المنبر الحر

المنبر الحر | ضبابية المشهد السياسي.. لماذا تغير كل شيء من أجل لا شيء ؟

بقلم: بنعيسى يوسفي

    إن المهتم بالشأن السياسي في المغرب لا بد وأنه سيلمس الضبابية وعدم الوضوح اللذين يكتنفانه، ولن يستطيع تشكيل تصور واضح حياله، فكلما ساد الاعتقاد بأن الأمور تسير في الاتجاه السليم نحو ترسيخ ثقافة وممارسة ديمقراطية حقيقية، وتتم تعبئة الكثير من الموارد والإمكانيات لتحقيق ذلك، تقع تراجعات وتتم العودة إلى نقطة البداية، حتى قيل يوما على لسان أحد الباحثين الأمريكان، أوردها الراحل عابد الجابري في إحدى كتاباته: “في المغرب قد يتغير كل شيء من أجل لا شيء”، والواقع أن هذه الصورة الضبابية لم تنشأ من فراغ، فثمة العديد من الأسباب التي ساهمت بشكل كبير في تثبيتها وترسيخها، جزء كبير منها يعود للنخبة السياسية التي ربما تجد في هذه الضبابية غطاء لبلوغ مآربها في ظل غياب قوى سياسية حقيقية تقوم بتبديد هذه الضبابية وتضع المشهد السياسي على سكته الحقيقية في إطار من الشفافية والوضوح.

وتتجلى هذه الضبابية في تداخل المفاهيم التي يتخذ الكثير منها طابعا فضفاضا في أحايين كثيرة، ويحار المرء في تحديد معانيها ومدلولاتها، وخير مثال هو الخلط الحاصل بين ما يعيشه المغرب حاليا، هل يعيش حقيقة انتقالا ديمقراطيا كما يعتقد الجميع، أم نحن بصدد توفير الشروط الموضوعية الحقيقية لهذا الانتقال؟ وشتان بين الأمرين، وحتى مفهوم “الانتقال الديمقراطي” بهذا الشكل الذي يتم طرحه والترويج له، صعب التناول علميا كما يذهب إلى ذلك الأستاذ الباحث محمد الطوزي، لأنه حينما تقول انتقالا ديمقراطيا، فأنت تعاكس بشكل كبير مفهوم الديمقراطية الذي يصبح من هذا المنظور أشبه بمحطة قطار يتم الوصول إليها وانتهى الأمر، فليس هناك محطة وصول في الديمقراطية، وحتى الذي يعتقد أنه وصل ديمقراطيا، فهو واهم، فالديمقراطية دائما خطر مفتوح على إمكانية النكوص، ففي الديمقراطية هناك شد وجذب ومسلسل يؤطر بالقواعد العامة للعبة من حيث تغييب ما يسمى بالمخاطر الجسدية في السياسة، حيث أنك لن تموت إذا خسرت سياسيا، وبالتالي، وبناء على هذه المقاربة، نلفي أنفسنا نجترح مفاهيم ومقولات تظهر وكأنها تحيل على غايات نخالها هي المرجوة، لكنها في النهاية لا توصلنا إليها بقدر ما تزيد الواقع التباسا وغموضا، ثم هناك أمر آخر لا بد من التعريج عليه، وهو حينما يتم الحديث عن وجود نخبة سياسية معارضة، فالسؤال الذي يطرح نفسه: معارضة لمن؟ لقد أصبح الخطاب ذا أفق وحيد، والحال أنه لإنتاج خطاب سياسي معارض، يجب أن تكون هناك إمكانية للتعارض، وما يقع اليوم في المغرب كما في جل دول العالم، هو أن ليس هناك أي فرق، بل اختلاف في الممارسات وطرق الإنجاز وديناميته، وكذا تحديد الأولويات، فالمعارضة تكون واضحة حينما تكون بين أفقين أو ثلاثة، لكن اليوم يبدو أن هناك نوعا من النمطية، ومادام أنه لم تطرح بعض الأسئلة الأولية حول شروط التعاقد السياسي، فإن الوضع يبقى على ما هو عليه، خاصة حينما تصبح السياسة ذات نفس إجرائي فقط.

تتمة المقال تحت الإعلان

ولا يمكن أن ننهي الحديث عن ضبابية المشهد السياسي في المغرب دون أن نثير دور الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي الذين تخونهم الجرأة اللازمة لرصد كل تشوهات هذا المشهد والوقوف عليها وكشف الحقائق، والخوض في كل التحولات التي يعيشها المغرب، وإعطاء العمق التاريخي لها بعيدا عن التوثيق اليومي للأحداث، وهذا ما يستدعي الانخراط بشكل أو بآخر في الحركة العلمية العالمية، لأن تناول موضوع التحولات السياسية في المغرب يجعل من الضروري تجاوز هذه المسألة للاستئناس والتعامل المباشر مع ما يجري في مراكز الأبحاث العالمية حول هذا الموضوع، وذلك من أجل استنباط مفاهيم كونية يمكن أن نعبر بها عن مرحلة تاريخية معينة في الحياة الإنسانية، والتي ينتمي إليها المغرب، فكل هذه النواقص في التعامل مع المشهد السياسي في المغرب، ليس من طرف هؤلاء الباحثين والدارسين وحسب، وإنما حتى على مستوى المواطن العادي، لعدة اعتبارات تتمحور حول التعبئة السياسية والاهتمام السياسي بشكل عام وإذا كنا لا نختلف في دور المثقف العضوي في المجتمع من الناحية السياسية بالخصوص، وأهميته جلية فيه، وهذا لا يلغي أهمية باقي النخب المثقفة بمختلف تلاوينها التي هجرت السياسة طوعا أو كرها، مما أفقد السياسة الكثير من توهجها، فنحن لا ندعي أن السياسة حكر على المثقف وحده، بل نريد لهذا المثقف أن يتعايش وينصهر سياسيا مع جميع الفئات الاجتماعية، ويكون فيها هو العقل المدبر بفكره وفلسفته وعلمه، حتى تستطيع السياسة أن تأخذ صبغتها الحقيقية، لذلك يمكن أن نقول أن غياب المثقف عن السياسة يجعلها فقيرة فكريا وانغراسها فيما هو تكتيكي وظرفي، والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست مغربية فقط، وإنما تكاد تكون عالمية، ولنأخذ مثلا الانتخابات في فرنسا أو حتى في أمريكا، فلحد الآن هناك أفق واحد أحادي والتموقعات تجاهه تبقى أخلاقية أكثر منها سياسية، ففي العشرين سنة الأخيرة، يلاحظ غياب إعادة طرح الأسئلة الأولية، وهي يمكن أن تطرح مستقبلا في إطار السيرورة التاريخية، لكن نحن الآن في مرحلة جريان لا تسمح بطرح أسئلة: لماذا التحرير؟ لماذا العولمة؟ لماذا الاقتصاد؟.. فالبعد الفلسفي في السياسة تضاءل دوره كثيرا في العقدين الأخيرين، والعمليات السياسية أصبحت أشبه بماركوتينغ أكثر منها عملية طرح مشاريع مجتمعية ككل، وهذه ظاهرة عالمية والمغرب جزء منها، حيث تغيب القضايا المصيرية للإنسان، والأسئلة الأولية أصبحت حاضرة غائبة في الكتابات الفلسفية الراهنة، كما أنها على المستوى السياسي لم تعد تطرح بالشكل الذي يجب أن تكون عليه، وبالتالي، يبدو أننا حيال مشهد سياسي محلي وعالمي مرتبك وغير واضح رغم ما يبدو على الواجهة من حركية ودينامية، لكن يبدو أنه بدون بوصلة حقيقية لتحديد الاتجاهات والمسارات الحقيقية التي يجب اتباعها، وهذا ما يجعله محط انتقادات وتساؤلات، وفي حاجة ملحة إلى إعادة ترتيب وإعادة تشكيل وبناء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى