المنبر الحر | دوامة النسيان العربي تبتلع ذكرى وفاة رائد العقلانية
على هامش ذكرى وفاة أركون
بقلم: بنعيسى يوسفي
مرت الذكرى الرابعة عشر لوفاة المفكر العربي الكبير الدكتور محمد أركون (10 شتنبر 2024)، رائد العقلانية العربية، في صمت رهيب، دون أن يلتفت إليها أحد، ولم أصادف برنامجا ثقافيا تحدث عن هذه الذكرى، ولا حتى مقالا للذاكرة تطوع فيه صاحبه وأعاد هذا المفكر الفذ إلى دائرة الأضواء، لكن هذا للأسف لم يحصل، وهذا ليس غريبا عن قنواتنا الإعلامية العربية التي تمجد الرداءة وتخصص لها حيزا زمنيا كبيرا على حساب البرامج الثقافية والفكرية الهادفة والمنيرة للعقول، ونفس الشيء يكاد ينطبق على المثقفين أنفسهم، الذين بمجرد ما يغيب نجم أحد الكتاب والمفكرين من بني جلدتهم إلى غير رجعة، فورا يطويه النسيان، ولم يعد يتذكرونه ولو بمقال للاعتراف أو لرد الجميل، وهو الذي يكون قد تتلمذ على يديه الكثيرون، وأطرهم حتى حصلوا على شواهد عالية، وهو أيضا الذي كان صوته تصدح به مدرجات الكليات والمعاهد وقاعات الندوات في محافل فكرية وثقافية وحتى علمية، محلية وعالمية، وكان يقيم الدنيا ولا يقعدها في حوارات صاخبة في قنوات ذات صيت وشهرة عالميتين، ولا زال أرشيفها يحتفظ بكل ذلك، فالقنوات الإعلامية أو مختلف الوسائل المكتوبة، أو حتى مختلف الوسائل أو المواقع الإلكترونية التي لا تخلد ذكرى وفاة المفكرين العظام، بل قد أجازف وأقول أنها لا تهتم بهم حتى وهم أحياء، فهي بالتأكيد غارقة في أشياء أخرى ربما تدر عليها عائدات كبيرة، قد لا يدرها عليها الاهتمام بما هو ثقافي تنويري، وهذا بدون شك يندرج ضمن مخطط التجهيل والتنميط، والتسطيح أو ما بات يطلق عليه “الثقافة المائعة”، التي تريد جهات معينة تكريسها في المجتمعات العربية عامة.
ولأن المفكر محمد أركون هرم فكري عربي كبير، فليس من السهولة أن يطويه النسيان، ولما هو كذلك، لا بد أن نبعثه من جديد من رماده، ونسلط شيئا من الأضواء على فكر هذا الرجل الغني والزاخر، رغم أنه ليس من باب البساطة واليسر أن يخوض المرء في المسار الفكري لهذا المفكر، وأن يقف على أعتاب كل محطاته بتفاصيلها وملابساتها، فالحقول المعرفية التي صال وجال فيها، والمتمثلة في هذا الثالوث: “الفكر – الفلسفة – التاريخ”، كل واحد منها يستحق وقفة خاصة، ومن الصعوبة بمكان الإحاطة بها في مقال كهذا، ولهذا سنركز وباقتضاب شديد، على بعض الأسس التي ينبني عليها المشروع الفكري للرجل، وما يميزه عن باقي المفكرين الآخرين من مجايليه.
إن النقطة المركزية التي ينطلق منها المشروع الفكري للراحل أركون، هي السؤال المحوري التالي: كيف نقرأ التراث الإسلامي قراءة عقلانية؟ وكيف يمكن أن نؤسس لعلاقة جديدة معه؟ وكيف ننتقل بالعقل الإسلامي من “اللاهوت إلى العقل الحداثي”؟ صحيح أن محمد أركون لم يكن من السباقين إلى هذه الدعوة، فمن المؤكد أنه سبقه إلى ذلك الكثير من المفكرين والباحثين، لكن الفرق بينهم وبينه يكمن في كون أركون كان يدعو إلى ذلك وفق منظومة فكرية مختلفة تستمد نسغها ومقوماتها من طرق ومناهج خارجة عن المألوف، وعلى كل ما تعود عليه القارئ العربي طوال عقود خلت، وبشكل خاص مناهج العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا والتاريخ وغيرهما، واللذان لطالما دعا إلى العودة إليهما وتوظيفهما في دراسة جملة من القضايا والظواهر، كـ”الظاهرة الدينية” بشكل خاص، ولا شك أن الاشتغال في إطار هذه المنظومة، يقتضي التسلح بعُدة مفاهيمية لا يستطيع الجميع أن يمتلك ناصيتها، وكما لا يخفى، فلم تكن لتمر كل هذه المنطلقات والمبادئ التي ينهض عليها مشروع الرجل دون أن تحدث ارتدادات أو أن تثير نقاشات وجدالات حادة، ليس بين من ينتمي إلى نفس التوجه الفكري للرجل، بل بينه وبين التيار المحافظ في المجتمعات العربية، الذي تمثله القوى الدينية بالخصوص، ولم يسلم من خلالها الراحل من سهام النقد الحادة التي وجهت إليه، وهذا ما جعله دائم الاصطدام مع الكثير منهم، وخاصة مع العالم الكبير يوسف القرضاوي غير ما مرة..
وحول كيفية نقل العقل الإسلامي من اللاهوت إلى العقل الحداثي، فإن أركون يدعو في هذا السياق إلى استحضار واستلهام المنهج الكانطي ومشروعه ونقله لدراسة تاريخ الفكر الإسلامي، ولعل السؤال الأبرز الذي يطرحه في هذا الشأن، هو: هل هناك ممارسة للعلم في نطاق تاريخ الفكر الإسلامي؟ هل طرح هذا السؤال في فكرنا الإسلامي كما طرحه الفيلسوف كانط بعد انتصار عقل الأنوار في أوروبا ؟
إن العقل في نظر أركون، لم يستطع حتى الآن أن يفرض هيمنته ويتجاوز النقل الديني والكلامي في الفكر العربي الإسلامي، فاستخدام العقل عنده يحيل على تجاوز السياق الفكري المغلق في التاريخ العربي الإسلامي، ويفرض نفسه آلية ضرورية في طرح الأسئلة حول المسلمات اللاهوتية دون أن تنفيها أو تفرضها أو تتركها جانبا، وإنما تدرسها دراسة علمية قائمة على الموضوعية والحياد الفكري والمسؤولية النقدية.
تلكم جملة من المنطلقات والمرتكزات التي ينبني عليها المشروع الفكري للراحل محمد أركون، وهي جزء يسير من بحر الأسس التي يعتمد عليها في دراساته وأبحاثه، والتي بواسطتها استطاع أن يحفر مجرى عميقا في الثقافة العربية المعاصرة، ووشم اسمه كواحد من جهابذة النقد التاريخي، وعلامة فارقة ومفصلية في سيرورة نقد التراث العربي الإسلامي، باعتباره مؤرخا كبيرا وفارسا من فرسان العقلانية والحداثة.
تصويب: محمد أركون ليس عربي…انه أمازيغي يكتب بالعربية والفرنسية والانكليزية…وهو من مواليد تاوريرت بولاية تيزي ووزو الأمازيغية