الحقيقة الضائعة | الفتنة الألمانية الفرنسية بين مولاي عبد العزيز ومولاي عبد الحفيظ
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 98"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
الفتنة نائمة، لعن الله موقظها، ولكن لعنة الله لم تنزل على موقظي الفتنة في تلك الظروف الحرجة من تاريخ المغرب في السنوات الأولى من القرن العشرين.
والحقيقة أنه لم يقع إيقاظ الفتنة، وإنما تم إشعالها، وكان الفرنسيون من محطات توجيههم بالجزائر، وانطلاقهم على حدود المغرب، يخططون لأن تندلع نار الفتنة في المغرب في كل جنباته، في قبائله، جباله وسهوله، وحتى في بيوته، بين الأب والابن والأخ وأخيه، وإذا كان السلطان في حرب مع أخيه، فماذا ترك الاستعمار للباقين ؟
وفي ظروف كهاته، يسهل الدس والتآمر، وترهف الآذان للإصغاء لكل جديد، ويقدم العقل على كل الحماقات، وكما كانت مناطق الألزاس واللورين في الحدود الفرنسية – الألمانية مرتعا للمناورات بين الدولتين العظيمتين، كان المغرب هو أيضا مرتعا لذلك الصراع..
فالفرنسيون يدعون دعمهم للمولى عبد العزيز، ودفعهم له إلى طريق الانهيار المقنع تحت أنظار الألمانيين، الذين كانوا يدعمون أخاه المولى عبد الحفيظ منذ أن أعرب لهم عن رغبته في دعمهم بإيفاد سفيره اليهودي السوري هولتزمان، الذي عاد من برلين محملا بالأموال والمشاريع، مقابل إشفاء غليل الألمانيين في طرد الفرنسيين من المغرب، وطرد المولى عبد العزيز الذي يعتمد عليهم.
ولا شك أن الدعوة الألمانية كانت تلقى الاستجابة الشعبية والتأييد الجماهيري، نتيجة لما كان المولى عبد العزيز يقدمه من تنازلات، وما كان وزراءه لا يتوقفون عنه من إمضاءات لمختلف الاتفاقيات، كما أن غصة ضياع المناطق المغربية الثلاثة في الصحراء الشرقية، لم يكن المغاربة قاطبة قد ابتلعوها، ولم يستسيغوا أبدا أن يوقف الجهاد الذي بدأه المغفور له الحسن الأول، فكانت أعصاب الناس قد أدركت حدا من الحساسية تجعلها تهتز وتقفز لدى سماعها لأي خبر جديد، ولم يكن أي خبر جديد إلا حاملا للنكد والألم والحزن، كما أن الامتعاض والتذمر كانا يطبعان كل ما يصدر من أوامر وقرارات وكأن يدا خفية تصدر تلك الأوامر باسم السلطان، أو تستغل غيبته لتزيد من تقليب السكين في الجسم المجروح.
فمثلا عندما صدر قرار بضم قبائل أولاد بوسبع وشيشاوة والفروكة ومجاط إلى حكم القايد الكندافي، ونزعها من حكم القايد المتوڭي، انفجر القايد المتوڭي غضبا هو وقبائله واعتبروها إهانة للقائد المتوڭى ولتلك القبائل نفسها، وهي إهانة لحقت بالقائد المدني الكلاوي عندما نزعت منه قبائل مسفيوة، وهي تعديلات كانت داخلة في مخطط العسكريين الفرنسيين الذين كانوا يمهدون لاحتلال تلك المناطق، وسبق الاحتلال باختلاق البلبلة، وتشكيك القبائل في ارتباطاتها وفي التفريق بين فروعها وأصولها واقتلاعها من جذورها، وطبعا، وفي نفس الوقت إثارة تلك القبائل على السلطان الذي أمضى القرار، وكان طبيعيا أن تتناقل الألسن بالسرعة التي يتطلبها الوضع، خبر انضمام القائدين عبد السلام المتوڭي والمدني الكلاوي في حركة تمرد، مما جعل المولى عبد العزيز لا يشعر بخطورة قراره إلا بعد أن سمع هو أيضا بخبر تحرك رجلين من أعظم رجال مملكته، إذ لا يخفى علينا أن التنظيم الإداري في عهد المخزن لم يكن يشبه لا من قريب ولا من بعيد النظام الإداري في عهد الاستقلال، حيث أصبح القايد عبارة عن ضابط شرطة سامي محدود النفوذ والسلطات، بينما كان القايد في ما مضى هو صاحب النفوذ الروحي والسياسي والعسكري في قبيلته.
المولى عبد العزيز والنقد الذاتي
وفي خضم المشاكل والأزمات.. أصبح المولى عبد العزيز يشعر بالخطر والندم، ويقدر الورطة التي أولجه فيها مستشاروه ووزراؤه والخبراء الأجانب المحيطون به، ذلك أنه في أعقاب دخول المتوڭي والكلاوي في تمرد إلى جانب أخيه المولى عبد الحفيظ، نشر خطابا في شكل رسالة يوجز حقيقة ما يخالج صدره من أفكار.
ففي يوليوز 1905، وهو ظرف حاسم في حياة المولى عبد العزيز، وزع على أقاليم المملكة هذه الرسالة الغنية بالمعاني والتي تعتبر أقرب ما تكون إلى نقد ذاتي من كونها رسالة سلطانية عادية موجهة إلى قبائل الشاوية، ولم أحصل على النص العربي لها وإنما أترجم هنا نصها الفرنسي كما نشر في کتاب مارتان عن “أربعة قرون من تاريخ المغرب” تقول الرسالة: ((وبعد، تعلمون أنه منذ قلدنا الله تعالى المهمة التي أوكلها لنا جلالة والدنا المغفور له، ونحن ساهرون على رفع راية الإسلام محافظون على أن يبقى شعبنا في حالة ترضي الله ورسوله بعيدا عن المزالق، فعملنا على تطوير الأحوال وإقامة المؤسسات الإصلاحية باذلين الجهد متحملين للمتاعب في سبيل إقرار الهدوء والطمأنينة، ونقضي الليالي الطويلة فاتحين الأعين لكي يتمكن الشعب من النوم في اطمئنان والتمتع برغد العيش.
وفي الواقع، لو كان شعبنا المسلم يعرف ظروف عملنا وما نبذله من مجهودات للدفاع عنه، لكان مقدرا بشكل أحسن لما نقوم به، ولأقدم الناس كبارا وصغارا لمساعدتنا بإخلاص.
لقد سلط الله على الناس هذا الدجال الذي لم يتورع عن انتحال صفة الشيطان (يقصد بوحمارة)، حيث عاث فسادا في القبائل وتردت الحالة إلى ما تعرفونه.
كما أقدمت الجزائر على محاولات من شأنها المساس بسيادتنا، وإثارة قلاقل خطيرة، والضغط على عمليات الدوس على المسلمين وتعزيز قواتها لتصبح سيدة الأمر على هذا الدين الحنيف، وهذه هي السبة التي نخشى ونعمل لدفعها وتجعلنا نتوق لأن نرى شعبنا يتكتل لمنع قوات الشر من بلوغ مبتغاها.
وفي هذا المسار، فرغت الصناديق التي كانت عامرة بمقادير هامة، حيث نظمنا الفيالق (المحلات) والجيوش والأسلحة بما اعتقدناه كافيا لمواجهة الموقف، كما بذلنا الجهد لإرجاع الغاوين إلى طريق الصواب وإصلاح ذات البين بين المتخالفين.
بينما لازال عدد كثير من الذين لا يقدرون خطورة أعمالهم، ولا يتبينون مدى ما يسعون إليه من تفرقة وتشتيت، ولا يتبين لهم الجهد الذي نصرفه لإنقاذهم من الكارثة، وإنقاذ وطنهم وذويهم من الشر المستطير، وحيث إننا نركز جهودنا لإبقاء خطر المتسلطين المحرضين (الجزائريين) ونرفض لهم كل دعم لمخططهم الهادف إلى إلحاق الضرر بالمسلمين، وقد ظهرت رغبتهم في ضرب الخناق حولنا ومضاعفة تنكيلهم بنا، حتى تحولت مخططاتهم السرية إلى تدخل سافر وملموس.
وأصبح جليا لدينا أن الفوضى لا تنتشر إلا بدفع منهم وطبقا لمراميهم، وأنهم الذين يتبنون الفتنة ليبرروا تدخلهم ويحققوا مبتغاهم ويحصلوا على تشتيت الشمل وخرق العهد الذي أخذ المغاربة على أنفسهم نحو جلالتنا.
لقد ضاعفت الجزائر من بث الفوضى بجميع الوسائل، وسهلت على القبائل أن تغرق فيها، وانكبت على خلق الأحداث التي تدفع رعايانا إلى التفرقة والحروب العنصرية، وتعرضت علنا لجيشنا المرابط في وجدة وألحقت به أضرارا فادحة، وضربت عليها خناقا حرمتها بمقتضاه من مستلزمات العيش التي تسهل لها الحصول عليها، بل إنها انكبت على مصادرة وحجز ما نزود به محلتنا من مواد غذائية وعتاد.. وهكذا أبانت عن نيتها في إبادة جيشنا.
هذا هو شغلنا الشاغل الذي لا يعرف الجميع كنهه، وهذا ما يشغلنا لدرجة تفوق ما قد يخطر ببال من بحث عن الوسائل الضرورية لمواجهة الموقف، والبحث عن حلول يمكن أن نحصل عليها من خلال المفاوضات لإنقاذ الموقف، ولو عرف رعايانا ما تبذله حكومتنا من جهود في هذا المضمار، لسارعت إلى دعمها وتقديم العون لها برجالهم وأولادهم وحتى أموالهم ومتاعهم، ولوضعوا رهن إشارتها كل ما يملكون، دفعا لأخطار رهيبة محدقة بنا وضمانا لقوة الإسلام وصونا لبقائه، لأن بقاء مملكتنا لا يمكن أن يستمد وجوده إلا من قوة الدين الإسلامي، هذه القوة التي لا يمكن ضمانها إلا بحرص الجميع على تقديس الوحدة والامتثال للقانون، وهي غايات لا يمكن الوصول إليها إلا بأداء الجميع لالتزاماته المادية تجاه الدولة، لهذا جعل الله تعالى من أداء الواجبات المالية نحو الأمة واحدة من أسس الدين، وأداء الجبايات هو الذي يمكن الدولة من صيانة المقدسات الدينية، فلا محيد لنا عن أن نتعاون جميعا، حكومة وشعبا، في دعم ميزانية دولتنا والتعاون مع حكومتنا حتى نتفادى ما يتهددنا من أخطار وفتن.
ولهذا شرحنا لكم جانبا من جوانب الوضعية الحالية في هذه الرسالة.
نرجو الله العلي القدير أن يلهمكم طريق الصواب ويرشدكم لما فيه الخير وتحقيق أملنا فيكم من البداية إلى النهاية، فقفوا على ساق الجد للقيام بما يفرضه الواجب نحو الدولة، ولتنفيذ ما يتطلبه الوضع بكل إخلاص، ولتكونوا على النهج القويم وفق ما تمليه عليكم مبادئ دينكم الحنيف.
لقد أرسلنا نسخة من هذه الرسالة إلى كل الأقاليم، لنحصل على مساندة الجميع لنصرة قوة الإسلام، وإذا توانيتم عن الاستجابة لهذا النداء فإننا لن نجد عزاء في عتابنا نحن الذين نعمل لما فيه خيركم، لقد أعلمناكم، ونرجو الله أن يهديكم)).
عبد العزيز بن الحسن
في منتهى جمادى الأولى 1323
منتهى يوليوز 1905
لعلها رسالة استنجاد مكتوبة بعقلية محرجة ونداء أخير قبل فوات الأوان، ولكنه من خلال تسلسل الأحداث بعد هذه الرسالة، يظهر أنها جاءت بعد فوات الأوان.