للنقاش | من يحكم ليبيا في غياب القوة الملزمة ؟
وصلت الأحداث التي تشهدها ليبيا منذ اندلاع أحداث الربيع العربي سنة 2011 مرورا بأهم مرحلة في الأزمة والتي تمثلت في لجوء أطراف الصراع إلى الوساطة من أجل إرساء سلطة شرعية للبلاد، والتي كانت نتائج الحوار الذي قاده المغرب في الصخيرات من أهم المخرجات التي أرست قواعد السلطة في ليبيا بعد مرحلة العقيد معمر القذافي.. (وصلت) لمرحلة أكثر تعقيدا عنوانها “صراع القوة”، من جهة بين حكومة الوحدة الوطنية والميليشيات المتمركزة في العاصمة طرابلس، ومن جهة ثانية تواصل إحكام خليفة حفتر قبضته على الشرق الليبي وتسرب جيوشه نحو الحدود مع مصر ومع الجزائر..
إن المشهد الأمني الذي يطبع الأوضاع في ليبيا يؤشر على تصاعد التوتر والصراعات بين حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة والميليشيات المسلحة، خاصة في العاصمة، مما ساهم في تعقيد الأزمة بين الفرقاء الليبيين إن لم تنجح السلطات في وضع حد للميليشيات المتمردة بناء على اتفاق سابق يقضي بخروجها من طرابلس، حيث ترفض الميليشيات ترك السلاح والخروج من طرابلس، وفي تصريح سابق لوزير الداخلية عماد الطرابلسي، لوسائل إعلام، قال: “إن الميليشيات الموجودة في العاصمة تتحالف مع أطراف أجنبية، والجميع يستمد قوته منها”، وأضاف أنه “في غياب هيبة القانون والسلطة الشرعية الموحدة، فإن الكل يرى الحقيقة من زاويته، ويفعل ما يناسبه ليحقق مصلحته”..
فمن خلال هذا التصريح، يتبين حجم الصدام بين القوى الحاكمة في ليبيا ويتأكد حجم التشرذم السياسي الذي تعيشه ليبيا بعد ثورة الربيع العربي، فلم يستطع الفرقاء الليبيون إلى حد الآن إيجاد صيغة للاستقرار السياسي.
ولا يمكن الحديث عن الأزمة الليبية الأخيرة دون الحديث عن أزمة المصرف المركزي، التي نشبت على إثر إعفاء محافظ البنك المركزي بطرابلس، من طرف المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، وسط رفض من مجلس النواب، وهو الإقرار الذي قوبل بالاعتراض من طرف مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه، مبررا اعتراضه بأن “تعيين محافظ البنك المركزي ليس من اختصاص المجلس الرئاسي، بل هو اختصاص أصيل لمجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة وفق الاتفاق السياسي الليبي الموقع بمدينة الصخيرات المغربية عام 2015″، وعقب ذلك، فرضت حالة “القوة القاهرة” على قطاع النفط وتوقيف الإنتاج من قبل مجلس النواب، ومعلوم ما يشكله قطاع البترول والغاز من أهمية في تحريك عجلة كل القطاعات، بينما لا يعرف مصير الدولة ككل في الوقت الذي يتبادل فيه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الزيارات مع الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وعقد لقاءات لتكوين اتحاد مغاربي دون المغرب، ومشاركة الجزائر في احتفالات الثورة..
إن ما يقع في ليبيا منذ سنة 2011 إلى اليوم، يرسخ لدى المتتبعين والمهتمين بالشأن الليبي مدى الهشاشة السياسية التي تعيش على وقعها ليبيا، أو بالأحرى حكام ليبيا، اعتبارا لوجود أكثر من طرف يحكم البلد، وفي ظل استمرار “تدخل قوى أجنبية ووضعها اليد على مصير ليبيا”، وفق تعبير سياسيين ونشطاء ليبيين على السواء، ومؤخرا استغلت تركيا تقاربها مع مصر لبداية مناقشات بين الطرفين المتصارعين على السلطة، من أجل إيجاد حل للأزمة الليبية، حيث انطلقت تركيا من خلال محادثات أجرتها مع خليفة حفتر، الذي يوجد على خلاف ونزاع كبير مع حكومة طرابلس المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والتي يديرها رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، حول من يجب أن يدير البنك المركزي الذي يسيطر فعليا على ثروة البلاد النفطية، رغم أن حفتر لا يؤمن إلا بالعقيدة العسكرية وهو الذي لا زالت قواته مستمرة في الزحف على عدة مناطق، آخرها كانت في اتجاه الحدود مع الجزائر.
ففي الوقت الذي عمل فيه الفرقاء الليبيون على إرساء نظام الحكم انطلاقا من مخرجات الحوار واجتماعات الصخيرات، ولقاءات أخرى، كان اللواء المتقاعد خليفة حفتر يؤسس لدولته في شرق وجنوب ليبيا، بعدما أدخل أبناءه إلى جانبه وأعطاهم مناصب عسكرية كبيرة، مما ساعده في إحكام قبضته على مساحات كبيرة من ليبيا، وهو الذي يتلقى الدعم من مصر وروسيا وفق تقارير لـ”فرانس بريس”.
وحسب محللين سياسيين، فإن تدخل جهات أجنبية هو ما ساهم في تفاقم الوضع في ليبيا، وفي عدم قدرة الأطراف على إيجاد صيغة للحكم تجنب البلاد حالة التمزق التي تعيشها، تزيدها القرارات التي يمكن وصفها بالارتجالية، والتي لا يمكن إلا أن تساهم في تأجيج الأوضاع، ذلك أن آخر ما جادت به قريحة صناع القرار في ليبيا، أن قرر وزير داخلية حكومة الوحدة الوطنية، عماد الطرابلسي، عودة ما يسمونه “شرطة الآداب”، وقال في مؤتمر صحفي مؤخرا: “إن دوريات شرطة الآداب ستعود للعمل الشهر المقبل، وستمنع تسريحات الشعر الغريبة وملابس الشباب والنساء التي لا تتماشى مع ثقافة المجتمع الليبي”، وأمر بـ”فرض الحجاب على النساء وإلزامهن ارتداء ملابس محتشمة”، وأكد أنه “سيمنع سفر المرأة الليبية من دون محرم إلا في حالات استثنائية سيتم التدقيق فيها”، موضحا بالقول: “من يبحث عن الحرية الشخصية عليه أن يذهب إلى أوروبا”، فهل بهكذا قرارات تحل الأزمة التي تضرب البلد منذ سنة 2011؟ وهل كل الأمور تمت تسويتها ولم يبق سوى فرض الحجاب على النساء وإصدار قرارات بالسجن في حق المخالفات؟ منتهى العشوائية في التسيير، وهذه ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها ليبيا هذا القرار، فقد سبق أن اتخذت قرارا مماثلا سنة 2023 يقضي بمنع النساء من السفر إلى الخارج مع مرافق ذكر وتعبئة نموذج مفصل يحدد أسباب سفرهن.
ملامح اللااستقرار السياسي ترسم ملامح دولتين في ليبيا في المستقبل، هذا ما يتضح من خلال التوجه الذي تسير به الأمور، المجلس الرئاسي في طرابلس، وحفتر يؤسس لـ”دولته” في انتظار إرساء شرعيتها، من خلال قيامه بترسيم الجيش والأمن، خاص به، وتنصيب أولاده في إدارة المناطق العسكرية، ومن ثم الاستحواذ على المزيد من المناطق وجمع القبائل والعشائر، بينما يوجد المنفي في حالة شرود سياسي، عندما اختار الاصطفاف إلى جانب الجزائر، التي منذ مدة والرئيس تبون يجره إلى جانبه هو والرئيس التونسي قيس سعيد، وأخذ الصور مع رئيس جبهة البوليساريو في الجزائر في احتفالات الفاتح نونبر، ويتباحث مع الرئيس الجزائري والرئيس التونسي حول سبل ودعائم إرساء اتحاد مغاربي ثلاثي(…)، بينما يجب أن يبحث عن الاتحاد والالتئام بين مكونات الحكومة الليبية من أجل بناء دولة قوية بسياستها واقتصادها ومجتمعها..
