تحقيقات أسبوعية

للنقاش | هل يتحول “سوء الفهم” التاريخي بين المغرب وإيران إلى اعتراف بمغربية الصحراء ؟

تميزت العلاقات بين المغرب وإيران خلال العقود الماضية بالشد والجذب، ودخل البلدان في عدة أزمات سرعان ما تنفرج لتعود العلاقة إلى ما كانت عليه، بحكم اختلاف المصالح وطبيعة الحكم في كلا البلدين، ورغم بعد المسافات.. إلا أن المغرب كان دوما في صلب اهتمامات السلطات الحاكمة في بلاد فارس والعكس صحيح، وكان المغرب دوما يفتح أبوابه أمام الإيرانيين، غير أن الأطماع السياسية والدينية من طرف إيران، كانت دوما تفسد ما يتم إصلاحه..

بقلم: جميلة حلبي

    إن المتتبع لتاريخ العلاقات بين المغرب وإيران يستشف أن الأزمة التي عاشها البلدان منذ سنة 2018، ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة، بحكم عدم تقارب طريقة الحكم في الدولتين، من الناحية السياسية ومن الناحية الدينية أيضا، باستثناء فترة حكم أسرة بهلوي لإيران (حوالي النصف قرن)، حيث لم تشهد علاقات المغرب بإيران أي أزمة وكان الاستقرار يطبع التعامل بين قائدي البلدين، وكان التوافق بين الدولتين كبيرا وصل إلى درجة تعاون أجهزة المخابرات من خلال اتفاقية “نادي السفاري”، سنة 1975، التي تم التوصل إليها في مدينة جدة السعودية والتي كانت تضم كلا من: المغرب وإيران والسعودية ومصر وفرنسا، بهدف القيام بعمليات مشتركة في إفريقيا ضد المد الشيوعي في القارة، لكن مع نجاح الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، دخل البلدان مرحلة من التوتر حد القطيعة سنة 1981، بعد أن قام الملك الراحل الحسن الثاني باستضافة شاه إيران محمد رضى بهلوي، الذي لم يجد دولة تستقبله بعد الإطاحة به، ورغم الاختلاف الذي طبع بعض القضايا بين المغرب وإيران قبل انتصار الثورة الإسلامية، إلا أن العلاقات بين البلدين في عهد الشاه عرفت بعض التوافق السياسي تجسد في تمثيلية دبلوماسية وتنسيق أمني، حيث استمد هذا التوافق قوته من العلاقة الشخصية التي كانت تربط الملك بالشاه، ويحكي الحسن الثاني، أن ((بهلوي هاتفه بعد أسبوع من دعوته ليقول له: “إنني قادم”، فأقام بالمغرب عدة أشهر، وكان يقود سيارته بنفسه ويتجول في الشوارع، وكان الطريق الذي يسلكه محاذيا للجامعة، ولم يحصل قط أن ارتفع صوت واحد مناهض له، وعندما كان يذهب إلى المدينة القديمة كان الناس يحترمون وجوده وأفراد عائلته كضيوف، ولم يشتك قط من أي مظهر من مظاهر العداوة أو البغض، ولا حتى من نظرة يشتم منها ذلك..

وتحت ضغط الإعداد لاستقبال المؤتمر التحضيري لوزراء الدول الإسلامية، اضطر الحسن الثاني أن يطلب من رضى بهلوي مغادرة البلاد تحسبا لإثارة أي ضجة أو امتناع المشاركين في المؤتمر عن المجيء إلى المغرب إذا ظل به الشاه، وهو ما سيؤثر على الرأي العام المغربي، وأضاف الحسن الثاني: “بما أنني لا أحبذ تصعيد الأحداث، خصوصا السلبية، فإنني فضلت أن أطلب منه مغادرة المغرب، وهكذا أطلعته على الأمور ووضحت له أن الأمر يتعلق بالمصلحة العليا لبلادي وقلت له: يستحسن أن تبحث لك عن مكان آخر تقيم به بعض الوقت ثم تعود”، حسبما رواه الملك الراحل في كتابه “مذكرات ملك”)) (المصدر: مقال في موقع العمق).

تتمة المقال تحت الإعلان
AFP_14H5O2

لكن زوجة بهلوي، فرح ديبا، أوردت في مذكراتها، رواية مخالفة بعض الشيء لرواية الملك، عن مغادرتهم للمغرب، قائلة إن ((ألكسندر دي مارينش، مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، التقى الشاه بمراكش، ليبلغه المخاطر التي يواجهها الملك الحسن الثاني بسببه، وهي مخاطر ذات طبيعة دبلوماسية وأيضا شخصية، فوفقا لما ذكر، أمر الخميني أتباعه المتعصبين بخطف أفراد الأسرة الملكية حتى يمكن مبادلتهم بنا، مضيفة أنه أبلغ أيضا الحسن الثاني، الذي رد بشجاعة: إنه أمر فظيع، لكن ذلك لا يغير قراري بأدنى قدر، لا أستطيع أن أرفض استضافة رجل يمر بفترة مأساوية في حياته))، وفق نفس المصدر.

كما أن وقوف المغرب إلى جانب العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، أثار حفيظة السلطات الإيرانية، ومن ذلك الوقت والطرفان يعيشان على وقع المد والجزر، فلا هما بالدولتين الصديقتين ولا هما عدوان..

وفي نهاية الحرب العراقية الإيرانية ووفاة مرشد الثورة في إيران، آية الله الخميني، وتراجع إيران عن الاعتراف بجبهة البوليساريو، عاد الدفء إلى علاقات البلدين سنة 1991، وكانت إيران وقتها خرجت لتوها من الحرب العراقية الإيرانية بما لها من تداعيات سياسية واقتصادية، فأخذت تغير من سياستها الخارجية، خاصة تجاه الدول الإسلامية، بعدما جعلتها الحرب تقبع في مربع صغير، وبذلك جرت اتصالات سرية وغير سرية بين السلطات الإيرانية ونظيرتها المغربية، تكللت بفتح صفحة جديدة بين البلدين، وعلى إثر ذلك، ((أصدرت وزارة الخارجية المغربية بلاغا يوم 16 دجنبر 1991، أعلنت من خلاله عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإيران، جاء فيه ما يلي: “نظرا للروابط التاريخية التي جمعت على مدى قرون البلدين المسلمين، المملكة المغربية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وشعبيهما الشقيقين، وحرصا منهما على استمرار هذه الروابط وتنميتها وتطويرها، وإيمانا منهما بضرورة التعاون بينهما لخدمة أهداف الأمة الإسلامية وتحقيق العزة والرفعة والتقدم لشعوبها، قررت حكومتا المملكة المغربية والجمهورية الإيرانية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين على مستوى السفراء”، وتبعت هذا الإعلان إجراءات عملية، حيث جمدت إيران اعترافها بجبهة البوليساريو، وهو الشرط الذي كانت الرباط تضعه مقابل عودة العلاقات، وهو ما كان إيذانا بتبادل الزيارات بين البلدين.. فقد استقبل الملك الحسن الثاني بمراكش يوم 25 يناير 1992، المستشار الخاص لوزير الخارجية الإيراني محمد كاظم أسدي خنساري، الذي كان مرفوقا بالقائم بأعمال السفارة الإيرانية بالمغرب، إلى جانب مدير قسم شمال إفريقيا بوزارة الخارجية الإيرانية، ثم استقبل يوم 25 يونيو مبعوث الرئيس الإيراني الذي كان مرفوقا بوفد إيراني هام، وخلال هذا اللقاء، تركز الحديث حول تدعيم العلاقات بين البلدين)) (المصدر: الأسبوع /عدد 17 يوليوز 2024).

تتمة المقال تحت الإعلان

إلا أن تدخل إيران وحليفها “حزب الله” اللبناني، في ما يهدد الاستقرار السياسي في شمال إفريقيا وبالضبط في المغرب، وطبعا من خلال الجارة الجزائر، حيث قامت إيران بتزويد جبهة البوليساريو بأسلحة وبتدريب ميليشياتها العسكرية في فترات مختلفة، هو ما لم يستسغه المغرب، فقام بقطع علاقاته مع إيران، وتم سحب السفير المغربي في طهران ومطالبة التمثيلية الدبلوماسية الإيرانية بالرباط بمغادرة التراب المغربي.

وقبل ذلك بسنوات، حدث أن أعلنت إيران، سنة 2009، أن دولة “البحرين عبارة عن محافظة إيرانية”، والمغرب بحكم التزامه تجاه الدول العربية قام بمساندة ودعم البحرين، مما جعل الفتور يدب مجددا بين الطرفين، وبالتالي، حدثت قطيعة أخرى بعدما قرر المغرب قطع علاقاته الدبلوماسية مع الجمهورية الإيرانية، حيث صدر وقتها بيان لوزارة الخارجية جاء فيه: ((إن المملكة طلبت توضيحات من السلطات الإيرانية التي سمحت لنفسها بالتعامل بطريقة متفردة وغير ودية، ونشرت بيانا تضمن تعبيرات غير مقبولة في حق المغرب إثر تضامنه مع مملكة البحرين على غرار العديد من الدول بشأن رفض المساس بسيادة هذا البلد ووحدته الترابية))، وأضاف البيان أن ((هذا الموقف المرفوض والموجه حصرا ضد المغرب، انضاف إلى نشاطات ثابتة للسلطات الإيرانية، وخاصة من طرف البعثة الدبلوماسية بالرباط، تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي))، وذلك بعد تورط البعثة الإيرانية بالرباط في دعم التشيع بالمغرب، ونشر المبادئ الشيعية في الأوساط المغربية، وهو ما يخالف المذهب السني المالكي الذي يدين به المغاربة، وهو أيضا ما يخالف المبادئ والأعراف الدولية التي تنبني عليها العلاقات الدبلوماسية بين البلدان، مما حتم على المغرب – بعد انتظار أسبوع على بلاغه إلى الجمهورية الإيرانية وطلبه تفسيرات بشأن ما يقع – الإعلان عن قطع علاقاته مجددا مع إيران، التي لا تكف عن إثارة النعرات والقلاقل مع الدول الإسلامية وخاصة العربية منها، وظلت مصدر إزعاج لرؤساء الدول..

بهلوي

وفي سنة 2018، قطع المغرب علاقاته مجددا مع إيران بعد قيامها من خلال ميليشيات “حزب الله”، بدعم البوليساريو وتدريب وتسليح مقاتليها عن طريق السفارة الإيرانية في الجزائر، حيث صرح آنذاك وزير الخارجية ناصر بوريطة بالقول: ((هذا القرار جاء كرد فعل على تورط أكيد لإيران من خلال “حزب الله” مع جبهة البوليساريو ضد الأمن الوطني ومصالح المغرب العليا، موضحا أن مسؤولا في “حزب الله” بالسفارة الإيرانية بالجزائر كان ينسق مع مسؤولي “حزب الله” وجبهة البوليساريو، وهذا لا يمكن أن يكون دون علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية))، غير أن وزراء الخارجية في تلك الفترات، ومنهم حسين أمير عبد اللهيان، ظلوا متشبثين بعدم مساعدة بلادهم للبوليساريو، وقد عبر عبد اللهيان مرارا (قبل وفاته في حادث تحطم الطائرة مع الرئيس إبراهيم رئيسي شهر ماي الماضي)، عن أمل طهران في استعادة علاقتها مع المغرب، وقال إن بلاده ترحب بتطبيع وتطوير العلاقات مع دول المنطقة والعالم، بما فيها المغرب.

تتمة المقال تحت الإعلان

وفي الآونة الأخيرة، يدور الحديث عن وساطة بين المغرب وإيران، تقول مصادر إعلامية أنها من طرف سلطنة عمان، من أجل إحياء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في ظل سياق دولي يتسم بكثرة الحروب، حيث أفادت تقارير إعلامية دولية، أن ((إيران تسعى إلى التقارب مع الدول التي قطعت العلاقات معها في وقت سابق، ومنها المملكة المغربية، وأن هناك تقدما ملحوظا في المشاورات “غير المباشرة” بين البلدين دون مؤشرات قوية على إعادة العلاقات قريبا))، مشيرة إلى أن ((المغرب متشبث بضرورة سحب إيران لدعمها لجبهة البوليساريو الوهمية، وعدم تقديم أي دعم لها بأي شكل من الأشكال في المستقبل)).. وهو ما كان المغرب دوما ولا زال، يتشبث به، إذ ظل الملك محمد السادس يعتبر أن القضية الأولى للمغرب هي النظارة التي يرى بها صدق الصداقات ونجاعة الشراكات..

ويبدو أن موقف إيران ومسعاها لإصلاح ما أفسدته في علاقتها بالمغرب، مرتبط بالدرجة الأولى بالظرفية التي تعيشها في الشرق الأوسط والخليج العربي، بعد تبادل الاتهامات بينها وبين إسرائيل والتصعيد الدبلوماسي والعسكري بينهما في الآونة الأخيرة، بعد توسع أنشطة أذرعها المسلحة التي تعمل من خلالها في المنطقة، سواء تعلق الأمر بـ”حزب الله” أو حركة “حماس”، أو من خلال الحوثيين في اليمن، حيث عرفت تدهورا كبيرا بعد القضاء نسبيا على “حزب الله”، وهو ما تم من خلال الرجوع إلى تطبيق بنود القرار الأممي 1701 بخصوص الأحداث التي وقعت مؤخرا في الجنوب اللبناني، وإسرائيل ومعاونوها يعملون حاليا على “محو حماس” من قطاع غزة… وغيرها من المتغيرات السياسية، ما جعل السلطات الإيرانية تبدي رغبتها في العودة إلى حضن الدول العربية الإسلامية، وهو ما كانت قد بدأته مع السعودية وبعدها تم الصلح في شهر مارس 2023 بوساطة صينية وقبلها بوساطة عراقية بعد سنوات من القطيعة، لكن كل شيء توقف بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته عبد اللهيان في حادثة الطائرة، وبعدها تسارعت الأحداث في قطاع غزة والجنوب اللبناني..

ويبقى السؤال المطروح: لماذا اختارت إيران هذا الوقت بالذات لتبحث عن المصالحة مع المغرب؟ والجواب هو أن إيران ترى في المغرب حاليا المكانة الدبلوماسية التي بات يتميز بها وعلاقته القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص، وهو ما جعلها تختار التعامل من جديد مع المغرب، لكن إيران يغيب عنها أن الجزائر ستبقى حجر عثرة في سبيل توصلها إلى توافق مع المملكة، ما دام أن المغرب يضع أول وأكبر وأهم وآخر شرط للمصالحة، هو قضية الصحراء المغربية وعدم التعامل بأي شكل من الأشكال مع البوليساريو.. وهو ما لا تفعله مع الجزائر بحكم المصالح المشتركة بينهما.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى