء يوم 2 غشت 1907، فظهرت المدينة لبحارتها وكأنها أنقاض.

وسمح العامل لقائد الباخرة بإنزال بضعة جنود يوم 5 غشت لحماية القنصلية الفرنسية، لكن جنود الخليفة السلطاني مولاي الأمين، لم يقبلوا هذا النزول، وضحية لسوء التفاهم بين العامل وخليفة السلطان، تعرض جنود “لوكاليلي” لرصاص جيوش الخليفة السلطاني، وجرح رئيس البحارة الفرنسيين، وكان ذلك بمثابة أمر للبوارج بإطلاق النار، وتبارت البواخر الفرنسية في إصلاء المدينة نارا جعلتها تتهاوى كبيوت من ورق، وتحت وابل المدافع نزل ضابط من مجموعة الضباط الذين خططوا لاحتلال المغرب، اسمه مانجان، كان له مع المغرب تاريخ عريض فيما بعد.

وعندما انهدت كل روح حية في المدينة تحت قصف المدافع، فتحت بوابات “لوكاليلي” ونزل منها ومن البواخر التي تحميها جيش عرمرم قوامه ثلاثة آلاف جندي بقيادة واحد من كبار ضباط جيش الاحتلال، الجنرال درود، وضابط آخر أكثر منه حمية أقوى منه شكيمة، هو الأميرال فيليبير.

وتعرضوا لمقاومة ضعيفة لم تمنعهم من إقامة أول معسكر فرنسي في الدار البيضاء على بعد خمسمائة متر من أسوار المدينة القديمة.

وبعد أسبوع واحد من الاشتباكات المتفرقة، والمقاومة السرية، وصلت البواخر الإسبانية محملة بخمسمائة جندي بقيادة الكومواندانت سانطا أولالا.

ألم نقل إن الإسبان كانوا بمثابة الذيل للفرنسيين ؟

إلا أن القصف المدفعي للدار البيضاء هدم الدار البيضاء، ولكنه بنى عنصرا أساسيا في المدينة، وهو الوحدة والتضامن بين جيش السلطان والثوار، وأصبح أولئك الثوار الذين كانوا يتهمون جيش السلطان، يتعاونون جميعا على دفن الموتى وإنقاذ الأشلاء، ويتعانقون ويتعاهدون.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى