الحقيقة الضائعة | عندما جسد الممثل شون كونري شخصية الشريف الريسوني
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 102"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
لقد أخذ نفوذ أحمد الريسوني يتوسع ابتداء من سنة 1905، حيث أصبح سيد القبائل الشمالية وأشدها، ثم أخذ يتوسع بتطويق تطوان وقبائل الريف، واحتل أصيلا بالسلاح في أكتوبر 1906، حيث خضعت له قبائل الخلط وأولاد موسى ووصل حتى إلى أسوار القصر الكبير..
وأصبحت طنجة العاصمة الدبلوماسية تحت رحمته، خاضعة لرجاله الذين كانوا يرتدون السلاهم الحمراء الفاخرة والعمامة الخضراء، مظهرين العظمة الإسلامية في أجلى صورها، كما كان يوزع مناشير يتهافت الناس على قراءتها، وزاد اهتمام الناس به حينما اغتال رجاله أحد الجواسيس الفرنسيين بطنجة، ويسمى شاربوني، مما جعل فرنسا تضع الريسوني في القائمة السوداء.
واستقر الريسوني في قصره الموجود في قرية الزينات متحديا القوات المسيحية، وهو ذل لم تقبله الأسرة الدولية التي شكلت جيشا مكونا من فصائل فرنسية وإسبانية اخترقت خليج طنجة لتتجه لمحاربته، بينما بعث السلطان جيشا مؤلفا من ثلاثة آلاف رجل بقيادة محمد الكباص، لاحتلال طنجة ومنع الريسوني من دخولها، ووصلت الفرقة العسكرية الفرنسية إلى الزينات فطردت الريسوني بالمدافع، وهرب إلى جبالة داعيا إلى الجهاد ضد الفرنسيين والإسبان، وكان يوجه ضربات كبرى إلى كل مظاهر الاحتلال، وتخصص في اختطاف البحارة الأجانب من ميناء طنجة.
وقد أثرت شخصية الريسوني على الأحداث والرجال لدرجة جعلت إحدى المؤسسات السينمائية الإنجليزية تنتج فيلما سينمائيا سنة 1975 عن هذا الرجل الأسطورة مثل فيه دور الريسوني النجم شون كونري، وهو شريط أعطى لشخصية الريسوني هيبة وجلالا، خصوصا وأن القصة التي اعتمدها المؤلف هي قصة حقيقية أوردها المؤلف علي الريسوني، أحد أقرباء أحمد الريسوني، في كتابه “أبطال صنعوا التاريخ” في الفقرات التالية: ((.. ففي شمال المغرب، أكد الشريف الريسوني، العلامة والمحارب المغوار، ضرورة الجهاد بكل قواه ضد المشاريع المسيحية، فأخذ على عاتقه القيام بمسؤولية حكومة ضعيفة تسرب إليها كثير من الخونة، وليتمكن من الكفاح على هاتين الواجهتين، قام الشريف الريسوني باختطاف رهائن وكرر هذه المشاهد عدة مرات، وكان لا يتم الإفراج عن المختطفين إلا بعد أن تؤدى ذعائر تسيء إلى سمعة الدول العظمى يوم ذاك، وإلا بعد أن يخول امتيازات سياسية تمكن الشريف الريسوني من التمركز كقائد للحرب المقدسة “الجهاد”، وفي يوم 18 من شهر ماي، استطاع الريسوني أن يستولي على بيديكاري، الأمريكي الذي استوطن طنجة، وعلى صهره الإنجليزي فارلي، فسيق الأجنبيان إلى جبل، فأرسلت الحكومة الأمريكية، التي أهينت، إلى عرض شاطئ طنجة، ستة بوارج حربية عززت بعدئذ ببارجة بريطانية سابعة، وبعد مفاوضات كانت مجدية – بواسطة شريف وزان – استطاع الأمريكيون الحصول على إطلاق سراح مواطنيهما بيديكاري وصديقه ما بين 24 و25 يوليوز من سنة 1904، بعد تنازلات مهمة، إذ أعطى الأمريكيون قدرا ماليا جد مرتفع: 70.000 جنيه أسترليني، بينما أعطى السلطان من جهته لرجل “الحرب المقدسة” مأمورية الحكم على إقليم طنجة، فاحتفظ لنا التاريخ بهذه الفصول ومثل هذا الحكم الصادر من أسير الريسوني الذي يقول: “إن الريسوني رجل ذو أخلاق كريمة بكل ما تحمله لفظة الأخلاق الكريمة من معنى، وما هو باللص ولا بالسفاك، ولكنه وطني دفع للقيام بأعمال السطو لينقذ بلده وشعبه من الضغط الأجنبي))، من هذا الحدث، استوحى المخرج شريط “الأسد والريح”، ولكنه اصطدم بمشكلتين: أولاهما رومانسية، وثانيهما سياسية إلى آخره..
وقال شاهد آخر اسمه أنطونيو راموس: ((في أوائل سنة 1905، قام الريسوني بخطف السيد برديكاريس وصهره وارلين، فكتبا إلى المجلات الأمريكية والإنجليزية في وصف كرم مولاي أحمد معهما والحفاوة الكبيرة التي وجداها في قبيلة بني عروس، وأن المفوضيتين الأمريكية والإنجليزية تدخلتا بواسطة شريف وزان لإطلاق سراح المختطفين، اللذين تم تحريرهما.
وقد أثر هذا الاختطاف على السياسة الفرنسية التي شعرت بوجود منافس جديد غير أوروبي، فأسرتها فرنسا في نفسها ولم تبد حقدها على الزعيم مولاي أحمد الريسوني، بل تركت ذلك للوقت المناسب، الذي سيحين في “مائدة الجزيرة الخضراء”)).
هذا هو الريسوني، الذي كان مستشار المولى عبد العزيز وصديقه ومفتاح الدعم البريطاني له، السير هنري ماك لين، معتقلا لديه عندما قرر المولى عبد العزيز التوجه من الدار البيضاء إلى الشمال لإطلاق سراح ماك لين من قبضة الريسوني.
وكانت الحكومة البريطانية قد أعطت الأوامر لوزيرها في طنجة للدخول في مفاوضات مع الريسوني لإطلاق سراح ماك لين، لكن المولى عبد العزيز احتج لدى البريطانيين مدافعا بأنه مسؤول عنه وأنه لازال في خدمته، رغم الاستقالة التي سبق لماك لين أن حررها من خدمة السلطان.
لكن الريسوني كان يطلب مقابل ماك لين مالا ليس في إمكان المولى عبد العزيز دفعه، ومرة أخرى وقفت الأزمة المالية في وجه السلطان عبد العزيز عن فك حصار سياسي وإطلاق سراح مستشار عزيز.
وبقي الريسوني إحدى كبريات الأزمات التي يعاني منها المغرب والمولى عبد العزيز، والإنجليز والفرنسيون والإسبان، تضاف إلى الأزمات الأخرى التي كانت لا تزداد إلا استفحالا.
إنه مهما اختلفت الروايات في موضوع الاختيار الحقيقي لفلسفة الريسوني، فإن هناك حقيقة لا نزاع فيها، وهي أن هذا الرجل كان من أعظم رجال التاريخ المغربي، بقوته وشجاعته وشهامته ونفوذه، عاش عظيما ومات عظيما حتى حينما أسره عبد الكريم الخطابي، والد المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، لأنه كان مريضا بطاعون وكان محمولا على نعش والناس حوله يتفرجون ما بين متشف ومتحسر، ضحك بعض الناس على جثته ففاجأهم بأن نهض على وركيه وقال: ((اضحكوا ما شئتم على نهاية الريسوني وافرحوا لها وافرحوا لإهانته.. سيأتي يوم تعطون فيه كل ما تملكون لكي أرجع، لكنني لن أرجع، سيكون قد فات الأوان، لأنني ذاهب إلى غير رجعة)).
وكانت هذه آخر كلمات الريسوني، وهي تعبر عن شخصيته، وقد نقلها بالحرف المؤلف البريطاني هاريس، الذي كان حاضرا وكتبها في كتابه عن المغرب.