تحقيقات أسبوعية

نافذة على الصين | مجموعة “البريكس” وصدى الأفكار الصينية المقلق للغرب

الحلقة 06

لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..

 

إعداد: سعيد الريحاني

تتمة المقال تحت الإعلان

 

    في ظرف أسبوع واحد، حلقت الصواريخ الصينية مرتين بنجاح فوق العالم، وكان ذلك بمناسبة إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات في المحيط الهادي، أدى مهمته بنجاح قبل أن يسقط في المكان المحدد له سلفا، من طرف جيش التحرير الشعبي، الذي لا زال يواصل معركة تحرير الإنسان والأرض كما حدد له في مهمته المقدسة من طرف الحزب الشيوعي الصيني، الذي يوجد على رأسه الرئيس شي جين بينغ، وقالت وزارة الدفاع الصينية في بيان لم يرغمها أحد على إصداره: “إن صاروخا باليستيا عابرا للقارات يحمل رأسا حربيا وهميا تم إطلاقه في الساعة 8:44 صباحا بتوقيت بكين، وسقط في منطقة محددة في أعالي البحار بالمحيط الهادئ، ولم تحدد الوزارة مسار الصاروخ أو موقع سقوطه”، وإذا لم يكن بإمكان العالم متابعة مسار إطلاق صاروخ حربي دبلوماسي وهمي (والحرب لا تعترف بالأوهام)، فإن الإنجاز الثاني كان أمام الملأ قبل يومين بوجه مكشوف ويدعو للفخر، حيث نجحت “الصين الجديدة” مرة أخرى في إطلاق صاروخ فضائي من طراز “لونج مارش-2 إف”، وحمل هذه المرة المركبة الفضائية “شنتشو-19″، وطاقمها المكون من ثلاثة أفراد، انطلاقا من مركز جيوتشيوان لإطلاق الأقمار الاصطناعية في شمال غرب الصين في الساعة 4:27 صباح يوم الأربعاء بالتوقيت المحلي (20:27 بتوقيت غرينتش الثلاثاء)..

ورغم حالة الطقس الباردة، والصباح الباكر، فقد احتشد آلاف المواطنين على طول الشارع المؤدي إلى المحطة الفضائية، وفي ساحة قريبة منها، ليخصصوا استقبالا شعبيا كبيرا للأبطال الثلاثة الذين كان من المتوقع مشاركتهم في هذه الرحلة، وكانوا يلوحون بالأعلام الصينية، بينما طاقم المركبة يرد على تحايا المواطنين من داخل السيارة الذكية التي كانت مخصصة لنقلهم نحو مكان تنفيذ المهمة.. وكان الطاقم يضم كلا من كاي شوزهي (48 عاما) الذي شارك في مهمة “شنتشو-14” عام 2022، ويرافقه رائدا الفضاء سونغ لينغدونغ، وهو طيار سابق في القوات الجوية يبلغ عمره 34 عاما، وزميلته وانغ هاوزي، وتعمل مهندسة رحلات الفضاء وتعد الوحيدة في الصين.. يا لها من شجاعة عند هذه المرأة وهي تصرح كما لو أنها ستشارك في رحلة عادية، قائلة: “مثل الجميع، أحلم بالذهاب لرؤية محطة الفضاء الصينية، أريد إكمال كل مهمة بدقة وحماية بيتنا في الفضاء”، وكانت تقصد أن هذه الرحلة مخصصة للالتحاق ببعثة أخرى توجد في الفضاء، والهدف هو محاولة بناء “مقر” للبعثة على سطح القمر، كما لو أن الأمر يتعلق ببعثة دبلوماسية(..)، وفعلا وصلت وانغ هاوزي للفضاء، قبل أن تنقل عدسات الكاميرات للعالم عبر بث حي، صور التحام مركبتين فضائيتين ولقاء طاقمي الرحلتين وكأنه لقاء على سطح الأرض، حيث تبادلوا التحية فيما بينهم ومع زملائهم على المحطة الأرضية، وبدا قائد الرحلة، كاي جوزهي، وكأنه قاد سيارة أجرة نحو الفضاء، ولم تظهر على الرواد أي علامات ارتباك أو خوف.. ويأتي ذلك في زمن باتت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تعاني مشاكل كبيرة فيما يتعلق بتنظيم رحلات مأهولة نحو الفضاء(..).

تتمة المقال تحت الإعلان

ولن تقف “الغصة” الأمريكية عند هذا الحد، بل إن هذه “المشاهد الصاروخية” المتتالية جاءت مباشرة بعد نجاح قمة “البريكس” التي احتضنتها روسيا في مدينة قازان (عاصمة تتارستان)، ولم يكن من الممكن تصور أي قيمة لهذه القمة التي تأتي في وقت تتواصل فيه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما تلاه من تكتل غربي ضد الرئيس فلاديمير بوتين.. لولا حضور الرئيس الصيني شي جين بينغ، ولهذا، فقد كان نجما بلا منازع في هذه القمة، وأكثر من ذلك، خصص له المواطنون الروس استقبالا حاشدا في الشوارع بالأعلام الصينية دونا عن باقي المشاركين، بل إن مشاركة الصين هي التي أعطت الاطمئنان لمشاركة عدة قادة آخرين مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، ورئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، بالإضافة إلى مشاركة الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في القمة عبر رابط فيديو.

تبعا لذلك، نجحت القمة في أمرين: أولهما وضع حد للهيمنة الغربية، ثم كسر شوكة التحالف ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يواجه حربا بالوكالة في أوكرانيا مع كل الدول الغربية، التي كانت تسعى إلى توسيع امتداد حلف “الناتو”، لولا أن الحيلة لم تنطل على الدول “الذكية” مثل الصين، التي لعبت نقطة توازن في هذه الحرب غير المتكافئة، فلولا الصين لما امتلكت روسيا كل هذه القدرة على الصمود.

قمة مجموعة “البريكس” نجحت أيضا في وضع حد نسبي للخلاف مع الهند، التي حضر رئيسها ناريندرا مودي، وهو موقن بضرورة التعاون مع الصين، وتجاوز الخلاف حول “خط السيطرة الفعلية”، وهو مشكل الحدود الذي ساهم في كثير من التوتر منذ سنة 2012، ولكن لقاء جمع الجانبين أكد فيه الرئيس شي جين بينغ أن “المصلحة الأساسية للبلدين وشعبيهما، تقتضي بأن يكون لدى الصين والهند فهم عميق لمسار التاريخ ومسار تطور علاقاتهما”، قبل أن يضيف بأنه “يتعين على الجانبين تعزيز التواصل والتعاون، وإدارة الصراعات والخلافات على نحو صحيح، وتحقيق أحلام التنمية لدى كل منهما” و”تشجيع عالم متعدد الأقطاب”.

تتمة المقال تحت الإعلان

وكان الرئيس الصيني قد كسب تعاطف دعاة السلام عبر العالم، بدعوته خلال قمة “البريكس” الأخيرة في روسيا، إلى وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ووقف الصراع الروسي-الأوكراني، وحث دول مجموعة “البريكس” على تعميق التعاون المالي والاقتصادي، قائلا: “إن الحاجة إلى إصلاح البنية المالية الدولية أصبحت أكثر إلحاحا”..

جلوس الرئيس مودي إلى طاولة الحوار مع شي جين بينغ في قمة “البريكس”، جاء أيضا بعد  سلسلة اجتماعات تحضيرية، قادها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، وهو أيضا عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، ويعد أحسن وزير خارجية في السنين الأخيرة، ورمزا للقوة الدبلوماسية الصينية الناعمة من حيث تجربته الطويلة، ومن حيث كونه جالس جل مسؤولي الحكومات عبر العالم، هذا الأخير باعتباره جندي الاستطلاع الأول بالنسبة للصينيين، كان قد أعلن بنفسه استعداد الرئيس للحضور (المقصود شي جين بينغ)، والتقى المسؤولين الروس، وعلى رأسهم وزير الخارجية سيرجي لافروف، وقبلها عقد اجتماعات رفيعة المستوى مع جل المعنيين، وفي كل مرة كان يقيس عوامل نجاح القمة التي عقدت في نقطة ساخنة، هي روسيا.

قمة “البريكس” في قازان، ودون كثير من الكلام، نجحت في فك العزلة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تحاول الأوساط الغربية تهديده، بحكم اعتقال صادر عن المحكمة الجنائية الدولية(..)، وهي نفسها المحكمة التي تقف عاجزة أمام جرائم نتنياهو في غزة.. كما نجحت القمة في اتجاه عودة الهند إلى صوابها، لأن أقل ما قد يجنيه الرئيس مودي من التعامل مع الغرب، وهو الآن يواجه غضب المسلمين عليه، هو ثورة داخلية تأتي على الأخضر واليابس والنهاية معروفة، بنفس السيناريو الغربي: “حكومة داخلية وحكومة خارجية ومبعوث أممي وأرض مقسمة، وطوائف متناحرة، وحقوقيون وجواسيس من كل مكان، ورفس البنيات التحتية تحت أقدام جيوش من هنا وهناك.. وبعدها دعوات لوقف إطلاق النار وضبط النفس، ثم نزاع حول الشرعية، وأخيرا موعد مع الخراب الذي يسمى بالربيع الديمقراطي”..

تتمة المقال تحت الإعلان

إن “البريكس” تمثل إحدى واجهات إشهار القوة الناعمة للصين، وإن كان الصينيون يفضلون تسجيل حضورهم في هذا العالم بتواضع كبير، فهم ما زالوا مصرين على تسمية دولتهم بالدولة النامية، رغم الصواريخ والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الأول والبنيات التحتية العملاقة، كما أنهم لا يصفون أنفسهم بأنهم زعماء داخل منظمة “البريكس”، التي تشكل فعلا تحركا عالميا رافضا للهيمنة الغربية(..).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى