الحقيقة الضائعة | الفاسي وذكاء المولى عبد الحفيظ في مواجهة المولى عبد العزيز
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 99"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
إن الفرنسيين الذين لم يجرؤ المولى عبد العزيز على ذكر اسمهم وإنما اكتفى بالإشارة إلى الجزائريين، بينما لم يكن آنذاك جزائريون حيث كانت فرنسا هي صاحبة الأمر والنهي في الجزائر.. فإنهم لم يبتلعوا قطعا هذا الهجوم وهذا التطاول، وهذا المسح الإجمالي للمشاكل في حكام الجزائر الذين هم أنفسهم.
وهذا ما يظهر من تعلق مارتن الذي نقل هذه الرسالة في كتابه وعقب عليها قائلا: ((إنها رسالة مكتوبة بتوجيه من السفير الألماني في فاس))، وأضاف ((لقد شاهدنا كيف اعترف المولى عبد العزيز بأن الحكومة الفرنسية كانت تزود جيوشه في وجدة بالعتاد والطعام)).
إن هذه الرسالة – كما ذكرت سابقا – لا شك وأنها جاءت بعد فوات الأوان، وربما لم تجد لها آذانا صاغية، ولكن المولى عبد العزيز رغم انتقاده للمناورات الفرنسية في الجزائر فإنه لم يتعرض مطلقا لقضية الاحتلال الفرنسي لثلاثة أقاليم هي: توات، وكورارة وتدكلت، ورثها المولى عبد العزيز من والده العظيم من جملة ما ورثه..
وهو إرث لم ينسه المغاربة، ورسالة قرر أخو المولى عبد العزيز، أمير الجهاد المولى عبد الحفيظ، حملها والدعوة إليها.. وهكذا تكالبت الظروف كلها ضد المولى عبد العزيز، الذي لم يشر في رسالته إلى حركة أخيه المولى عبد الحفيظ، ولم ينتقده، ذلك أن المولى عبد العزيز كان قبل تحرير رسالته هاته، قد وضع مخططا سريا لاعتقال أخيه المولى عبد الحفيظ، فقد شكل قوة ضارية على طريقة الكومندو مكونة من خيرة ضباطه وهم:
– قايد الرحى: محمد الصنهاجي
– العربي السوسي
– عبد السلام البخاري
– بوزلافة الأوديي
– قدور البخاري.
وكلفهم بالتوجه عند المولى عبد الحفيظ في مهمة ذات وجهين، رسميا يتوجهون عنده حاملين رسالة من أخيه طالبا منه أن يتوسط بين القايد المتوكي الذي خلعت منه عدة قبائل، والقائد الكندافي الذي أضيفت إليه تلك القبائل، أما الوجه الثاني للمهمة، فهو الأهم، وهو اعتقال المولى عبد الحفيظ، وكان الكومندو سيجد الدعم والسند في مهمته من طرف مجموعة من القواد الأوفياء لمولاي عبد العزيز وهم:
– القايد الدكالي ولد الضاوية
– القايد الطيب الكندافي
– القايد عيسى العبدي
ووصل الضباط المكلفون بمهمة عند القايد ولد الضاوية، الذي سلموه رسالة من مولاي عبد العزيز تتضمن أسرار العملية.
وقد استقبلهم ولد الضاوية بحفاوة وألح عليهم أن يبيتوا عنده، حاصلا بذلك على الوقت الكافي ليبعث رسالة المولى عبد العزيز إلى المولى عبد الحفيظ بمراكش، ذلك أن كل عمال الجنوب كانوا أوفياء مخلصين لمن كانوا يسمونه أمير الجهاد مولاي حفيظ.. وهكذا وصلت رسالة المولى عبد العزيز بين يدي أخيه قبل وصول حملتها.
ولقد كان مولاي عبد الحفيظ من الدهاء والحنكة والخبرة لدرجة كانت إحدى العوامل التي عجلت بعزل المولى عبد العزيز.
ولنرى كيف تصرف مع مجموعة الضباط الذين جاؤوا لاعتقاله.. لقد انتظرهم حتى وصلوا إلى مراكش، حيث بعث من يرحب بهم ويسكنهم في بيت الضيافة معززين مكرمين.
وفي اليوم التالي، أرسل إليهم واحدا من الخبراء في الجاسوسية والدهاء، وهو السيد عباس الفاسي، ليستطلع أمرهم ويسألهم عن مهمتهم، ورغم أنهم ألحوا عليه في أن يسلموا الرسالة لمولاي عبد الحفيظ بأنفسهم، فإن الفاسي كان أذكى منهم، إذ أقنعهم بتسليمه الرسالة قبل أن يقابلوا المولى عبد الحفيظ.
وفي الصباح، عاد الفاسي عند الضباط المبعوثين ليخبرهم بأن المولى عبد الحفيظ قام بالواجب، وأن عليهم أن يرافقوه عند القائد بن المتوكي والكندافي المتصالحين وفق رغبة السلطان، ولشد ما كانت دهشتهم عندما وصلوا إلى مزوضة، حيث حضروا صلح القائدين المتنازعين وعادوا إلى مراكش حيث كانوا محط إجلال واحترام قبل أن يعودوا إلى فاس محملين برسالة من المولى عبد الحفيظ للمولى عبد العزيز.
وبالإضافة إلى الرسالة، قال لهم العباس الفاسي، أنه بمناسبة عيد الأضحى فإن مولاي عبد الحفيظ يحملكم هديته للمولى عبد العزيز، وهي عبارة عن عشرين ألف ريال وخمسة خيول وعشرة بغال، مع كبير المودة والتعظيم للمولى عبد العزيز.
وهكذا فرض المولى عبد الحفيظ بدهائه على مجموعة الضباط الذين جاؤوا لاعتقاله، أن لا ينجحوا إلا في الطرف الأول من مهمتهم.
إلى هذا الحد، يظهر أن الخلاف بين الأخوين يتخذ طابع الخلاف الشخصي، لكن – وكما ورد في الحلقات السابقة – فإن المغرب كان قد أصبح مرتعا للصراع بين فرنسا وألمانيا، وكان كل ما يجري من أحداث إنما هو مسخر لتطوير وضعية، أو تسجيل إصابة سياسية.
وسنرى في السطور التالية كيف يمكن لصراع سياسي مقنع أن يتطور إلى أحداث جادة، لا تذهب فقط بالأرواح، وإنما تكون مبررا لاحتلال دولة لدولة أخرى، بينما تقدم السطور التالية البرهان القاطع على أن الرجال لم يكونوا بالنسبة للأحداث أي شيء يذكر.
الصراع الفرنسي – الألماني في مراكش
كان الألمانيون بمقتضى ما يقدمونه من دعم لحركة المولى عبد الحفيظ في مراكش، يزاولون نشاطا اقتصاديا ضخما في هذه المدينة، وفي جنوب المغرب بواسطة المؤسسة الاقتصادية “مانزمان”، وكان الفرنسيون يتقطعون غيظا لهذا النشاط، ولكن ظروفهم الاستعمارية التي لم تكن قد مكنتهم بعد من الكشف عن أوراقهم، أرغمتهم على أن يحجبوا أنشطتهم بأقنعة عدة، تارة باسم الهندسة وتارة باسم الطب، وتارة باسم التصوف، وكانت مهمة التجسس في مراكش على المولى عبد الحفيظ موكولة لطبيب يحارب الأمراض ويداوي الناس ويتحبب للقلوب يسمى الدكتور موشان.
وكان هذا الدكتور الفرنسي يمارس مهامه في ظروف صعبة، خصوصا – كما يقول المؤرخون الفرنسيون – في مدينة يتواجد بها عدد كبير من الصحراويين من جيوش ماء العينين.
وقد طلب الألمانيون عدة مرات من المولى عبد الحفيظ أن يطرد الدكتور موشان الذي يتجسس عليهم، فرفض.
وذات يوم من شهر مارس 1907، تمكنت يد خفية من تجميع عدد من الناس أمام بيت الدكتور الفرنسي موشان، وإذا بنفس اليد ترتفع إلى سطح البيت وتقول للناس انظروا لذلك العمود الحديدي المنصوب فوق السطح، إنه سلك اتصال مع النصارى ينقل إليهم عبر الهواء أخبارنا وأسرارنا.
كانت هذه الإشارة البسيطة كافية لتشعل غضبة الناس، “أنطين” اتصال مع النصارى في مراكش، وفي سنة 1907.. هذا منتهى الخرق للسيادة.
وكانت هذه الحجة كافية لأن يهجم المتظاهرون على بيت الدكتور موشان ويعتقلوه، ثم يقتلوه، ويسحلوه، ويتوجهون فيما بعد نحو ملاح اليهود المتهمين هم أيضا بالتعاون مع الفرنسيين، وتجري مجزرة رهيبة، ثم يخرجون بعد ذلك في اتجاه القنصلية البريطانية.. لولا أن وصلت جيوش المولى عبد الحفيظ التي تدخلت لإيقاف الهجمة الغضبانة.
وهكذا مات الدكتور موشان وارتاح الألمانيون.
لكن، ماذا جرى بعد اغتيال الدكتور موشان؟ هل ستتوجه فرنسا لاغتيال دكتور ألماني في مراكش؟ لا، لقد وجدتها فرنسا فرصة سانحة لافتداء دم الدكتور موشان، فأقدمت على قطع الخطوة الأولى في مخططها الاستعماري، الذي كان جاهزا ينتظر التنفيذ.