تقرير | الأطباء الداخليون.. بين “حياة العطاشة” وحلم العمل في الخارج
يعيش الأطباء الداخليون محنة حقيقية داخل المستشفيات الجامعية التابعة لوزارة الصحة، ويعانون جراء إكراهات عديدة ومشاكل تعيق تكوينهم المستمر لتحقيق حياة مهنية أفضل، بسبب عدم تسوية وضعيتهم المهنية والقانونية في ظل إصلاح ومراجعة العديد من قوانين المنظومة الصحية، وإحداث المجموعات الجهوية الصحية، وتعديل قوانين التأمين الصحي ومشروع التغطية الصحية الشاملة، مما يجعل هذه الفئة تعيش خارج دائرة اهتمام الحكومة ومشروع إصلاح القطاع الصحي العمومي.
إعداد: خالد الغازي
وضعية الأطباء الداخليين تضع وزير الصحة الجديد، أمين الطهراوي، أمام مسؤولية كبيرة لإخراج هذه الفئة من “العبودية” و”حياة العطاشة” التي تعيشها منذ عقود في ظل غياب قانون خاص بهم يحميهم من شطط الإدارة وتعسف المسؤولين في المؤسسات الاستشفائية التي يشتغلون فيها، ليبقى ملف الأطباء الداخليين من بين الملفات الساخنة المطروحة على طاولة الوزير.. فهل يتجاوب مع مطالبهم المشروعة ؟
إن أغرب ما في قضية الأطباء الداخليين الذين يعالجون المرضى ويستقبلون المواطنين، أنهم محرومون من التغطية الصحية ولا يتوفرون على أي تأمين صحي يمكنهم من الاستفادة من العلاج مثل سائر المغاربة، فهم محكوم عليهم بالعمل فقط حتى يكملوا مدة التدريب الداخلي، ثم توقيع عقد مقيد بشروط مجحفة لا يسمح لهم بالاستقالة ويفرض عليهم غرامة جزافية قبل المغادرة، الشيء الذي يضع الوزير الجديد لقطاع الصحة، أمام مسؤولية مباشرة لإخراج هؤلاء الأطباء الجدد من الوضعية المزرية التي يعيشونها داخل المستشفيات الجامعية.
قضية هذه الفئة من الأطباء رغم أنها تتعلق بظروف العمل القاسية، وغياب قانون منظم لهذه الفئة يضمن حقوقها التي تصون كرامتها وواجباتها، إلا أنها تحيل على أزمة طلبة الطب والصيدلة مع وزارة التعليم العالي والمرتبطة أيضا بتقليص سنوات الدراسة إلى ست سنوات، والتدريب والتكوينات، بحيث أن الخيط الرابط بين الأطباء الداخليين وطلبة الطب يتعلق بالتحصيل العلمي وجودة التكوين قبل التخرج.
في هذا السياق، يقول علي فارسي، المنسق الوطني للجنة الوطنية للأطباء الداخليين والمقيمين، أنهم هم من يقدمون أهم الخدمات الطبية داخل المراكز الاستشفائية الجامعية ويكونون في استقبال المرضى والمرتفقين في أقسام المستعجلات، ويجرون الفحوصات الطبية الأولية، وإعطاء الاستشارات ووصفات الأدوية والتحاليل اللازم القيام بها، وغيرها من الأدوار المهمة، التي أبانت عن تفاني ومهنية خلال فترة جائحة “كورونا” وزلزال الحوز، لكنهم يعيشون حالة من التهميش واللامبالاة.
وأوضح فارسي أن الطبيب الداخلي رغم مستواه العالي (باك +7، +9، +11)، إلا أنه يعاني من ظلم كبير، حيث يعمل في ظروف جد صعبة ويداوم على الحراسة بشكل مستمر، ولا يستطيع الخروج من المستشفى لممارسة حياته بشكل عادي مثل بقية الناس، كل هذا مقابل أجرة لا تتعدى 3500 درهم، أي 5 دراهم في الساعة، مشيرا إلى أن هناك أطباء بعد تخرجهم تفرض عليهم عقود عمل لـ 8 سنوات وليس لهم الحق في الاستقالة قبل انقضاء هذه المدة، لكون العقد يتضمن شروطا مجحفة، فإذا اشتغل الطبيب في جو غير مناسب وظروف صعبة، عليه تسديد ضعف المبالغ التي تقاضاها وقد توازي ثلاث سنوات من العمل خلال فترة اشتغاله كطبيب داخلي، ورغم المجهودات التي يبذلها في علاج المرضى والحراسة والعمل بتفان، إلا أنه ممنوع من تقديم استقالته إذا لم تعجبه ظروف العمل، وهي أمور غير منطقية.
وكشف المتحدث ذاته، أن قضية الأطباء الداخليين طرحت للنقاش منذ سنة 2015 وكذا في 2019، من خلال الملف المطلبي، إلا أن اللجنة أعادت الموضوع للنقاش في فبراير 2024، حيث تم تقديم الملف إلى وزارتي الصحة والتعليم العالي قصد فتح حوار ونقاش والاستجابة للمطالب المطروحة، لكنهم لم يتلقوا أي جواب من وزارة التعليم العالي، بينما كانت هناك بعض اللقاءات الإيجابية مع مديرية الموارد البشرية التي اعترفت بمشروعية مطالب الأطباء الداخليين، لكن لم تكن هناك التزامات من قبل الوزارة الوصية لتسوية بعض القضايا الراهنة المرتبطة بظروف العيش والعمل، والتي لها أثار نفسية وخيمة على الأطباء الداخليين والمقيمين وأدت إلى حدوث بعض محاولات الانتحار.
من جهتها، قالت فاطمة الزهراء معروف، رئيسة جمعية الأطباء المقيمين بالدار البيضاء، أن الملف المطلبي يتضمن مجموعة من المطالب والبنود، من أبرزها الإشراك في المجموعات الترابية الصحية، التي تعتبر منظومة تجديدية لقطاع الصحة، لأننا نظل كأطباء داخليين ومقيمين وصيادلة وأطباء الأسنان، ركيزة أساسية في قطاع الصحة، وهناك أكثر من 50 في المائة من الأطباء في المستشفى الجامعي بالدار البيضاء كلهم أطباء مقيمين، يعني أننا نشكل فئة كبيرة التي يجب أن تعطى لها أهمية وتشارك في نقاشات المنظومة الصحية، خاصة وأن هذه المنظومة جاءت بتغيير في التكوين والمنهج التفكيري للمنظومة عامة، فمن الضروري مناقشة الملف المطلبي وبنود أخرى تشكل تعويضات الأطباء الداخليين والمقيمين غير المتعاقدين، والذين لازالوا يتقاضون أجرة هزيلة أقل من 3500 درهم.
بدوره، تحدث أنس العلمي الإدريسي، طبيب وعضو اللجنة الوطنية، عن الوضعية المزرية التي يعيشها الأطباء الداخليون والمقيمون داخل المراكز الاستشفائية الجامعية التي تعتمد عليهم في استقبال المرضى داخل المستعجلات، أو المصالح أو المداومة، وخلال الكوارث مثل زلزال الحوز، حيث كانوا في الصفوف الأولى خلال استقبال الضحايا والجرحى، لكن رغم هذا الدور الهام، لا زالت هذه الفئة تتقاضى فقط 3500 درهم في الشهر، ومن بينهم من يقومون بالحراسة لمدة تصل لـ 56 ساعة بدون توقف أو نوم لساعات كافية حتى يتمكنوا من علاج المرضى، معتبرا أن هذا التهميش غير مقبول، بالإضافة إلى حرمان الأطباء الداخليين من التعويضات بينما يتقاضى المقيمون تعويضا ضئيلا محددا في 220 درهما عن كل حراسة داخل المستشفى، واستطرد قائلا: “هناك مجموعة من الأطباء يقومون بعلاج المرضى ولا يتوفرون على تغطية صحية ولا أمو-تضامن، هذا شيء غير مفهوم، الناس تنظر للأطباء على أنهم يقومون بدور مهم في المراكز الاستشفائية التي تتزايد على الصعيد الوطني، ولا يوجد اعتراف ورد للاعتبار لهم، لهذا نطالب بأن تمنح لهم تعويضات محترمة مقبولة (الأطباء المقيمون غير المتعاقدين 12 ألف درهم في الشهر، والداخليين 10 آلاف درهم في الشهر) لتحفيزهم على العمل بشكل جيد، خاصة وأن المستشفيات الجامعية تستقبل الآلاف من المرضى”.
معاناة الأطباء الداخليين والمقيمين ليست وليدة اليوم، بل هي ممتدة منذ سنوات طويلة في غياب الإرادة السياسية من قبل الحكومة الحالية، لإنقاذ هذه الشريحة التي يعول عليها المغرب من أجل تطوير القطاع الصحي، لاسيما وأن الحياة الصعبة التي يعيشها هؤلاء الأطباء داخل المراكز الجامعية الاستشفائية، خلفت ضحايا ودفعت بعضهم إلى الانتحار أو لمحاولة الانتحار، مثل قضية الطبيب المقيم ياسين رشيد، الذي كان يشتغل في المستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء، والذي قرر وضع حد لحياته خلال فترة تدريبية في فرنسا بسبب ظروف العمل والضغوط التي كان يتعرض لها، حسب زملائه.
في ظل قيام الحكومة بمراجعة شاملة للعديد من القوانين المتعلقة بالمنظومة الصحية، سواء فيما يتعلق بخلق النظام الخاص لإخراج الأطر الصحية، أو تكوين المجموعات الجهوية الصحية الترابية في إطار تحديث القطاع الصحي بخريطة جديدة، إلا أن هذه الإصلاحات والمشاريع المواكبة للمشروع الملكي للتغطية الصحية الشاملة لجميع المغاربة، لم تنصف فئة الأطباء الجدد أو الداخليين، ولم تول لهم أي اهتمام بخصوص حريتهم واستقلاليتهم ضمن الخريطة الصحية الجديدة، وفق تعبيرهم، ولم تقدم لهم تحفيزات أو رواتب محترمة لتشجيع بعضهم على العمل في المناطق خارج المجالات الحضرية.
وتنتظر اللجنة الوطنية للأطباء الداخليين، من الوزارة الوصية، الاستجابة للملف المطلبي الذي تقدمت به في شهر فبراير الماضي، ويتعلق بتحسين ظروف عملهم، وزيادة التعويضات، وإشراكهم في إصلاح السلك الثالث ومشروع المجموعات الصحية، وتحسين التكوين في الجانبين النظري والتطبيقي للتخصص، ومجانية الدبلومات الجامعية والتكوين داخل الجامعة، ومراجعة عقد 8 سنوات إلى عامين فقط للعمل مع الدولة أو المراكز الاستشفائية الجامعية، وإلغاء الغرامة المفروضة على الطبيب في حالة استقالته، والإبقاء على الإقامة بصيغتها الحالية، والحفاظ على مكاسب المقيمين المتعاقدين المنصوص عليها في محضر اتفاق اللجنة مع الوزارة سنة 2011.