الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | البوعزاوي.. قصة زعيم من الشعب

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 97"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    من بين المعجبين بشخصية الملك الحسن الأول المستفيدين من فضائله، الدارسين للعلم والدين والفلك في عصره، طالب من طلبة القرويين أصبح من خيرة العلماء والمحدثين سنة 1877، واستمر يدرس ويتعمق حتى اضطر لمغادرة فاس والتوجه إلى منطقة مزاب ليفتح زاوية تابعة للقادريين، فشاع ذكره بسرعة البرق في الشاوية بعدما طبق ذكره آفاق فاس..

وعندما أخذت تتسرب إلى أسماعه – وهو الذي لم يتدخل في السياسة – أخبار الهزائم والأزمات، ودخول الإصلاحات التي اقترحها الفرنسيون في قواميس المعاملات، ودخول النفوذ السياسي والعسكري الفرنسي من الباب الواسع، أوقف خطبة الجمعة يوما وحدها إلى خطاب سياسي ودعوة إلى الجهاد.

وإلى هذا الرجل (محمد البوعزاوي) يرجع الفضل في تحويل الشاوية إلى قلعة صامدة ضد الاحتلال الفرنسي، ولكن الفقيه البوعزاوي لم يكن فقط القدوة الداعية، ولا العالم الذي يحتمي بأي كساء، بل كان القائد العسكري والزعيم السياسي الذي وضع علمه ودينه وشهامته وكل ثقله في كفة الجهاد ضد الاحتلال.

تتمة المقال تحت الإعلان

وفي شتنبر 1903، عندما أخذت الألسنة تلوك اسم وزير الحرب الذي يصرف ميزانية الحرب على قصوره ويهرب منها إلى الخارج، جمع البوعزاوي كل القبائل المجاورة لدكالة، وأمرها بأن تتوقف عن أداء الالتزامات والجبايات للدولة تعبيرا عن السخط وعدم الرضى، وعندما سارع سكان دكالة إلى الامتثال لأوامر البوعزاوي، لم يجد عامل الإقليم القايد بوعلي سلاحا يفرض به النظام على حركة البوعزاوي.. فقد ذهب كل جنوده لمحاربة بوحمارة.

وبذلك لم تجد حركة البوعزاوي من يوقفها حتى امتدت إلى الرحامنة ومراكش، ولا غرابة أن تأخذ هذا الاتجاه بالضبط.. ففي مراكش كان الخليفة المولى عبد الحفيظ يتزعم حركة الجهاد ضد الاحتلال، وضد الفساد، وضد العجز، وضد الاستسلام للاستعمار..

ولكن المخابرات الفرنسية التي كانت منهمكة في التخطيط لاحتلال الشاوية ودكالة عسكريا، بثت رجالها وسط القبائل لاستغلال دعوة البوعزاوي وممارسة النهب والخطف والقتل باسمها، فانعدم الأمن وأحرقت القصبات، واغتيل الرجال، ونهبت القبائل.. ولم يصل أكتوبر 1903.. حتى كانت كل المناطق التي يمهد الفرنسيون لاحتلالها، خرابا وأطلالا.

تتمة المقال تحت الإعلان

ورغم أن البوعزاوي كان في مراكش يبحث عن طريقة للاتصال بالمولى عبد الحفيظ، فقد كانت أيادي التخريب تمارس النهب والحرق في سطات.

واضطر القائد البوعزاوي – أمام هذه المناورات – إلى قطع محاولاته والاتصال بالسلطان المولى عبد العزيز في دجنبر 1903، الذي وجه إليه لدعمه ثلاثة آلاف رجل من القبائل، الجيش، الشراردة والأوداية، بقيادة عمه مولاي عبد المالك، الذي وصل إلى الدار البيضاء ليسترد للمولى عبد العزيز صولته على هذا الإقليم، وقد لقي الطرق مفتوحة والمعنويات عالية، ويقول مارتان مؤلف كتاب “أربعة قرون من تاريخ المغرب”: ((كيف لا يؤيد الناس عم السلطان وقائد جيشه هو الزعيم البوعزاوي، الذي سمي يوم 11 فبراير 1904 خليفة لمولاي عبد المالك..)).

وهكذا رد الفقيه البوعزاوي الحقيقة إلى نصابها، فهو يدعو إلى الإصلاح لا إلى الفتنة، إلى البناء لا إلى الهدم، وهو نوع من الرجال خليق بأن تتوجه عناية القيادة العسكرية الفرنسية إليه والإشارة إليه وإلى نشاطه في كل تقاريرها ونشراتها، لذلك بقي اسمه مفروضا على التاريخ وعلى الأحداث.

تتمة المقال تحت الإعلان

مولاي عبد الحفيظ يتنازل عن الألقاب

وما كان الفقيه البوعزاوي ليتنازل عن أهدافه ومبادئه مقابل منصب أو جاه، بل إنه وجد أن الإطار الذي يعمل فيه لم يكن يوفر له ظروف الإصلاح الذي يتوق إليه، وبينما الفقيه البوعزاوي في حيرة من أمره يعاني أزمة الضمير، ويتتبع أخبار المناورات الداخلية والخارجية، جاءه مرسول في شهر ماي 1906، من طرف المولى عبد الحفيظ، يدعوه إلى الاجتماع به في مراكش.. إن المولى عبد الحفيظ الذي كان يخوض حربا مزدوجة ضد أخيه وضد الاحتلال، لم يجد بدا من مد يده إلى الزعيم المجاهد، وكان على الرجلين أن يختليا في قمة سجلها الملاحظون دامت شهرا كاملا من المحادثات.

