الحقيقة الضائعة | مقتل “موشان”.. المبرر الفرنسي لاحتلال المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 100"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
قد لا يصدق العقل أن تعلن دولة حربا على دولة تدعي صداقتها، ثم تحتل جزء منها لمجرد أن أحد رعايا الدولة الضاربة قتل في حادث عمومي، ولكن صدق أو لا تصدق، فهكذا بدأ احتلال فرنسا للمغرب، لا حماية ولا اتفاقا وإنما احتلالا..
لعل من حق المغاربة أن يتساءلوا فعلا هل ليس للفرنسيين أنفسهم يد في اغتيال موشان حتى يمكنهم تنفيذ مخططهم بهذه السرعة؟ هذه السرعة التي تذكرنا بأفلام الرسوم المتحركة، تكون مستعدة للانطلاق جامدة كالصور في مواقعها، ثم بمجرد إشعال التيار الكهربائي، تبدأ في تحركها وفق ما رسم مسبقا ومعبئا في الجعبة، وهذا هو الشريط:
مظاهرة في مراكش تنتهي باغتيال الدكتور موشان يوم 19 مارس 1907،
تتطاير البرقيات بالخبر من مراكش إلى الرباط، إلى فاس، إلى طنجة، ثم إلى باريس، ويجتمع المستشارون ويبلغوا الأمر بعد تدارسه إلى رئيس الدولة الفرنسية، الذي يوقف كل برامجه ويدعو مجلس الوزراء إلى الاجتماع.
وتحريا لكل قرار سيصدر، يتم استنفار القوات العسكرية في فرنسا وفي الجزائر، ويجتمع مجلس الوزراء، ليعلن قرارا في منتهى الخطورة هذا موجزه: ((قتل فرنسي في مراكش احتلوا وجدة)).
لو قارنا ظروف 19 مارس 1907 بظروف أي يوم من مارس سنة 1984.. لكان بالإمكان قطع المراحل الواردة في الفقرة السابقة بمنتهى السرعة في ظرف شهر، نتيجة لتوفر وسائل الاتصال الهاتفي ولتواجد القوات الضاربة من مختلف الجنسيات في عرض كل شاطئ.
ولكن، لو وضعنا الأحداث في موضعها الأصلي وحددناها في مارس 1907، حيث لا تلكس، ولا طائرات “جامبو”، ولا أي مظهر من مظاهر السرعة.. لوجدنا أن نفس الخطوات كان لا بد لها من ستة أشهر.
أما إذا سارت الأمور سنة 1907 بأسرع مما كان يجب أن تسير عليه وأسرع حتى من سنة 1984، عصر السرعة، فإن الأمر – ولا شك – إنما سيكون مجرد تنفيذ لمخطط كان محضرا من قبل، وكان لا بد للشروع فيه من إسقاط رأس مواطن فرنسي، فيتم إسقاط رأس الدكتور موشان.
ولنراجع التواريخ:
– في 19 مارس 1907، قتل الدكتور موشان في مراكش؛
– في 23 مارس 1907 (ثلاثة أيام)، اجتمع مجلس الوزراء الفرنسي في باريس وأصدر أمرا باحتلال وجدة انتقاما من اغتيال موشان؛
– وفي 29 مارس (ستة أيام)، دخلت ثلاثة فيالق وكتيبتان من المدفعية في الساعة العاشرة صباحا إلى مدينة وجدة ورفعت عليها العلم الفرنسي دون أن تطلق رصاصة واحدة.
وقد صدر عن حكومة فرنسا بلاغ في أعقاب اجتماع مجلس الوزراء يقول: ((بعدما اتضح رفض المخزن لتنفيذ اتفاقيات 1901 و1902 مع حكومة الجمهورية الفرنسية، والاستجابة لطلباتها بحفظ النظام وتعويض الخسائر التي طالبت بها الحكومة الفرنسية في أعقاب استغلال السلطة، والجرائم المرتكبة ضد الفرنسيين في التراب المغربي، أصدرت الحكومة الفرنسية أوامرها كرد فعل، باحتلال مدينة وجدة)).
ولم يكن احتلال وجدة في حد ذاته هدفا، وإنما مرحلة لخطوات أوسع.. إنما إذا كان المفروض أن يهب الشعب المغربي لاستنكار احتلال وجدة، باب المغرب الشرقي، وربما خلق وحدة وطنية شاملة حول وجدة، فإن الهدف المستعجل للاستعمار الفرنسي كان هو جعل احتلال وجدة وسيلة لتفرقة الرأي العام وتشتيت الوحدة الوطنية، إذن، فالأمر يتعلق بصراع مع الزمن وسباق مع الأحداث.
لذلك، بدأ الحاكم العسكري الفرنسي، الذي عين على رأس الاحتلال بوجدة، في ربط الاتصالات مع كل الأطراف، ومثلما اتصل بعامل السلطان الذي كان لا يتوقف عن قراءة اللطيف، وترديد “هذا ما كتب الله”، ربط الحاكم العسكري الفرنسي علاقاته مع رجال بوحمارة المحيطين بوجدة، وكان ذلك بمثابة اعتراف بهم، بل إنهم أحضروا للمدينة ابن بوعمامة الجزائري، الذي كان يعمل لتسهيل مهمة احتلال الفرنسيين لتوات، وأحاطوه بكبير الإجلال والتقدير. هذا على المستوى المحلي، أما في باقي الأقاليم، فقد كان المخطط الاستعماري أكثر دهاء ومكرا..
ففي الشمال، استدعى الوزير الفرنسي المفوض بطنجة، مندوب السلطان وقدم له لائحة بالشكايات التي رفعتها فرنسا إلى السلطان وبقيت بدون جواب، ثم قدم له إنذارا باحتلال مناطق أخرى إذا لم يسارع السلطان إلى إرضاء المطالب التالية:
– أولا: دفع تعويض لعائلة الدكتور موشان؛
– ثانيا: إعدام القتلة؛
– ثالثا: طرد عامل مراكش وسجنه.
وما دام الفرنسيون قد احتلوا وجدة كأمر واقع، فماذا كان يمنعهم من الاستمرار في احتلال مناطق أخرى إذا لم تلب مطالبهم؟ وماذا يقول الميت أمام غساله؟ ومن أين يستمد السلطان قوة تواجه فرنسا؟ ومن أين له الدعم؟ وهذه فرنسا قد قيدت أيدي الدولة القوية، وأتمت بنجاح مخططها في إفساد المغرب، وتشتيت الوحدة الوطنية، وإفقار الحكومة، وتأليب الرأي العام ضد السلطان، ودعم بوحمارة، وطرد الإنجليز، وترك اليد للألمان مطلوقة في الجنوب..
وكانت شروط الوزير المفوض الفرنسي في طنجة عبارة عن قنبلة انفجرت في مراكش.. فقد كان السلطان مضطرا لعزل عامل مراكش واستغلها فرصة مواتية لتعيين عامل جديد هو الحاج بن الغازي الطنجاوي، الذي كلف من طرف السلطان بالتجسس في مراكش على المولى عبد الحفيظ، كما سمح المولى عبد العزيز للفرنسيين ببعث لجنة للبحث في قضية اغتيال موشان يترأسها القنصل الفرنسي بالصويرة.
وهكذا استجاب المولى عبد العزيز للتهديديات الفرنسية دون أن يمنعه هذا من الاحتجاج على احتلال وجدة.
لكن شروط الفرنسيين لم يكن القصد منها إلا تعجيز السلطان الذي كان غير قادر على تلبية مطالبهم، إذ أن مراكش كانت خارجة عن نفوذه، وبذلك يجدون الفرصة مواتية لاحتلال مناطق أخرى.
ولم يخطئ الفرنسيون في تخميناتهم.. فعندما نزل العامل الجديد لمراكش بن الغازي من الباخرة التي أقلته من طنجة إلى أسفي، نصحه رجاله بالبقاء في أسفي، فإن قبائل الحوز، والرحامنة، وزمران، أحاطت بمراكش رافضة تغيير العامل القديم.
وقالت فرنسا بأنه يجب إذن تنفيذ مقررات مؤتمر الجزيرة، بإرسال الشرطة الدولية لفرض النظام تحت قيادة مدير عام للأمن الوطني سويسري الجنسية، بينما فتحت شركة “لاكومباني ماروكان” مكاتبها في الدار البيضاء تحت حماية البوليس الدولي، وبدأت في بناء مرسى الدار البيضاء.