عرف تاريخ المغرب عدة محطات في طريق البناء بعد الاستقلال، بعد الخروج من استعمار مدمر على جميع المستويات، وكان هذا البناء عبر تخليق الحياة الاقتصادية والتعليمية من أجل إرساء دولة المؤسسات أولا كممهد نحو تجاوز الإدارة المستعمرة، وهو ما تطلب وضع الثقة في أبناء الوطن لهندسة خارطة طريق مغرب مستقل بذاته.. غير أن مسار تحقيق ذلك تعثر في عدة مطبات، بسبب الفساد والمفسدين، الذين بدلا من تحقيق العيش الكريم للمغاربة راكموا الثروات فوق الثروات في إطار المصلحة الخاصة، وكانت بالتالي سببا في حملات ضد هؤلاء الخارجين عن القانون، ومع ذلك استمر الفساد من قبل مسؤولين ومنتخبين طيلة عقود، مما أضر بالمصلحة العامة للوطن والمواطنين.
كانت أول صرخة ضد الفساد، خلال ستينات القرن الماضي، أطلقها المؤرخ الراحل عبد الكريم الفيلالي من داخل البرلمان، متسائلا “من أين لك هذا؟”، وذلك بعدما استفحل الفساد واستشرى في دواليب الإدارة والتسيير وتدبير القطاعات العمومية والخاصة، وهو ما جعل الهوة تتعمق بين الفقر والغنى، وظهرت بالتالي فئة الأثرياء الذين كانوا يزدادون ثراء في الوقت الذي كان فيه الفقراء يزدادون فقرا..
وقد طالب البرلماني الفيلالي، الوحيد اللامنتمي لأي حزب آنذاك، بسن قانون يحمل نفس المصطلح “من أين لك هذا؟” وتفعيله من أجل محاسبة الثراء غير المشروع في أوساط المسيرين والمنتخبين والوزراء وغيرهم من المسؤولين الذين يتولون مناصب وهم فقراء ليخرجوا منها بثروات وشركات خاصة وغيرها من مظاهر الغنى في فترات قصيرة لا تسمح بذلك.
هكذا يبدو أن الثراء غير المشروع ليس وليد اليوم.. فقد عرف المغرب منذ الاستقلال – على الأقل – ظاهرة الثراء الناتج عن استغلال التسيير في المصلحة الخاصة بدلا من خدمة الصالح العام، والتاريخ المغربي يتحدث عن وجوه قديمة حتى في بداية الاستعمار الفرنسي للمغرب ممن جمعوا ثروات طائلة وهربوها إلى الخارج ليعيشوا بعيدا عن المحاسبة، نذكر من بينهم الوزير المهدي المنبهي، الذي كان أول من وجهت له أصابع الاتهام بأنه نقل الأموال إلى الخارج، علما أن حياته السياسية بدأت قبل وفاة المولى الحسن الأول بفترة قصيرة، واستمر عمله داخل القصر الملكي كمقرب من الملك أولا، وعمل وزيرا للدفاع ثم وزيرا للداخلية.. وهي المسؤوليات التي شجعته على مراكمة ثروات كبيرة، وخوفا على حياته وتماديه في السلطة، فكر في تهريب أمواله إلى الخارج كأول مغربي يقوم بتهريب الأموال، وقالت الكتب والتقارير أن ذلك كان بفكرة ومساعدة الفرنسيين الذين كانوا وقتها في بداية احتلال المغرب.. مساعدة مقابل ماذا؟ وكان المنبهي عند مغادرته للقصر الملكي قد عاش حياة رغيدة في طنجة وفي الخارج أيضا، وكان يقوم رفقة زوجته وأبنائه مرارا بالسفر إلى الخارج في الوقت الذي كان فيه المغرب يعيش فترات عصيبة في تاريخه، وهي الفترة التي فرضت عليه فيها الحماية الفرنسية.
ولكن.. حتى بعد الاستقلال عرف المغرب عددا من المفسدين، حيث استمر عدد لا يحصى من المسؤولين في استغلال المناصب والمسؤوليات التي أوكلت لهم، من أجل النفوذ أولا، وثانيا من أجل ضمان مستقبل مريح لهم ولعائلاتهم بعد مغادرة الكراسي، ولا أدل على ذلك من الحملة التطهيرية التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني في سنة 1970، بهدف تطهير الوزارات من الفساد، وكانت التهم الموجهة إلى عدد من الوزراء والمسؤولين في مؤسسات كبرى، تتعلق بالفساد المالي واستغلال مناصبهم الوزارية لأغراض شخصية، واستغلال النفوذ وتهريب أموال الدولة إلى الخارج..
ولم يقف الأمر عند الوزراء والموظفين السامين وكبار المسؤولين، بل إن الفساد مورس حتى في محيط القصر من قبل بعض المقربين للملك الراحل الحسن الثاني، ممن استغلوا ثقته ومكانتهم في الدولة لكي يراكموا ثروات ضخمة بالخارج، وغضوا الطرف عن آخرين ليكونوا ثرواتهم بالخارج، عن طريق تحويل مبالغ مهمة بالعملة المغربية إلى الخارج بشكل غير قانوني مقابل الاستفادة من عمولة شخصية، والنتيجة كانت وجود عقارات فخمة وشقق فاخرة مسجلة بأسماء مسؤولين مغاربة ونافذين ووزراء سابقين دون توفرهم على وصول قانونية تثبت نقلهم لتلك الأموال إلى الخارج وأداء الضرائب المترتبة عن ذلك للدولة، وهو ما كان يفوت على الدولة الملايير، وكان بالتالي سببا من أسباب تعثر دورة الاقتصاد.
ولم يقف الأمر عند هذه الفترة، إذ لم تمر فترة قصيرة حتى تثار قضية مفسدين، سواء كانوا منتخبين أو وزراء أو رؤساء مؤسسات كبرى، وهو ما يقف أمام تجويد العمل السياسي وجعله في خدمة الوطن والمواطن، ويضع البلاد ككل على المحك أمام الدول الأخرى، خاصة التي تكون مرتبطة مع المغرب باتفاقيات تجارية أو غيرها، ذلك أن عددا من المسؤولين يستغلون الصفقات العمومية وعملاتها لصالحهم ولصالح شركاتهم الخاصة، في تحد سافر وخطير للقانون.
إن الإفلات من العقاب كان دوما أكبر مشجع للمفسدين كي يتمادوا في فسادهم الإداري ويستغلوا نفوذهم الذي يكتسبونه بتراكم المصالح والمناصب، ومراكمة الثروات الخيالية، ويستعملون سلطاتهم عائقا أمام محاسبتهم أو محاكمتهم على تلك الجرائم التي يرتكبونها في حق الوطن الذي أنجبهم وآواهم وأطعمهم وآمنهم من كل ما يمكن أن يلحقهم، فاكتسبوا مناعة قوية ضد كل ما يمكن أن يعيق استمرارهم في تجميع الثروات بشكل غير قانوني.
واليوم.. فرغم تعاقب الحكومات بمختلف خلفياتها الإيديولوجية، ورغم جميع البرامج التنموية منذ بداية عهد الملك محمد السادس وإلى غاية اليوم وما يعرفه المغرب من ديناميكية وثورة في كل المشاريع جعلته في مصاف البلدان العالمية.. إلا أن رائحة الفساد أزكمت الأنوف، بل ملأت التقارير الرسمية حول المسؤولين والمنتخبين المفسدين جميع المنابر الإعلامية، وتعج المحاكم بمنتخبين فاسدين يقبعون في السجون في انتظار محاكمتهم وآخرون يقضون عقوباتهم الحبسية، بجرة قلم وقعوا صفقات غير مشروعة وعمولات في مشاريع غير قانونية وغيرها من الممارسات الخارجة عن نطاق القانون.. وها قد بدأ رؤساء الجماعات الترابية بالخصوص، يتساقطون تباعا معلنين عن خريف عملهم اللاسياسي، الذي دخلوا إليه بأصوات المواطنين ليكونوا صوتهم لتحقيق انتظاراتهم فإذا بهم يحققون انتظاراتهم فقط، بعد أن تحركت مفتشية الإدارة الترابية التابعة لوزارة الداخلية والمجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية التابعة له، في إطار حملة تطهيرية واسعة لا زالت مستمرة في عملها من أجل وضع حد للفساد المستشري في دواليب الإدارات، وخاصة الجماعات الترابية، وقد شملت تقارير وزارة الداخلية رؤساء العديد من المجالس، التي أصدر القضاء الإداري في حقهم قرارات عزلهم من مناصبهم وقرارات متابعتهم قضائيا بعد شكايات من قبل مواطنين أو الهيئات المختصة في محاربة الفساد، وذلك إثر تورطهم في اختلالات إدارية ومالية تتعلق بتدبير المجالس الجماعية منذ الانتخابات الأخيرة، كما سبق لوزير الداخلية أن أحال العديد من الملفات على الوكيل القضائي للمملكة من أجل مباشرة مسطرة العزل في حق دفعة أخرى من الرؤساء، وملفات أخرى على رئيس النيابة العامة، تتضمن اختلالات تكتسي طابعا جنائيا، ومن المنتظر إحالة هذه الملفات على محاكم جرائم الأموال لمتابعة المتورطين بتهم تتعلق بتبديد واختلاس أموال عمومية، كما أحالت الوزارة بعض التقارير التي توصلت بها من طرف المجلس الأعلى للحسابات على أنظار المفتشية العامة للإدارة الترابية، وبعد مرور نصف الولاية الجماعية الحالية، أظهرت تقارير التفتيش أن جل الجماعات تعرف اختلالات مالية وإدارية خطيرة تستدعي إعادة النظر في النخب التي ترشحها الأحزاب السياسية لتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، وهو ما يطرح مسألة ضعف الأحزاب في تأطير وتكوين المنتسبين إليها ليكونوا في مستوى المسؤوليات والمناصب التي تعطى لهم باسم الأحزاب لمجرد حصولهم على عدد من الأصوات في كل محطة انتخابية، دون التحلي بالأخلاق المهنية والمسؤولية أمام الدولة وتجاه المواطنين.
إن غياب الحكامة والنزاهة والشفافية في العمل هو ما يعطينا مسؤولين فاسدين لا تهمهم مصالح العامة بقدر ما يعملون، بمجرد “تبليصهم”، على العمل على تكديس الثروات مستغلين ثغرات في التشريع أو غياب المراقبة، أو لجهلهم بآليات التدبير وتسيير القطاعات التي يتولون أمورها، ولذلك فقد نص دستور 2011 على آلية تشكيل لجان تقصي الحقائق، مهمتها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة أو تدبير المصالح والمؤسسات والمقاولات العمومية، وتنتهي مهمة كل لجنة فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها، كما نص الدستور على ضمان استقلالية المجلس الأعلى للحسابات المكلف بمراقبة المالية العامة، عبر تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة وللأجهزة العمومية، كما خصص الدستور بابا كاملا لمبدأ الحكامة الجيدة، إذ ينص الفصل 154 على أن ((المرافق العامة تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية))، والفصل 158 ينص على ((إلزامية تقديم تصريح بالممتلكات للأشخاص المنتخبين أو المعينين))، فيما ينص الفصل 159 على ((استقلالية الهيئات المكلفة بالحكامة))، وأكد الدستور كذلك ((استقلالية مجلس المنافسة، المكلف بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية، من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق))، وفي هذا الإطار، نص الفصل 167 على ((إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مهمتها التنسيق والإشراف وضمان تتبع وتنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، وقيم المواطنة المسؤولة))، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: إلى أي مدى تمكنت هذه الآليات القانونية من دحر الفساد في ظل تصاعد أرقام المفسدين الرائجة أسماؤهم أمام القضاء ؟
وبهذا الخصوص، سبق لرئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن قال في تصريح صحفي، أن “المرحلة الجديدة في مكافحة الفساد يجب أن تقوم على مبدأ سيادة القانون، الذي يجعل من الشفافية والحكامة قواعد لا غنى عنها لتلبية الانتظارات المشروعة للمواطنين في إطار النموذج التنموي الجديد، وأن إصدار التقرير السنوي للهيئة يأتي في سياق استثنائي يتسم بوجود مجموعة من المؤشرات الإيجابية، والعزم على مباشرة إصلاحات عميقة، كفيلة بصون كرامة المواطنين، وضمان ولوجهم المنصف لحقوقهم، والاستجابة لتطلعاتهم المشروعة في حياة مزدهرة”.
فالملاحظ أنه لا مشكلة على مستوى التشريع، فكل المؤسسات المعنية بمحاربة الفساد وتطبيق القانون في حق المفسدين، تنبني على أسس متينة وتأخذ قوتها من ورقة الدستور، الضامن لحقوق المواطنين، والمنظم لسير عمل المؤسسات بشكل قانوني دون فساد أو اختلالات تعيق المصلحة العامة، لكن يبقى السؤال: كيف للفساد أن يستشري في الإدارة بهذا الكم في وجود كل هذه الآليات ؟
وهنا لا بد من الإشارة إلى تراجع مرتبة المغرب في مجموعة من المؤشرات المتعلقة بالحكامة، طبعا بسبب متلازمة المفسدين والفساد، الذي أصبح يأخذ منحى نسقيا وأصبح “ماركة مسجلة” بالمغرب، رغم ترسانة القوانين التي تتم بلورتها والهيئات التي يتم إقرارها والالتزامات الدولية التي قطعها البلد على نفسه.
إن غياب الإرادة السياسية الحقيقية لمحاربة الفساد، هو ما جعل هذه الآفة تنخر المجتمع وتهدد الاستقرار الاجتماعي، ورغم مرور ما يزيد عن ست سنوات على تبني الدولة للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، إلا أن تحقيق مضامين هذه الاستراتيجية ما زال بعيدا عن التفعيل الحقيقي رغم الأرقام المتداولة بشأن متابعة منتخبين ورؤساء جماعات تورطوا في الفساد، فالأحرى أن تشمل المتابعة الجميع بدون استثناء، وفي هذا الإطار يندرج قانون تجريم الإثراء غير المشروع، الذي لم يتم تفعيله، والذي يعتبر أحد أهم الأسباب في الفساد السياسي والإداري، من خلال تبديد المال العام وجمع الثروات، وأيضا غياب قانون يجرم تضارب المصالح في ظل وجود حالات متعددة يتم رصدها باستمرار، خاصة في ما يتعلق بالصفقات العمومية.. ولا زال الفساد متسيدا ولا زالت المتابعات القضائية في صفوف المنتخبين مستمرة.. فمتى يصل المغرب إلى القطع نهائيا مع الفساد والمفسدين ؟