وإذا كان الناس لم يعرفوا من كان بين الرجلين يؤثر على الثاني، هل كان المولى عبد الحفيظ يهيئ البوعزاوي للوزارة في السلطنة، أم كان البوعزاوي يهيئ المولى عبد الحفيظ للالتحاق بالمجاهدين ضد الاحتلال. المهم أنه في شهر جوان 1906، وبعد انتهاء قمة الرجلين، خرج المولى عبد الحفيظ ليعلن على رؤوس الملأ تنازله عن المسؤوليات والألقاب، ويعلن نفسه جنديا من بين جنود الرماية هو والبوعزاوي في جيش يجاهد ضد الاحتلال بقيادة ضابط أكثر منهما حنكة وخبرة ودراية في شؤون الحرب، وهو الضابط العسال ولد الخدير الحمري.

تتمة المقال تحت الإعلان

وتم الإعلان عن هذا القرار الخطير في سوق عمومية جاءت إليها قبائل أولاد بورزق دكالة، العونات، أولاد فرج، بني مسكين والرحامنة.

وفي يوليوز 1906، عقد اجتماع ضم رؤساء هذه القبائل، تم خلاله تبليغ الحاضرين بأن القوات الفرنسية تحضر لاحتلال الدار البيضاء، وأن خليفة السلطان بالدار البيضاء، مولاي الأمين، غافل عن هذه الإجراءات منصرف إلى اللهو، فيجب إذن، أخذ زمام المبادرة ومنع الفرنسيين من احتلال الدار البيضاء.

اعتقال الزعيم البوعزاوي

تتمة المقال تحت الإعلان

وعندما عقد اجتماع ثاني في مزاب، وتم البدء في الاستعداد لتوجه جيوش المجاهدين إلى الدار البيضاء لحمايتها، أوعز من تبقى من الخبراء والمستشارين إلى السلطان المولى عبد العزيز بإصدار الأمر باعتقال روح الفتنة ومحرك الجماهير، الفقيه البوعزاوي.

وصدر الأمر إلى كوكبة من الجنود بالتوجه من الدار البيضاء لاعتقال البوعزاوي، وبلغ لعلم الفقيه البوعزاوي ما صدر في حقه، ومرة أخرى يتصرف هذا الرجل على مستوى عظمته، وعوض أن يشكل جيوشه التي كانت جرارة لاعتراض الكوكبة القادمة لاعتقاله، جمع رحاله وتوجه إلى فاس وسلم نفسه لحراسة السلطان قائلا: “ها أنا هنا اعتقلوني”.

وكان قرار البوعزاوي مثار استغراب، لا لدى أتباعه ولدى المولى عبد الحفيظ، بل لدى الوزراء والمستشارين وضباط المخابرات الذين يتتبعون الأحداث.

تتمة المقال تحت الإعلان

أما المولى عبد الحفيظ، فقد أخر – نتيجة لقرار البوعزاوي – دخول جيوش الجهاد للدار البيضاء.. حقا لقد تم اعتقال البوعزاوي، أو بصيغة أخرى سلم البوعزاوي نفسه للاعتقال، إلا أن شخص البوعزاوي لم يكن إلا رمزا، إذ أصبح اسمه على كل لسان، وكانت رسالة واحدة منه وهو في سجنه تكفي لإثارة القبائل وبعث روح الجهاد.

ولنأخذ نموذجا هذه الرسالة التي بعثها من سجنه بفاس إلى سكان الدار البيضاء، والتي وقعت نسخة منها في أيدي المؤلف مارتان ونشرها في كتابه نظرا لأهميتها، فهذه الرسالة تغني عن كل تعريف بالرجل وأفكاره، وهذا نص الرسالة مترجمة من اللغة الفرنسية: ((إنني أؤاخذ عليكم تخاذلكم.. كيف بالله عليكم تستطيعون النوم في خيامكم وجبالكم والعدو مستقر بأرضكم.. إنه لتخاذل أمام الكفر وأمام الكفار الذين تظنون أنهم أقوياء وما القوة إلا بالله.

فاطردوا العدو إن كنتم ترغبون في رضى الله ورسوله، وإن الذي يكتب لكم هذه السطور ليوجد حبيس الظروف، ولكن الوقت لا يسمح بالانتظار.. إنكم إذا لم تستجيبوا لدعوتي وتهبوا وتستجيبوا لدعوة الله في الجهاد، فلن يبقى لي إلا أن أوجه الدعوة لنسائكم للجهاد نيابة عنكم)).

الإمضاء: العبد الضعيف محمد البوعزاوي

هذا العبد الضعيف خاض معارك كما سيأتي ذكره ضد قوات الجنرال داماد في ضواحي الدار البيضاء، وهي معارك أهلته للزعامة العسكرية بعد الزعامة الدينية، وهو ما أهله لأن يدخل طنجة دخول الفاتحين بعد عودته من الحج، قبل أن يبلغ منه الكبر عتيا، وتخور قوته وتضعف شوكته، ويدخل الاستعمار للمغرب وكأنه كان ينتظر أن يضعف الفقيه البوعزاوي ليتمكن من دخول المغرب.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى