ترامب “الأمير”
“أبرز سمات رجل الدولة، أن تتوفر فيه صفات الشجاعة والدهاء معا، وعليه أن يكون أسدا وثعلبا في ذات الوقت، فالأسد لا يحمي نفسه من المصائد، والثعلب لا يقوى على مقاومة الذئاب”.. هذه هي الفكرة المحورية التي تلخص ما ورد في كتاب “الأمير” للمفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي، والذي صدر سنة 1532 في 240 صفحة فقط، كانت كافية لتلهم الفكر الفلسفي والممارسة السياسية في العالم، باستثناء الكنيسة التي حاربت الكتاب بقوة، وصاحب الكتاب بعنف، لأنه نزع منها المنطلقات التي كانت تدعو إليها من أجل الحكم وتدبير الشأن العام.
منذ ذلك الحين، يعتبر العديد من الحكام كتاب “الأمير” منهاج عملهم ودليلا يرشدهم إلى كيفية انتزاع السلطة والحفاظ عليها، على رأس هؤلاء بونابارت وموسوليني وقادة آخرين.. لكن يبدو أن دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الجديد/القديم، أكثر دهاء من الحاكم الذي تخيله مكيافيلي ودافع عنه في كتابه، لكون ترامب استطاع أن يجعل حتى الكنيسة تؤيده، ورجال الدين يساندونه، ومسلمي أمريكا يصوتون له.
لا أعتقد أن من بين 46 رئيسا سبقوا ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، هناك من أثار كل هذا الجدل داخل أمريكا من جهة، وكل هذا الخوف من الرجل خارجها من جهة أخرى.
فداخليا، الديمقراطية في أمريكا لها من العمق والتجذر ما يجعلها تصحح أخطاءها المرحلية، لتغلق قوس الشعبوية في أي مرحلة من مسارها، لكن الخوف في العالم هو من انتشار هذا النموذج الشعبوي في بعض الدول، منها حتى الأوروبية والآسيوية والأمريكية، التي لم يرق مستوى بنائها الديمقراطي إلى مستوى الصرح الأمريكي، مما يجعل المجتمع الدولي يتخوف من هذا الجموح نحو المصالح الآنية والنتائج الفورية.. ما دامت عقيدة هذا النوع من الشعبوية عبر “الغاية تبرر الوسيلة” كما تصورها مبدعها مكيافيلي، وذلك على حساب استدامة التنمية والتنمية المستدامة التي تستحضر في إنتاجها واستهلاكها مستقبل البشرية بالدرجة الأولى، وتستحضر في تدبيرها السياسي الإيمان بالاختلاف وقبول الآخر والمشاركة كقيم متوافق عليها.
إن دخول ترامب إلى البيت الأبيض يوم 20 يناير 2025 لمباشرة مهامه باعتباره الرئيس السابع والأربعين لأكبر دولة في العالم، ليس حدثا فجائيا، ولا حادثة مرور في الحياة السياسية الأمريكية، وبالتالي، لا يمكن قراءته بنظارات رئاسيات 2016، كما لا يمكن أيضا إسقاط تعقيدات النظام الانتخابي الأمريكي عليه، النظام الذي يفصل الرئيس المنتخب عن ملايين المصوتين بوساطة الناخبين الكبار الذين لا يتجاوز عددهم 540 في مجموع بلاد العم سام.
في المقابل، وفي تقديري، يبقى التساؤل مشروعا: هل عاقب الأمريكيون الحزب الديمقراطي رغم حصيلته الاقتصادية الإيجابية، أم عاقبوه لأنه لم يتوفق في تقديم مرشح رجل، أو امرأة أخرى غير هاريس، أم لأن الحزب الديمقراطي تأخر كثيرا في الحسم بعدم إعادة ترشيح بايدن إلا خلال شهر غشت، أم أن الأمر لا يتعلق لا بهذا ولا بذاك، لأن الأمريكيين أصلا لم يصوتوا للحزب الجمهوري ولم يعاقبوا الديمقراطيين، بل فقط صوتوا لدونالد ترامب الشخص، لذاته، لقوته، لتحديه، لتقلباته، ووعوده، وأن الحزب الجمهوري هو الذي استفاد من شخصه فتحكم بالأغلبية في مجلس الشيوخ بعدما سيطر على المحكمة العليا، خاصة وأن ترامب عندما يتحدث حتى في العلاقات الدولية، فهو يحكي عن أردوغان وبوتين ومحمد بن سلمان كأصدقاء شخصيين له وليس لأمريكا ؟
إن فوز ترامب هو فعل حصل مع سبق الإصرار لغالبية الشعب الأمريكي، فترامب لم يفز فقط بواسطة الناخبين الكبار كما حصل في 2016 عندما تجاوزته مدام كلينتون في عدد أصوات المواطنين بأكثر من مليوني صوت، فهذه المرة حصد أصوات الأمريكيين وأصوات الناخبين الكبار معا.
كان الجميع يعتقد أن مرشحا يطل على الثمانين من عمره، له خطاب محافظ وماضوي، وعلاقته بالمرأة وبالمهاجرين فيها ما يلامس التمييز والعنصرية، سيتخلى عنه الشباب والنساء والناخبون ذوو الأصول الآسيوية وغيرها، فكانت المفاجأة أن هؤلاء أضيفوا إلى أنصاره التقليديين المساندين، حلفاء الكنيسة، فحصل إجماع أمة، وبذلك تجاوز ترامب ما كان يحلم به “الأمير” عند مكيافيلي.
ولعل ما حصل في أمريكا لا يوازيه إلا ما أورده المؤرخ ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة: 1798-1939” من رواية تفيد بأن ((محمد علي باشا، حاكم مصر، قال لوزيره: إني لم أعثر على أي شيء جديد يذكر في هذا الجزء الذي ترجمته من كتاب الأمير.. إني أرى بوضوح أنه ليس لدى مكيافيلي ما يمكنني أن أتعلمه منه، فأنا أعرف من الحيل فوق ما يعرف.. فلا داعي للاستمرار في ترجمته)).