تحقيقات أسبوعية

نافذة على الصين | “الصين الجديدة”.. قصة شابة ناجحة عمرها 75 سنة

الحلقة 02

لا يمكن الحديث عن القوى العظمى في العالم الحديث دون الحديث عن دولة “الصين الجديدة”.. فما حققته من إنجازات عملاقة مدنيا وعسكريا واجتماعيا وإداريا، كان مجرد “حلم صيني” بعد سنوات من القهر والحرمان والاستعمار.. ولكن اتباع النظام لسياسة “الإصلاح والانفتاح” بعيدا عن نموذج “التعلم من الدول الغربية”، جعل “الباندا” الصينية، التي لا تفضل السبات بخلاف باقي أنواع الدببة.. تنهض من جديد لتفرض قوتها الناعمة على العالم، إما بـ”خيوط من حرير” أو بتوازنات دبلوماسية وعسكرية كبرى، وفوق كل ذلك، فقد وصلت البلاد إلى أحد أقوى أنواع التماسك الاجتماعي، قوامه أكثر من مليار و400 مليون نسمة، خرجوا ليصدروا ثقافتهم إلى العالم منتصرين على الفقر والجهل والاستلاب المعرفي والثقافي.. وهي المعركة المتواصلة منذ زمن المؤسس ماو تسي تونغ إلى زمن الرئيس شي جين بينغ.. فيما يلي تنقلكم “الأسبوع” إلى قلب التجربة الصينية عبر هذه النافذة الأسبوعية..

بقلم: سعيد الريحاني

    يقول المثل “دوام الحال من المحال”، وعلى غرار نفس الكلام يقول الرئيس الصيني شي جين بينغ، أن الصينيين يؤمنون بفلسفة تقول بأن “الطريق المسدود يستلزم التغيير وبه يتم إيجاد طريق مفتوح”، وقد عرف الصينيون منذ 75 سنة أن “طريق الغرب” لن تجلب الخير لبلادهم، و”التغيير” كله بدأ ذات يوم عندما وقف المؤسس ماو تسي تونغ، على الساعة 3 مساء وسط ميدان “تيان آن من” في بيجينغ (بكين)، ليعلن بداية عهد جديد، ويخوض بعدها معركة كسر العظام لمدة طويلة مع “خمس فئات” كان يصنفها ضمن فئة الأعداء، وهذه الفئات بخلاف “أصدقاء الحزب الشيوعي وحماة الثورة”، وهم في أغلبهم فلاحين فقراء ومتوسطي الدخل وعمال وجنود، وسياسيين ثوريين، وعائلات ضحايا جيش التحرير الشعبي.. أما “الفئات الخمس” التي رفضها ماو.. فقد ضمت “مجموعة من أصحاب الأراضي والملاكين الكبار، إضافة للفلاحين الأثرياء، ومناصري الثورة المضادة، والمؤثرين السلبيين، واليمينيين”.

تتمة المقال تحت الإعلان

إن “من يقول العصيدة باردة عليه أن يضع يده داخلها”، هكذا يقول المثل، وقد وجهت عدة انتقادات لماو، لكن كل هذه الانتقادات يكذبها إنجاز كبير على أرض الواقع حققه الحزب الشيوعي الصيني.. فقد تحولت البلاد التي تضم اليوم ما يناهز مليار و500 مليون نسمة، إلى نموذج واقعي للتطور الحضاري والعمراني، والبذخ الحضاري، وانتشرت ناطحات السحاب في كل مكان، وبخلاف ما يجري في بلدان أخرى بما فيها البلدان الغربية، فإن التنمية في الصين تعد شيئا ملموسا، فعند تأسيس الصين الجديدة كان 80 في المائة من السكان “أميين”، أما اليوم، فقد تجاوزت نسبة التعليم العالي في أوساط الشعب نسبة 60 في المائة، وانتقل الناتج الداخلي الخام من 67.9 مليار يوان (العملة الصينية)، إلى 126 تريليون يوان، مقارنة مع سنة 1952..

قاد ماو تسي تونغ البلاد بين أمواج عاتية ومنعطفات حاسمة، من الحرب الأهلية إلى هزيمة القوة اليابانية المستعمرة، ودحر قوات “الكوميتانغ” بقيادة تشيانغ كاي تشيك، الذي هرب إلى جزيرة تايوان ليطالب بانفصال مزعوم(..)، إلا أن هذا الانفصال المدعوم من طرف الغرب، لا سبيل لتحقيقه على أرض الواقع إلى اليوم، بل إن التايوانيين يعرفون أكثر من غيرهم أنهم جزء لا يتجزأ من “الصين الموحدة”، وإلى اليوم، لم يتم دفن كاي تشيك، وعلى الأرجح أنه سيدفن في بلاده، الصين، بدلا من هذا الكيان(..).

اليوم تحتفي “الصين الجديدة” بعيدها الوطني، والعيد الوطني هنا ليس مجرد عطلة فحسب، بل هو مناسبة للاحتفال الشعبي، حيث يلبس المواطنون أفضل ما لديهم، ليشاركوا في الاحتفالات التي تعم جميع أنحاء البلاد، وتتراوح الفرحة بين المشاركة في العروض الباهرة للشهب، أو طائرات “الدرون” الملونة، التي باتت تطير هنا بالآلاف لترسم لوحات متحركة في السماء، وفي بعض المرات، يصل الاحتفال إلى درجة إقامة عروض عسكرية ضخمة.. والرسالة في هذا الصدد مفهومة لدى الجميع..

تتمة المقال تحت الإعلان

مع كل هذا التطور، مازال الصينيون يفضلون تسمية بلادهم بـ”البلد النامي”، رغم أنهم يمتلكون اليوم أحسن نموذج عالمي للتحضر، وحكامة المدن والقرى.. بل إن الصين تمتلك اليوم “القوة”، وهو ما يجعلها لاعبا أساسيا في كل القضايا الدولية، رغم أنها تفضل مواصلة إطلاق “خيوط حريرها الناعم” في مختلف الاتجاهات بدل الدخول في النزاعات المسلحة، وهي وإن كانت تعد القوات الأولى عالميا في مجال “حفظ السلام”، فإنها لا تتدخل في الصراعات العسكرية والانقلابات الداخلية، وتفضل التعاون الاقتصادي والتنمية المشتركة..

وبغض النظر عن هذا المسار من الكفاح الطويل لـ”دولة الحزب والشعب”، فإن الحديث عن “الصين الجديدة” لا يمكن فصله عن الحديث عن تطور الحزب الشيوعي الصيني، الذي نجح في تطوير نفسه بخلاف ما وقع لـ”الشيوعية” في الاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال(..)، ويرجع الفضل في نجاح البلاد، إلى التطبيق الصارم لسياسة “الإصلاح والانفتاح”، وهي المبادئ التي تم الشروع في تطبيقها منذ سنة 1978، في عهد رئاسة المنظر والرئيس دينغ شياو بينغ، هذا الأخير كان يؤمن بأن 50 سنة كافية لتصبح بلاده من أقوى البلدان في العالم، وهو ما حدث فعلا، بل إن 50 سنة لم تنته بعد(..)، وها هو الرئيس شي جين بينغ يقود البلاد نحو مستقبل الذكاء الصناعي والتنمية البشرية المشتركة للعالم، فالصينيون لا يحبون الانتظار.. إنهم يعملون في صمت مثل قيادتهم(..).

“الإصلاح والانفتاح” هي رسالة جيل لجيل، ويرجع الفضل في هذه السياسة إلى خلق “اشتراكية ذات خصائص صينية”، وهي ليست اشتراكية متزمتة جاحدة، بل إنها اشتراكية تعمل دون انقطاع على تطوير كافة أشكال الملكية، ولا “تنكر” الرأسمالية، وإنما تنفتح عليها بقيود محددة سلفا من طرف القيادة، التي لا تنتج “الأوامر” فقط، بل إنها تنتج الفكر اللازم للإقناع، ولا يعد هذا الأمر غريبا إذا عرفنا أن قائدا مثل دينغ شياو بينغ هو الذي دفع في اتجاه الانفتاح على العالم، وتكوين الأطر اللازمة في الخارج.. إنهم “التكنوقراط”، ولكنهم ليسوا مثل التكنوقراطيين المنسلخين من هويتهم في البلدان الغربية والبلدان المتأثرة بها، إنهم في خدمة الوطن، ووطنيون صادقون إزاء بلادهم، ولا يحملون جنسيات مزدوجة كما يحصل في بعض البلدان.

تتمة المقال تحت الإعلان

اليوم، تواصل الصين الجديدة مسيرتها في عالم متغير، وقد تم الرهان من طرف الحزب والشعب على شخص القائد شي جين بينغ، الذي بدأ مسيرته كـ”طالب فلاح جندي”، ثم تدرج بين مختلف أنواع المسؤولية، قبل أن يتسلق سلم الثقة داخل الحزب الشيوعي الصيني، ثم يصبح من أقطابه، وها هو اليوم يشغل بالإضافة إلى كونه رئيسا للبلاد، مهمة رئيس اللجنة العسكرية المركزية في جمهورية الصين الشعبية، والأمين العام للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني وعضو اللجنة الدائمة لمكتبها السياسي، ويرأس اللجنة العسكرية المركزية للحزب.. وليس هذا فحسب، بل إن الرئيس نفسه الذي بات يشكل نواة للحزب والدولة، يعد أول محاربي الفساد، ما أدى إلى سقوط رؤوس كبيرة في الحكومة والحزب.

في الصين، لا بد أن تجد نفسك مجبرا على الحديث عن “التحديث الصيني النمط” و”الجودة العالية” بخلاف ما يروج في البلدان الخاضعة لمنطق الدعاية الغربية، حيث أن منتوجات الصين تتمتع بجودة عالية جدا، بل إن كل الماركات العالمية الفخمة من ملابس وعطور وسيارات.. تحاول إيجاد مكان لها باحتشام في هذا السوق الكبير، والحق يقال: إن بعض الشركات المتخصصة في التكنولوجيا والهواتف النقالة، قد لا تجد لها مكانا في الصين، بعد أن تجاوز الذكاء الصناعي الصيني كل الحدود.. إن جل الشركات العالمية استسلمت لتضع كل خبراتها داخل “خطوط الإنتاج” المتكاملة الصينية، ويمكن القول إن بعض الشركات العملاقة لم تعد تملك مما تنتجه سوى “الاسم فقط”، أما الإنتاج والتقنية فهما صينيان، وقد ينضاف إليهما التوزيع أحيانا(..).

كل هذا النجاح الذي تحقق في 75 سنة فقط (انطلاقا من الروح القديمة)، يجعل الصين أجمل وأذكى دولة شابة في الكون، علما أنها تواصل تطوير نفسها لتفادي نتائج “دوران عجلة الزمن”، وقد اشتهر الرئيس شي جي بينغ داخل الصين وخارجها، بحرصه على استعمال لغة صينية تقليدية، وبطريقة إلقاء تندرج في إطار السهل الممتنع، وهو يصر في كل مرة على اقتباس عدة أمثال منها ما هو عالمي ومنها ما هو صيني، وأحيانا يجري المقارنات اللازمة، ومن ذلك قوله: “روما لم تبن في يوم واحد؛ الرحلة الطويلة تسير خطوة بخطوة؛ الطائر يبني عشه شيئا فشيئا؛ عمود واحد لا يبني بيتا؛ الشدائد تقوي المرء والتلميع يرقي اليشم (نوع من الأحجار الكريمة الصينية)؛ لا تنزل مجادفك فقط لأن الأمواج ترتفع؛ هذا أفضل عصر وأسوأ عصر..”، فهنيئا للشعب الصيني وكل عام والصين بخير.

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى