لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..
إعداد: سعيد الريحاني
قد تكون من محبي النظريات الغربية، وقد تكون من مناهضي النظريات الاشتراكية في العالم (ولا علاقة للاشتراكية الصينية بغيرها)، لسبب أو لآخر، أو بدون سبب(..)، لكن الحديث عن جمهورية الصين الشعبية يفرض الاعتراف مبدئيا بأن كل ما تحقق على هذه الأراضي المترامية الأطراف بكثافتها السكانية الهائلة، يرجع الفضل فيه للحزب الشيوعي الصيني، والحكاية كلها انطلقت ذات يوم من شهر يوليوز 1921، داخل بيت صغير في مدينة شنغهاي، بمؤتمر صغير لم يتجاوز عدد المشاركين فيه 50 شخصا، تدخلت الشرطة لمنعهم من إكمال “اجتماعهم” فانتقلوا إلى قارب صغير على بحيرة ساوث في جياشينغ بمقاطعة تشينغ يانغ.. ومن تم بدأت صناعة الحزب الذي يناهز عدد أعضائه اليوم 100 مليون عضو فيهم الرجال والنساء (سيتم الحديث عن الحزب الشيوعي الصيني لاحقا).
في شنغهاي، كانت الساعة تشير في ثاني أيام الأسبوع إلى حوالي الساعة الرابعة صباحا، وحتى قبلها، تشهد دينامية ملحوظة على مستوى الطرق لرجال الأمن وفرق الخدمات الخاصة، فيما السيارات والعربات كانت تتجه صوب وجهة محددة سلفا، إلى الساحات المهيأة والمحيطة بمكان تنظيم المعرض الدولي للاستيراد (شنغهاي)، وقد كانت الأوامر الجادة تقتضي أن يتم تنظيم الولوج إلى هذا المعرض الذي يحتضن آلاف العارضين والزوار على دفعات من خلال مداخل عملاقة مختلفة موزعة حسب فئات معينة..
يبلغ عدد الصحفيين الذين واكبوا أشغال المعرض المذكور من عين المكان، 3800 صحفي، وهو رقم كفيل بأن يجعل القارئ يتخيل حجم هذا المعرض الذي يفوق فيه عدد الصحفيين كل التصورات، كما يمكن أن يساهم تصور العدد في تخيل الجهود الهائلة والأدوات اللوجستيكية الضخمة اللازمة التي يمكن أن يتطلبها فقط إعداد مركز إعلامي، ولا داعي بعدها للحديث عن عدد المشاركين(..)، تخيل عدد العارضين فقط (كل عارض هو فريق) يفوق 3500 عارض، من 152 دولة، ومنطقة.. وليس هذا فحسب، بل إن 297 شركة من شركات “فورتشن غلوبال 500″، قررت الحضور والمشاركة إلى جانب قادة الصناعة، حيث لم يعد أمامها سوى باب اللحاق بالركب الصيني الفائق السرعة.. وليست الفكرة قديمة، فبالكاد بلغ المعرض سنته السابعة ليحتل مراتب الريادة، حيث أن الفكرة لم يتم إطلاقها إلا سنة 2018 بمبادرة من الرئيس الصيني شي جينغ بينغ شخصيا، قبل أن يتم تنزيل كلامه على أرض الواقع.
في هذه المدينة، تقف ناطحات السحاب بصخبها وألوانها وزجاجها اللامع شامخة على النهر العملاق الذي يسمونه اليانغتسي، والذي يتحول بالليل إلى فضاء ساحر تجوبه السفن والمراكب السياحية بأضوائها المتلألئة والملونة، والتي تنضاف إلى أضواء المباني، لتجعل من شنغهاي عاصمة للبنايات العملاقة والأضواء الساطعة، ولا حدود للخيال المعماري عند مهندسيها وبنائيها ومسؤوليها، حيث تشكل الجسور معالم عملاقة لا وجود لها في بلد آخر غير الصين، ويتجاوز عدد طوابق الجسور المعلقة في بعض الأحيان 6 طبقات، تجعل العربة تبدو في المنحرفات وكأنها طائرة صغيرة تبحث عن مدارها في السماء..
مدينة السماء كما يسمونها في مشاريع المستقبل، يبلغ عدد سكانها حوالي 30 مليون نسمة، وهي تعادل من حيث قوتها الصناعية والبشرية عدة دول، غير أنها لا تبدو مدينة ملوثة.. فقد حجزت الأشجار والزهور والحدائق مكانة متميزة في المشهد العام، إذ بإمكانك مشاهدة الزهور نهارا، ومشاهدة ألوان الأضواء الساطعة ليلا، ويمكن لعشاق القانون الإداري والأبحاث الجامعية أن يتأملوا نجاعة النظام المركزي، حيث أن شنغهاي ليست سوى واحدة من البلديات التابعة مباشرة للحكومة المركزية، بالإضافة إلى بكين وتيانجين وتشونغتشينغ.
تمثل شنغهاي إحدى واجهات القوة الناعمة للصين، ونموذجا ناجحا جدا للنظام الاشتراكي في العالم، بل إنه يفوق عمليا ما يمكن أن يحققه النجاح الرأسمالي، بسبب تنفيذ سياسة “الإصلاح والانفتاح” و”الاشتراكية الصينية النمط”، فبخلاف تجارب اشتراكية أخرى عمياء، فضل الصينيون الاعتماد على الماركسية كمثال، لكنهم لم يعتبروها عقيدة، بل إن الاشتراكية عندهم بمثابة نظام ينبغي أن يطور نفسه حسب حاجيات البلاد طالما أنه ليس عقيدة، والاشتراكية الصينية لا زالت تطور نفسها إلى حدود اليوم، وما زالت منفتحة على التشاور، وهي لا تفكر في النقاش القانوني والدستوري فقط، بل إن التفكير الاشتراكي الصيني وصل إلى الفضاء، كما أن الرئيس الصيني أطلق مبادرة “بناء مجتمع مشترك للبشرية”، وقبلها أطلق مبادرة “تنمية الجنوب العالمي” ومبادرة “الحزام والطريق”، وكلها مبادرات تؤكد أن حجم الصين يتجاوز بكثير الحدود المرسومة على الخرائط..
في شنغهاي، كانت الظروف قد تهيأت بالفعل للشروع في إطلاق مشاريع السماء، وواحد من هذه المشاريع كان قد حجز مكانه في معرض شنغهاي العالمي للاستيراد والتصدير، منذ ما يزيد عن شهر، ويتعلق الأمر بمشروع “الطاكسي الطائر”، وهو واحد من ضمن 400 منتج جديد للمستقبل، ضمن مشروع كبير للتقنيات الحديثة والذكية، ويهم إطلاق مشروع استثمار ضخم بقيمة 50 مليار يوان (7 مليارات دولار) بحلول عام 2027، وتسعى شنغهاي، حسب وسائل الإعلام الصينية، إلى ((بناء اقتصاد للطيران منخفض الارتفاع يعتمد على الابتكار والتطبيق التجاري، وكذلك خدمات التشغيل، حيث تعتزم تشكيل نظام صناعي كامل يغطي البحث والتطوير، والتصميم، والتجميع ثم تصنيع اختبارات الصلاحية للطيران، والتطبيق التجاري للطائرات الجديدة منخفضة الارتفاع بحلول عام 2027، وفقا لخطة العمل حول التطوير عالي الجودة لصناعة اقتصاد الطيران منخفض الارتفاع بين سنة 2024 و2027، والتي كشفت عنها حكومة بلدية شنغهاي في 16 غشت.. وفي الوقت نفسه، ستتعاون شنغهاي مع المدن في منطقة دلتا نهر اليانغتسي، لبناء أول مجموعة من المدن في البلاد التي يتوفر فيها الطيران منخفض الارتفاع عبر المنطقة، بهدف إنشاء منطقة تجريبية وطنية لصناعة اقتصاد الطيران منخفض الارتفاع، وأن تصبح مدينة السماء ذات تأثير دولي بوتيرة متسارعة، ووفقا لما ذكرته خطة العمل، سيتم تقديم الدعم لتطوير قادة صناعيين يعملون في الأعمال المرتبطة بالطيران منخفض الارتفاع، بما في ذلك الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائي (eVTOL)، الطائرات الصناعية بدون طيار (UAVs)، وأبحاث وتطوير وتصنيع الطائرات العامة التي تعمل بالطاقة الجديدة، حسبما أفادت خطة العمل)).. هكذا تتحدث وسائل الإعلام الصينية.
لا تمانع وسائل الإعلام الصينية في وصفها بـ”الوسائل الدعائية”، لأن الغاية ليست في المصطلحات نفسها، بل في الأهداف التي يجب تحقيقها.. والواقع في الحالة الصينية، أكبر بكثير مما تنقله وسائل الإعلام، فالأحداث، مثل المعرض الدولي الصيني للتصدير في شنغهاي، حدث كبير فعلا ولا يحتاج إلى التضخيم، وقد التقيت عشرات الحالات لأشخاص لم يستطيعوا زيارة أكثر من “ثلث” المعرض خلال يومه الأول، نظرا لحجم الإقبال وساحة المعرض المترامية الأطراف بين الجناح التكنولوجي وجناح الذكاء الاصطناعي، وجناح المنتوجات الفلاحية، والمستجدات الصناعية، والأجنحة المحلية.. علما أن جميع زوار المعرض، وهم بالآلاف، يجدون القهوة والشاي والمشروبات الغازية، والحلويات المتنوعة ورقائق “الشيبسي” في طريقهم بالمجان، وتتجدد الكميات على مدار الساعة، فضلا عن الأكل المخصص لآلاف المشاركين بشكل سلس، بسبب فعالية التنظيم، وصرامة التوجيهات..
شنغهاي ليست مدينة للصناعة والعمل والسياحة فقط، بل إنها مدينة للعلم كذلك، فهي تخصص الملايير من اليوان الصيني في سبيل تحقيق حلم “مدينة السماء”، “المدينة الاشتراكية” التي تضرب معنويات الغرب الرأسمالي كل يوم، بعد أن وجدت كل الماركات العالمية نفسها مجبرة على البحث عن موطئ قدم لها في هذه البلاد، بل إن بعض الماركات العالمية التي تواصل استعراض عضلاتها “جنوب العالم”، لم تعد تملك من وجودها سوى الاسم، بعد أن سلمت نفسها طوعا لسلاسل الإنتاج الصينية الضخمة، التي ضمنت لها مواصلة النجاح في السوق، بينما قامت بعض الشركات بتسليم نفسها كـ”تسليم أهالي” كما يقول المصريون، وكل جزء من منتوجاتها يصنع في الصين، وعلى رأس القائمة شركات سيارات وهواتف نقالة عملاقة، تستخدم تقنيات شركات صينية، لا تحب الظهور..
في الصين أيضا، توجد أعرق الجامعات العالمية، وأكثرها تصنيفا في مقدمة الترتيب العالمي، جامعة “جيلو تونغ”، وهي جامعة بحجم مدينة جامعية كاملة، وهنا يمكنك أن تجد آلاف الطلاب الأجانب الذين يواصلون دراستهم بعد الباكالوريا، أو المستويات العليا، في تخصصات دقيقة، من الهندسة، والميكانيك، وتخصصات أكثر عمقا.. والجميل في الأمر، أن فيهم من يتحدث اللغة العربية، وبالنسبة لي، فإني أتحدث مع بعض الطلبة، وكان أغلبهم مصريين.. ولكن فجأة صدح واحد منهم وقال: “أنا من مدينة أسفي”، وقالت الثانية “أنا من مدينة سلا”.. وكلاهما يتقنان لغة التواصل العالمي: الإنجليزية(..).