وتشتكي فعاليات سياسية وحقوقية ليبية، من كثرة التدخلات الأجنبية في حل الأزمة ببلادهم، ذلك أن ليبيا تتنازعها مصالح النفط بين القوى الكبرى والأسواق المستفيدة من هذا الانقسام والتشرذم، مما ساهم بشكل كبير – ولا زال – في جعل ليبيا سوقا مفتوحة للهجرة غير الشرعية والمخدرات وبيع السلاح بطرق غير قانونية، وهو ما جعل لغة السلاح تغلب على لغة الحوار لتسوية الوضع، فلا الحوارات والاجتماعات الإقليمية استطاعت إرساء نظام ديمقراطي للحكم، ولا البعثة الأممية تمكنت من فرض الهدوء، والتي بدأت مهمتها في شهر شتنبر 2011 بقرار من مجلس الأمن رقم 2009 بناء على طلب من السلطات الليبية في أعقاب الفوضى التي شهدتها البلاد عقب اغتيال معمر القذافي، غير أن أيا من المبعوثين الأميين يستطيعون إكمال مهمتهم، بفعل عدم نضج الحوار بين الفرقاء الليبيين من جهة، ومن جهة أخرى، استمرار التطاحن العسكري بين القوات النظامية والميليشيات المسلحة، ومؤخرا صوت مجلس الأمن الدولي (يوم 31 أكتوبر 2024) بالإجماع على تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالقرار رقم 2755، والتي انتهت في ذات اليوم، لمدة ثلاثة أشهر، ودعا السياسيين الليبيين إلى حل المسائل الخلافية التي تتعلق بالانتخابات في أقرب وقت، كما سبق لمجلس الأمن الدولي أن قرر يوم 30 أكتوبر 2023 التمديد لبعثة “أونسميل” (UNSMIL) إلى 31 أكتوبر 2024 بالقرار رقم 2702، وللإشارة، فمنصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لدى ليبيا لا يزال شاغرا منذ تقديم المبعوث السنغالي عبد الله باتيلي استقالته في 16 أبريل الماضي.
ويجدر بنا التذكير بأن ليبيا اليوم مدينة للمغرب باتفاق الصخيرات الذي وقع سنة 2015 بين طرفي النزاع.. وإلا لكانت البلاد في وضعية أسوأ مما هي عليه، وهو الاتفاق الذي أكد القرار الأممي الجديد (رقم 2755) شرعيته، معتبرا إياه “خارطة الطريق التي أقرها ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف عام 2021، وكذلك القوانين الانتخابية المحدثة للجنة المشتركة 6+6″، حيث خلصت اجتماعات الصخيرات إلى الاتفاق على “تشكيل مجلس رئاسي يقود حكومة الوفاق، إضافة إلى التمديد لمجلس النواب، وإنشاء مجلس أعلى للدولة”، غير أن ما يعيق الاستقرار السياسي في ليبيا، أن خليفة حفتر لا زال يسعى إلى تعطيل الاتفاق، كما أن اجتماعات اللجنة “6+6” المشتركة بين مجلسي النواب والدولة الليبيين، كانت قد أسفرت عقب مباحثات في مدينة بوزنيقة بتاريخ 6 يونيو 2023، عن القوانين المنظمة للانتخابات المنتظرة، إلا أن المجلس الأعلى للدولة رفض الاعتراف بنتائجها مبررا بأن تعديلا تم على تلك القوانين دون موافقته.
وهكذا.. لا زال الوضع في ليبيا يتخبط في عدم الاستقرار وتغلب عليه لغة السلاح والمصالح، والبلد تقوده حكومتان واحدة في الغرب والأخرى في الشرق.. فهل يساهم الانقسام السياسي إلى تكوين دولتين في ليبيا ؟