لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..
إعداد: سعيد الريحاني
كل مواطن من الدول الحالمة بالنمو والازدهار، والتي فرض عليها الخضوع لمنطق الدعاية الغربية.. لا بد أن يقف مندهشا لهذا النجاح الصيني في كل مجالات العلم والمعرفة، والأهم من ذلك، كيف نجحت هذه الدولة في التحول من دولة تقبع في التخلف إلى دولة تقود العالم بعد 75 سنة فقط (السرعة النهائية كانت في 40 سنة الأخيرة)، بنظام مختلف عن تلك الأنظمة التي فرضت علينا تقليدها والتشبه بها..
التعلم من الغرب ليس هو المشكل دائما، فالصين التي نراها اليوم على طرف نقيض من النظريات الغربية، اعتقدت لسنوات أن بإمكانها إنقاذ الأمة عن طريق التعلم من الغرب، لكن ما الذي حصل ؟
يقول الباحث الصيني، داي موتساي، من جيآن بمحافظة جيانغ شي، وهو أستاذ دكتور ودكتور معلم (انظروا لفخامة التعريف واحترام الصينيين لبعضهم البعض)، وهو يعمل حاليا باحثا ونائب رئيس معهد البحوث السياسية والفكرية لهيئة الدعاية الصينية، يقول: ((خاض الشعب الصيني معارك مقاومة شرسة منذ حركة “تايبينغ السماوية” وحركة “مائة يوم من الإصلاح”، مرورا بـ”انتفاضة الملاكمين”، لكنها فشلت جميعها الواحدة تلو الأخرى، وفي فترة زمنية طويلة جدا، توصلت العناصر المتقدمة في الصين إلى جواب يتمثل في “التعلم من الغرب والسير على نهج الرأسمالية”)).
ويضيف موتساي: ((إن الشعب الصيني في فترة تاريخية ماضية، كان متحمسا جدا وصادقا في تعلمه من الغرب، بيد أن جميع هذه الجهود تعرضت من خلال الممارسة إلى الرفض، وفشلت حركة التقوية الذاتية وتعرضت حركة “مائة يوم من الإصلاح” إلى الانكسار، وأجهضت ثورة “شينخاي”.. ورغم أن ثورة “شينخاي” التي قادها سون يات شين، قد أنهكت النظام الاستبدادي الذي حكم الصين على مدى آلاف السنين، ومثلت معنى كبيرا في تعزيز تقدم المجتمع الصيني، لكنها لم تستطع تغيير طبيعة المجتمع شبه الإقطاعي وشبه المستعمر ومصيره المؤلم)).. هكذا تحدث داي موتساي.
وتكمن قيمة الباحث المشار إليه سلفا، وهو صاحب العبارات المذكورة في الفقرة السابقة، في كونه متخصصا في بحث “القيم الجوهرية الاشتراكية” و”النظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، و”النظرية الشخصية الصحية”، و”نظرية الأخلاق السياسية”.. وهو نفسه شرح حكاية انتقال الصين من دولة تابعة للغرب إلى دولة تتبنى المبادئ الاشتراكية بالاعتماد على التاريخ، فيقول، في كتابه: “لماذا نجحت الصين عن طريق الاشتراكية؟”: ((بعد أن أعادت العناصر المتقدمة في الصين التفكير والتلخيص مليا، أدركوا أن الاقتصار على الآلات والنظام لا يكفي لحل مشكلة الفقر والتخلف في الصين وإنقاذ الأمة، فعزموا على خوض حركة تنوير فكرية، ودعوا إلى الديمقراطية والعلم، وانتقدوا عقيدة الحكم الإقطاعي، وذلك من أجل إزالة العراقيل الفكرية أمام تأسيس دولة حديثة بورجوازية والسير على النهج الرأسمالي للاستقلال والتنمية.. وفيما بعد سميت هذه الحركة “حركة الثقافة الجديدة”)).
إن “الحركة الثقافية الجديدة” كانت حيوية ونابضة ومتقدمة وثورية، وقد لعبت من الناحية الواقعية دورا تنويريا فيما يتعلق بضرب هيمنة الحكم الإقطاعي على الحياة السياسية والمجتمعية في الصين، كما لعبت دورا في رفع صوت ديمقراطية الطبقة البورجوازية، وفي نفس الوقت، وعندما كانت “الحركة الثقافية الجديدة” وقتها تطلق موجة تحرير فكري في الصين، ظهرت إلى العلن حركة اجتماعية وفكر اجتماعي جديد هو “الحركة الاشتراكية التي تقودها الماركسية”، وفي هذه الفترة الزمنية ظهرت إلى العلن سلبيات الرأسمالية بشكل أكبر، وأصبحت تثير التفكير العميق بشكل أكبر، وأصبحت العناصر المتقدمة في الصين تتبنى مواقف متحفظة على السياسة الديمقراطية للطبقة البرجوازية والفكر الثقافي، أما بالنسبة للاشتراكية، فقد أصبحوا على اطلاع أكبر بها ويتبنون بشكل أكبر مواقفها ويقبلون بها، فما هي الأسباب التي جعلت العناصر المتقدمة في الصين تشكك بصورة متزايدة في الرأسمالية، وتتبنى مواقف متحفظة منها؟ إن تلك الأسباب هي (حسب الكاتب داي موتساي):
((- أولا: في عهد الإمبريالية، كانت التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي قد ظهرت بشكل واضح على السطح.
– ثانيا: شكل اندلاع الحرب العالمية الثانية كوارث جمة على شعوب العالم، فقد أظهرت تلك الحرب، بأسلوب صارخ لم يسبق له مثيل، أن النظام الرأسمالي يعاني من تناقضات لا يمكن التغلب عليها.
إن الحرب العالمية الأولى هي حرب شرسة غير عادلة، إمبريالية ذات طبيعة مهيمنة، ورغم الحالات القليلة التي تحررت فيها بعض الأمم وطبيعة الدفاع عن النفس العادلة، فإن معظم مكونات تلك الحرب غير عادلة.. وكان السبب الرئيسي لاندلاع تلك الحرب، هو عدم التوازن في التنمية الاقتصادية للدول الإمبريالية. وقد استمرت الحرب العالمية الأولى أربع سنوات وثلاثة أشهر، شاركت فيها أزيد من 30 دولة بتعداد سكاني بلغ قرابة 1.5 مليار نسمة، أي ما يعادل 67 في المائة من سكان العالم.. وشكلت هذه الحرب خسارة كبيرة للبشرية والإنسانية، ونتج عنها خراب ضخم، وبحساب الخسائر بالدولار وقتها، نجد أن الخسائر الاقتصادية المباشرة للدول المتحاربة، بلغت 180.5 مليار دولار، وهناك من قدر أن المستوى الصناعي الأوروبي تراجع بنحو 8 أعوام إلى الوراء بسبب تلك الحرب..
وفي نفس الوقت، وخلال فترة الحرب العالمية الأولى، شهدت روسيا اندلاع الثورة البروليتارية، وجعلت العالم يشهد أول دولة اشتراكية، وهي الجمهورية الروسية السوفياتية الاتحادية الاشتراكية، والتي أعلنت انسحابها من الحرب العالمية الأولى.. إن نجاح الثورة السوفياتية الاشتراكية شكل ضربة قوية للنظام الإمبريالي، ودفع تطور الحركة الاشتراكية العالمية إلى الأمام، وشجع الشعوب المستعمرة على الكفاح والتحرر، وكان يرمز إلى بداية التاريخ العالمي الجديد، ومنذ ذلك الوقت، انتشرت الشيوعية في العالم.
وفي تلك الفترة، شاركت حكومة بييانغ الصينية، كطرف بين الدول المتعاهدة، وفي 14 مارس 1917، قطعت علاقاتها مع ألمانيا، وفي 14 أكتوبر أعلنت الحرب ضد ألمانيا والنمسا، وبعد انتهاء الحرب، وبوصف الصين إحدى الدول المنتصرة فيها، رفضت مطالبها العادلة، التي طرحتها في مؤتمر باريس للسلام، وهو ما أشعل فتيل حركة “4 مايو” الوطنية، وبعد ذلك، سقطت حكومة وزعامة بييانغ لأنها فقدت الحاضنة الشعبية، وهو ما جعل النظريات الماركسية تنتشر على نطاق واسع في الصين، وعززت ميلاد وتطور الحزب الشيوعي الصيني.
– ثالثا: إن حقيقة فشل الصين في التعلم من الرأسمالية، جعلت العناصر المتقدمة في الصين تشكك في إمكانية نجاح النهج الرأسمالي.. فقد أصبح جليا أن وضع الدولة أصبح يزداد سوء يوما بعد آخر، وأصبح من الصعب العيش في تلك البيئة. ونظرا إلى الشكوك الكبيرة في نجاعة النهج الرأسمالي في الصين، بدأت العناصر المتقدمة بالصين في البحث عن طريق آخر ونهج جديد لإنقاذ الأمة الصينية والوطن، ومن ثم تقبلوا النهج الاشتراكي والفكر الماركسي، وأصبحت الأرضية مواتية لهذا الفكر)) (المصدر: كتاب “لماذا نجحت الصين عن طريق الاشتراكية؟”/ الباحث داي موتساي).
قبول الصينيين وإقبالهم على النظام الاشتراكي الشيوعي الذي يقوم على النهل من مؤلفات كارل ماركس، ورفيقه فريدريك إنجلز(..)، و”السير على نهج” القائد الروسي لينين فلاديمير أولييتش أوليانوف، في إطار “الماركسية اللينينية” الاشتراكية، الشيوعية.. لم يكن “إقبالا أعمى”، فالاشتراكية على الطريقة الصينية لا تقدس الأشخاص، لا تقدس لينين، ولا تقدس ماركس، رغم الاعتراف الكبير بأفضالهم، بل إن لهم نهجهم الخاص الذي يقوم على “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، وهي الفلسفة التي تم تطويرها وصقلها على مدى سنوات، منذ اعتماد ما سمي “سياسة الإصلاح والانفتاح”، التي أطلقها القائد الصيني الكبير دينغ شياو بينغ، ويمكن القول إن “منقذ الصينيين” هو هذا الرجل العائد من الموت أكثر من مرة، بعد معايشته للعهد الإمبراطوري، وما تبعه من سنوات سوداء، ونجاته من زمن “التصفية الثقافية”، وبعدها كتب له عمر آخر، بعد رحيل “رفيقه” ماو تسي تونغ، مؤسس الصين الجديدة.. فدينغ شياو بينغ هو الذي وضع الأساس الأول لنجاح الصين، وهو الذي دفع الشعب إلى “رفع القداسة عن الأشخاص”، وبالتالي تحرير العقول.