تحقيقات أسبوعية

نافذة على الصين | الحزب الشيوعي الصيني.. آلة سياسية عابرة للزمن

الحلقة 08

لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..

 

إعداد: سعيد الريحاني

تتمة المقال تحت الإعلان

 

    كانت السيدة واثقة من نفسها، ومن سؤالها، عندما تحدثت بصوت مرتفع إلى الأستاذ المخضرم، الذي كان يقف وقفة شاب في الثلاثينات رغم أنه بلغ الثمانين من عمره، وكانت تسأل: أليست المدرسة هي المسؤولة عن تعليم أبنائي تعاليم دينهم الحنيف؟ فنظر إليها الأستاذ نظرة الحكيم الواثق، ليجيبها بشكل قاطع: لا يا سيدتي، أنت المسؤولة (كان يقصد العائلة) عن تعليم الدين لابنك، أما المدرسة فمن واجبها أن تعلمه العلم، والقيم المجتمعية، وتدفعه للنجاح في المستقبل(..)، ورغم أن هذه السيدة لم تكن محافظة، ولا تبدو عليها علامات التدين، إلا أنها كانت تعتقد أن سؤالا من هذا النوع قد يحرج هذا الأستاذ الذي سنحت لي الفرصة للقائه في مدينة “بيجين” (بكين) الصينية، وقد كان سفيرا متقاعدا، ودبلوماسيا من العيار الثقيل، غير أن التقاعد في الصين لا يعني الانقطاع عن العطاء، ونبذ المجتمع، بل هو مجرد فسحة في العمر نحو عطاء من نوع آخر، ولا حدود لخدمة الوطن.. فالرجل ما زال محافظا على هندامه الرسمي، ولم تنقطع علاقته بالجامعة مطلقا، بل إنه يتحول إلى أستاذ للأساتذة في بعض الحالات..

ولم تكن هذه المرة الأولى التي وقفت فيها على أحد جوانب الشخصية الصينية، التي تجيد التعامل مع الأقليات، سواء كانت دينية أو عرقية.. فرغم أن الأستاذ المذكور ينتمي لقومية “الهان”، وهي القومية السائدة في الصين وتمثل أزيد من 94 في المائة من المجتمع الصيني، بينما تتكون النسبة الباقية من خليط قوميات منها “هان” و”مان” و”منغوليا “و”التبت” و”هوي”.. وهذه الأخيرة هي أقلية مسلمة، وعموما يتمتع المسلمون في الصين بحقوق لا مثيل لها في بلدان أخرى، فبوصفك مسلما صينيا، فهذا يعطيك امتيازات في العمل، منها إمكانية حصولك على تعويض خاص بالأكل الحلال، هذا إذا عجز المشغل عن توفيره، أما على المستوى الاجتماعي، فعندما كانت الصين تفرض قيودا مشددة على الإنجاب، لم يكن ذلك مفروضا على المسلمين، وكان بإمكانهم إنجاب عدد غير محدود من الأطفال.. ورغم غياب الصوامع في الصين، فإن المساجد وأماكن الصلاة ومطاعم الأكل الحلال منتشرة في كل مكان، على الأقل هنا في بكين، حيث كنت أزور هذه الأماكن بنفسي، بل إن شارع نيوجيه، ويسميه الزوار شارع البقر(..)، يكاد يشبه أحد الشوارع العربية من حيث انتشار الجزارين، والمشاوي، على الطريقة العربية الإسلامية، ورغم أن الصينيين لا يفضلون أكل العظام، وقطع اللحم الكبيرة، إلا أن هذا الشارع يشكل استثناء في طريقة عرض اللحوم وطريقة طهيها وتقديمها، والصينيون أنفسهم يحبون بعض الأصناف من هذا الأكل، وتراهم ينتظرون دورهم في طوابير طويلة…

تتمة المقال تحت الإعلان

التسامح الديني ليس مجرد تحصيل حاصل، بل إنه أحد المبادئ الصارمة التي يدافع عنها الحزب الشيوعي الصيني، الذي يقود البلاد انطلاقا من الرئيس شي جين بينغ إلى أصغر عضو في المجتمع، لذلك لا غرابة أن يكون الحزب قد خلق مدارس للأقليات منذ زمن بعيد.. ومنها جامعة القوميات الصينية، التي تواصل عملها بتاريخها العريق من داخل العاصمة بكين، ولها آلاف الخريجين عبر العالم، وبوصفها عالما مختلطا للأعراق والأديان، وبحكم تخصصها في تكوين الأطر، فإن التواجد بهذه الجامعة يجعل الخريج مؤهلا بالطبيعة لاحترام الثقافات المختلفة، تماما كما يحترم الأديان والأجناس والأعراق الأخرى..

في “بجين” تواصل المدرسة الوطنية للحزب الشيوعي الصيني عملها دون انقطاع، وعلى سبيل المثال، فإن عدد خريجي المدرسة خلال السنة الماضية بلغ أزيد من 30 ألف خريج، وهي ليست مدرسة لمن هب ودب، فهي في نفس الوقت تعد المدرسة الوطنية للإدارة، ما يعني أنها مدرسة للقادة والكوادر الحزبية في شتى المجالات، بل إن نشاطها يمتد لتكوين قادة الشركات التابعة للقطاع العام، علما أن الحزب الشيوعي الصيني لا يمنع انتشار القطاع الخاص، وشركة “هواوي” التي تشغل العالم باختراعاتها التي تغضب أمريكا، هي شركة صينية خاصة.

يبلغ عدد أعضاء الحزب الشيوعي الصيني على الأقل 120 مليون عضو، لكن ذلك لا يعني أن أبوابه مشرعة أمام الجميع، بل إن نائب رئيس المدرسة شي شين طاو (xie chuntao) يؤكد أن الالتحاق بالحزب يمر عبر تقديم طلب مكتوب، ثم اختبارات تمهيدية، وليس هذا فحسب، بل إن اكتساب العضوية يعد أمرا غير ممكن، لكونها “سنة تمهيدية للعضوية”، فالفئات المتميزة، والمتقدمون في الأفكار هم من يستحقون هذه العضوية، حسب نفس المصدر، الذي يؤكد أن 25 في المائة من المتقدمين لطلب العضوية هم من ينجحون في ذلك، علما أن أفكار الحزب تفرض التواصل الدائم مع المواطنين والتواجد حتى في الأحياء الصغيرة، فضلا عن الدورات التكوينية الحضورية، و”السيبرانية”..

تتمة المقال تحت الإعلان

بالنسبة لإطار وطني صيني مثل “شي شين طاو”، عايش فترة السبعينات والثمانينات، قبل الالتحاق بالمدرسة المذكورة، فإن حديثه يبقى حديثا ذو شجون، فهو يعرف الفرق جليا بين الحاضر والماضي.. ففي السبعينات والثمانينات، كانت الآلات المنزلية – على سبيل المثال – تأتي من اليابان، ولكن بفضل سياسة الإصلاح والانفتاح، اكتسب الصينيون الخبرة اللازمة لإنتاج متطلباتهم بأنفسهم، والشركات الصينية هي التي تسيطر على السوق اليوم.. ويمكن من خلال حديث الرجل استشفاف بعض ملامح الشخصية السياسية للصينيين، فهو لا يتردد في انتقاد السياسة الأمريكية، ويقول صراحة: إن الانتخابات الأخيرة (في أمريكا) تميزت باستعمال كبير للمال من طرف مجموعة من الشركات.. علما أنه يميز بين طريقة عمل الشركات في أمريكا، التي تمثل مصالحها فقط، بخلاف الشركات الصينية التي تجسد العملية الديمقراطية على أرض الواقع كما هو الحال في شنغهاي.. ولا يغفل المتحدث نفسه الحديث عن “العدالة الاجتماعية” مستلهما تصريحاته من تصريحات الرئيس شي جين بينغ، الذي يعتبر أن أكبر فرق بين الرأسمالية والاشتراكية هو العدالة الاجتماعية.

بتحليل يقظ، ينبه شي شين طاو إلى محاولات التشويه التي تتعرض لها الديمقراطية الصينية، وهذا المعطى تتشابه فيه الصين مع كثير من البلدان، حيث تعتبر أمريكا والدول الغربية نفسها مصدرا للديمقراطية في العالم، بينما في الصين يعتبرون أن “تنزيل الديمقراطية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف الملائمة لبيئتنا”، حسب نائب مدير المدرسة الوطنية للإدارة، الذي يعلن معارضته الشديدة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان باسم الديمقراطية، كما ينبه إلى سياسة الخطاب المزدوج، التي يتم استعمالها إزاء قضايا الشرق الأوسط، حيث تستمر الدول الغربية في إغراق المنطقة بالأسلحة بدل القيام بالعكس..

في كل مرة يمكن أن يتجدد اللقاء بالحزب الشيوعي الصيني، لا بد من الحديث عن بعض الشخصيات الهامة في تاريخ الصين، وأولها الزعيم المؤسس ماو تسي تونغ، الذي كان يرفض “نزعة تقديس الكتب”، ومن تم فهو رغم إيمانه المطلق بالماركسية اللينينية، إلا أنه كان يدعو إلى “استنباط الحقيقة من الواقع”، بل إنه طرح نظرية “تصيين الماركسية”، وكان يقول “لا للماركسية المجردة.. نعم للماركسية الواقعية”، وكان يرفض التعامل مع التوجيهات الشيوعية والماركسية على أنها “عقيدة”.

تتمة المقال تحت الإعلان

وعموما، لا يمكن حصر شخصية ماو تسي تونغ في لقب واحد، فهو المعلم والشاعر والحكيم والمحارب، والمخطط العسكري البارع، ورجل النظريات السياسية الخارقة.. وكل ذلك كان يتم في جبة الرجل البسيط المتواضع القريب من الشعب، فبوصفه أحد أتباع منهج الماركسية اللينينية، التي تعرضت للتشويه في عدة بلدان(..)، فقد كان مؤسسا للحزب الشيوعي الصيني، ومؤسسا للجيش الأحمر الصيني، وبطلا للحرب ضد اليابان، وضد حزب “الكومنتانغ”، هذا الحزب ذو المصير الملعون في التاريخ الصيني، بعد أن اختار أصحابه الهروب إلى تايوان إثر هزيمة مذلة في الحرب الأهلية الصينية.. وهذا الهروب الكبير هو الذي يحاول البعض الترويج له كمخطط لانفصال تايوان، بينما الحقيقة أن تايوان جزء من التراب الصيني، وحتى “الهاربون” يعرفون أكثر من غيرهم أنهم صينيون، بل إنهم لم يدفنوا زعيمهم إلى اليوم، وما زالت جثته خارج قبره وكأن الحقيقة ترفض أن تدفن نفسها أمام واقع “الصين الواحدة”.

الحديث عن ماو تسي تونغ باعتباره مؤسسا للصين الجديدة، ليس سوى مقدمة للحديث عن شخصية أخرى لها قيمة كبيرة لدى الصينيين، وفي أوساط الحزب الشيوعي الصيني، بل يمكن القول إن القائد المسمى دنغ شياو بينغ، هو الرجل الذي يرجع له الفضل في إخراج الصين من عزلتها، وفقرها.. بعد أن طرح فكرة “بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، وهو الذي يرجع له الفضل في أكبر عملية إصلاح سياسي واقتصادي شهدتها الصين عبر تبني سياسة “الإصلاح والانفتاح”، ومعناها عمليا عدم إغلاق الباب على اقتصاد السوق(..)، والانفتاح على مختلف البلدان..

وفي الوقت الراهن، لا يمكن الحديث عن الحزب الشيوعي الصيني، ولا عن الدولة الجديدة، ولا عن ملامح القوة الاقتصادية الصينية، ومظاهر التطور التي جعلت الصين تصل إلى حد التفكير في مشاريع بناء خارج كوكب الأرض، بعد إطلاق مشاريع “المصير المشترك للبشرية”، دون الحديث عن أسلوب الرئيس شي جين بينغ في الحكم والإدارة (موضوع لاحق).

تتمة المقال تحت الإعلان

 

يتبع

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى