تحليلات أسبوعية

تحليل إخباري | حكاية ماكرون.. والأميرة والقرصان والسلطان

محمد السادس يعيد فرنسا إلى أيام الإمبراطورية المغربية 

ماري آن البوربونية (Marie-Anne de Bourbon)، هي شابة نبيلة فرنسية، وابنة غير شرعية للملك لويس الرابع عشر، أمها هي لويز دو لا فالييه، تقول بعض المصادر أن السلطان المغربي مولاي إسماعيل أرسل سفيره في فرنسا لخطبتها، بعد أن اقترح هذا السفير نفسه الفكرة على السلطان(..)، غير أنه لا يوجد دليل على هذا الكلام، ويفضل الكثير من الباحثين الفرنسيين الترويج للجانب المأساوي من قصة هذه الشابة التي تزوجت في سن الثالثة عشر من أمير يبلغ سنه الثامنة عشر، ولكن اللعنة طاردت هذا الزواج، رغم أن أمها كانت قد حصلت على لقب تشريفي من الملك لويس وهو “دوقة لا فالييه”، حيث اعتبر الفرنسيون وقتها أن هذا التصرف غير مقبول من الملك الذي اختار تزويج أبنائه غير الشرعيين من داخل الأسرة المالكة، ولكن المشكل الكبير كان في هذا الزوج نفسه، واسمه الأمير كونتي لويس، هربت منه العروس ليلة الزفاف، وبقيا بدون أولاد.. وبعد أقل من خمس سنوات من هذا الزواج، أصبحت ماري أرملة بعد وفاة زوجها، ليسميها الفرنسيون وقتها “الأرملة البوربونية”.

إعداد: سعيد الريحاني

    قصة هذه الشابة، الأميرة، التي تمت خطبتها من طرف سلطان المغرب، لم يكن يوجد دليل على حدوثها فعلا، منذ القرن 17، ولكن القصة انبعثت بشكل رسمي من جديد تحت قبة البرلمان المغربي، وها هو رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون يعترف بوقوع هذه الخطوبة.. ماذا لو أن هذه الشابة تزوجت سلطان المغرب، علما أن السلطان وقتها عاش 83 سنة(..) ؟

تتمة المقال تحت الإعلان

فقد أكد الرئيس الفرنسي بمناسبة زيارته الرسمية الأخيرة إلى المغرب، وسط حشد البرلمانيين المغاربة، والوزراء الفرنسيين، وسفراء البلدين، وكثير من المثقفين الفرنسيين، صحة هذه الواقعة، عندما استدعى اسم السفير عبد الله ابن عائشة ضمن حديثه عن التبادل التاريخي للسفراء بين البلدين، وخص بالذكر السفير عبد الله ابن عائشة (سفير سلا)، الذي تم إرساله إلى فرساي لخطبة ابنة الملك لويس 14 (كما أكد ذلك ماكرون)، هذا الملك الفرنسي ذو الحكم الاستبدادي المطلق الذي كان يقول: “أنا الدولة، والدولة أنا”، واعتمد في نظام حكمه على الطاعة.. وكان السفير ابن عائشة قد شاهد ابنة الملك فاقترح على السلطان مولاي إسماعيل الزواج منها..

مثل “فيلم سينمائي”، قصة السفير المغربي ابن عائشة، الذي كان مبعوثا إلى قصر فرساي أيام كانت فرساي أهم من باريس، وقتها كانت مكناس أهم من الرباط(..)، قصة أشبه بالخيال.. فهذا الدبلوماسي الشجاع والمحنك، كان رمزا للبطش بالسفن الأوروبية في عرض البحر بعدما امتهن القرصنة البحرية أيام “جمهورية الرباط سلا”.. ولكن الأقدار صنعت ذلك التقارب بين “القرصان” والسلطان.. ويا لها من مفارقة، فالدبلوماسي ابن عائشة هو الأدميرال والقرصان البحري الذي كان يصول ويجول بسفنه في المياه المجاورة لفرنسا وإنجلترا، والدانمارك والبوغاز وقادش.. وكانت له وسائله وطرقه المرعبة لترصد السفن القادمة من أمريكا، غير أن قصته مع القرصنة انتهت به أسيرا لدى الإنجليز قبل إطلاق سراحه.. ودار الزمان دورته، قبل أن يعود إلى إنجلترا بصفته مبعوث السلطان المغربي لتهنئة ملك الإنجليز جيمس الثاني، وبعد ذلك ذهب سفيرا لفرنسا، في وقت كانت تتسم فيه العلاقات المغربية الفرنسية بالجمود، وكان ابن عائشة يوصف في بعض الكتابات التاريخية بـ”العدو اللدود لفرنسا”..

الرئيس الفرنسي ماكرون في البرلمان المغربي

المهم، أن الرجل الذي شغل الناس أيام القرصنة التي تحولت إلى جهاد بحري أيام السلطان مولاي إسماعيل، هو نفسه وجد مكانا في خطاب الرئيس ماكرون داخل البرلمان المغربي، بل إن الرئيس الفرنسي صادق على خطوبة ابنة الملك لويس 14.. ماذا لو صادق الفرنسيون على هذه الخطوبة قبل قرون؟ ماذا لو تزوجت ابنة الملك بسلطان الجهاد، الذي اقترح عليها الحفاظ على دينها؟ ماذا لو كان ابن عائشة قد خطط من خلال مشروع المصاهرة بين المغرب وفرنسا للقضاء نهائيا على المشاكل العالقة بين البلدين(..) ؟

تتمة المقال تحت الإعلان

استدعاء تاريخ ابن عائشة من طرف ماكرون، أي أن الرئيس الفرنسي رجع إلى ذلك الزمان الذي كان فيه الأوروبيون يخافون من المغاربة ومن القرصنة البحرية التي تحولت إلى جهاد(..)، هو في نفس الوقت استدعاء لحقبة السلطان مولاي إسماعيل، وقد ((نودي بمولاي إسماعيل سلطانا على البلاد في اليوم السادس عشر من شهر ذي الحجة الحرام لسنة اثنتين وثمانين وألف، الموافق للسابع والعشرين من شهر مارس عام اثنين وسبعين وستمائة وألف، وهو يبلغ من العمر ستة وعشرين عاما، وإذا كانت رقعة المملكة تمتد آنذاك من “رأس أشقار” بطنجة في الشمال إلى “قلعة أرغان” بالقرب من ساحل غينيا في الجنوب.. وكان اتساعها من الرأس المذكور إلى أحواز تلمسان بالشرق، أي 10 درجات تقارب ألف كيلومتر، فإن أهم ثغورنا على البحر المتوسط والبوغاز والمحيط جميعا كانت في قبضة العدو، وكان مولاي إسماعيل يعتبر امتلاك النصارى لتلك المواقع الهامة من أرضنا خزيا وسبة وتحديا، وقد أخذ نفسه الكبيرة بإتعاب جسمه القوي في تحقيق مرادها الذي هو تطهير المملكة، فسار في ذلك السبيل شوطا بعيدا..)) (المصدر: مجلة “دعوة الحق”).

مولاي إسماعيل لمن لا يعرفه، هو سلطان الجهاد، وقد عايش أكبر ملوك أوروبا، وعلى رأسهم لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، وجاك الثاني ملك إنجلترا، والمولى إسماعيل هو الذي قيل عنه ما يلي، بعيدا عن كونه سلطانا للحرب ضد الاستعمار: ((هو إسماعيل أبو النصر بن الشريف بن علي الينبوعي السجلماسي العلوي الحسني، السلطان الذائع الصيت في المشارق والمغارب، فخر ملوك المغرب الأقصى.. تربى في أحضان الشرف والطهر ببيت الملوك الأشاوس، فحفظ كلام رب العالمين، وتربى على مبادئ الشريعة الإسلامية تربية دينية صالحة، وتلقى دراسته العربية والفقهية والتاريخية على يد أكابر علماء مسقط رأسه، وكان يتكون تكوينا جسمانيا، فيركب الخيل ويتدرب على حمل السلاح والرماية، فكان له ما أراد، اشتد ساعده وعظمت مكانته، وظهرت نجابته وكفاءته، فاتخذه أخوه المولى الرشيد خليفة له، فأحسن السير وضبط أحوال الأمة، ورفع مقام العدل والاحترام بين الرعايا، وأصبح يتمتع بسمعة عظيمة ومكانة عالية، كان عارفا بفلسفة التاريخ وأيام العرب وأنسابها وأحوال الأمم، ووقائعها إماما مرجعا إليه في السيرة النبوية وضبطها.. كان رجل السيف والثبات، لجلالته مواقف تشرف في اجتثاث ما يسخط الله تعالى، وطني غيور حر الضمير، صلب في دينه، متمسك بحبله المتين، يعاقب العقوبة الصارمة كل من ظهرت منه مخالفة في الشعائر الإسلامية، أو مروق من الدين)) (نفس المصدر).

وبغض النظر عن الأسماء الأخرى التي حضرت في خطاب ماكرون، فقد كان خطابه مليئا بالتاريخ، لدرجة أنه عاد إلى زمن الإمبراطورية المغربية الشريفة الذائعة الصيت، وقد نجح الملك محمد السادس في إعادة الفرنسيين إلى سكة التخاطب مع المغرب كإمبراطورية.

تتمة المقال تحت الإعلان
صورة السفير ابن عائشة والاميرة «البوربونية» كما تخيلهما الرسامون

الواقع، أن الرئيس الفرنسي الذي كان يتحدث تحت سقف البرلمان المغربي في جلسة يترأسها رئيس مجلس النواب رشيد الطالبي العلمي، ورئيس مجلس المستشارين محمد ولد الرشيد، كان مثالا لـ”البرلماني” المغربي المقتنع بقضايا “وطنه”، والملم بأدق التفاصيل التاريخية، ولا شك أن طريقة ماكرون في سرد الأحداث، رغم الفشل التواصلي الذريع للحكومة، ووسائل الإعلام العمومي في ترجمة هذا الخطاب إلى لغة يفهمها الشعب، ستسجل حضورها فيما سيلي من الأحداث، لا سيما فيما يتعلق بقضية الصحراء.. وكان الرئيس الفرنسي قد استحضر في كلامه أيضا، العديد من رجال السلاطين المغاربة، بالإضافة إلى ابن عائشة، ومنهم السفير الخطاط إدريس العمراوي، الذي نقل للسلطان محمد الرابع أحوال فرنسا سنة 1860 (حسب قول ماكرون بنفسه)، ومن غرائب الزمان أن يستشهد الرئيس الذي يتحدث لغة موليير، بصاحب كتاب “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” وكتاب “تحفة الملك العزيز في مملكة باريس”..

وللتاريخ أيضا، فعندما وصل السفير العمراوي إلى مارسيليا، وصفها بالقول: ((هذه المدينة كبيرة تقارب مدينة فاس في الكبر، وهي بلاد تجارة وباب إقليم فرنسا، ولها مرسيان: شرقي وغربي، فيهما المراكب ما يزيد عن الثلاثمائة، والمرسى كالخليج الراكد يشق وسط المدينة حتى إن بعض المراكب تدخل حتى ترسي أمام حانوت صاحبها أو داره، فنقل السلع من المركب للدار أو الحانوت من غير وساطة، وشوارعها متسعة، وأبنيتها عالية متقنة))، وعندما وصل إلى باريس قال: ((هذه المدينة كبيرة جدا من أكبر مدن الدنيا، يقال: إن أعظم مدن الدنيا ثلاثة: قسطنطينية العظمى التي هي إسطنبول، حرسها الله وعمرها بدوام ذكره، والوندريز (لندن) وهي قاعدة ملك الإنجليز، والفرنسيس يزعمون أن هذه المدينة أكبر من هاتين، أما أنا، فلا أقدر أن أصف كبرها ولم أكن أظن أن في الدنيا مدينة قبل أن أراها مثل تلك…))، كما تحدث عن بعض العادات لدى سكان باريز ومنها أن المرأة هي رئيسة البيت والرجل تابع لها، ويورد مثلا باريسيا إذ يقول: ((باريز جنة النساء وجهنم الخيل))، ويصف المؤلف مدينة باريس بالمدينة التجارية إذ يقول: ((.. وأكثر تكسب أهل هذه المدينة من التجارة، والتجار عندهم معتبرون اعتبارا زائدا، وهم ركن من أركان الدولة، وكلما زاد مال الرجل عندهم ونجحت تجارته كان أرفع منزلة وأعظم مكانة.. وقد بلغنا أن لهم دارا يتعلمون فيها كيفية التجارة كما يتعلمون الكتابة والحساب وغير ذلك… ولهم دار يجتمع فيها التجار ساعة في كل يوم يتعاطون فيها أخبار السلع النافذة والكاسدة وأخبار السكك وكيفية روجانها في البلدان واختيار “الفابريكات” (المصانع) و”الكنطرادات” (العقود)، وغير ذلك)) (المصدر: “تحفة الملك العزيز بمملكة باريز”/ من أدب الرحلات للسفير إدريس العمراوي/ تقديم وتعليق د. زكي مبارك/ عرض د. مصطفى محمد العبد الله).

وبغض النظر عن هذه الشخصيات التاريخية، التي تعود لزمن الإمبراطورية الشريفة المترامية الأطراف(..)، فقد نال الرئيس ماكرون تصفيقات كثيرة من البرلمانيين المغاربة داخل قبة البرلمان بترديده نفس الكلام الذي ظل يردده الملك محمد السادس، حتى في الأزمة الصعبة للقضية الوطنية، عندما كان يتم التشكيك فيه من طرف خصوم المغرب، وبعض وسائل الإعلام الفرنسية، التي نشرت اليوم كلام الرئيس ماكرون مترجما ومفصلا، وبطريقة احتفالية، أقوى من بعض وسائل الإعلام المغربية، التي ربما اندهشت من هذا الموقف “الماكروني” الذي يؤسس لعلاقة جديدة مع فرنسا، القوة الاستعمارية سابقا، وقال ماكرون: ((بالنسبة لفرنسا، الحاضر والمستقبل على هذه الأرض (الصحراء)، لا يمكن أن يكون إلا تحت السيادة المغربية))، وأضاف، مقتنعا ومقنعا: ((إن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الذي اقترحه المغرب، هو المرجع الذي يجب أن تحل في إطاره هذه المسألة.. وأن الاقتراح الذي قدمه المغرب في عام 2007 يشكل الأساس الوحيد للوصول إلى حل سياسي عادل ومستدام ومتفاوض عليه طبقا للقرارات الأممية)).. أليس هذا ما كان يقوله الملك محمد السادس، والشعب المغربي؟ لقد كانت مداخلة الرئيس ماكرون تحت قبة البرلمان المغربي، وهو الذي عرف بمواقفه العدائية سابقا، بمثابة الثوبة في حضرة أمير المؤمنين، وربما لم يبق له سوى أن يقول: “عاش الملك” كما يقولها المغاربة، وهي العبارة التي سمعهم الرئيس ماكرون يقولونها خلال استقباله الشعبي، كما قالوا له “أهلا بك في صحرائنا”، و”الصحراء مغربية”.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى