المنبر الحر | قراءة في كتاب “العوالم الرمزية: الفن والعلم واللغة والطقوس”
بقلم: عائشة بوزرار
يسلط كتاب “العوالم الرمزية: الفن والعلم واللغة والطقوس”، الضوء على وظيفة الرموز في مجالات الثقافة والمعرفة المختلفة، مثل دورها في التعبير والابتكار ونقل المعاني، ذلك أن الدلالة هي العلاقة بين الرمز أو الإشارة والمعنى الذي يراد منه، فالكلمات والصور ولغة الجسد تتخذ من الرموز والإشارات التي اجتمع الناس على ما تدل عليه، وتختلف الدلالة حسب السياقات الثقافية والزمانية، فهي عملية اجتماعية تهدف لإنتاج المعاني من خلال تحديد قواعد ثابتة بين الدال والمدلول، وتشمل وحدات الدلالة مختلف أنواع الرموز والإيماءات التي يستخدمها الناس للتواصل وإيصال المعاني.
إن الحديث عن الرموز والالتباس في اللغة والصور، تكمن في أنها تحمل دلالات متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان، والتي قد تؤدي إلى سوء الفهم، وتعتمد معاني الرموز والصور بشكل كبير على السياق الثقافي والتاريخي الذي يُنظر إليها فيه، وما يعتبر واضحا لمجموعة ما قد لا يكون كذلك بالنسبة لمجموعة أخرى، كما تستخدم الرموز والصور أحيانا لتأثيرات بلاغية مثل التلميح أو خلق توتر متعمد، وهذا يمكن أن يؤدي إلى الالتباس أو التأويل المتعدد، وقد تؤدي عملية الترجمة أو النقل بين الثقافات إلى فقدان بعض دلالات الرموز أو إضفاء معان جديدة عليها.
هناك عدة نقاط مهمة حول الرمز والاستعارة في السياق والبواعث الرئيسية للاستعارة، التي يتم من خلالها فهم الرمز أو الاستعارة بشكل أفضل عندما ينظر إليها في سياقها اللغوي والثقافي والتاريخي، فالسياق هام لتفسير الدلالات والمعاني، وغالبا ما تأتي الاستعارة لتوضيح مفهوم معقد أو مجرد عن طريق ربطه بمفهوم مألوف، وهذا يسهل الشرح والفهم، وكثيرا ما تستخدم الاستعارة للتلميح أو إضفاء أبعاد جديدة على المعنى من خلال الاقترانات غير المتوقعة، وأيضا غالبا ما تحمل الاستعارات دلالات وعواطف رمزية، مما يجعلها وسيلة فعالة للتأثير العاطفي، فالاستعارة تساعد على تخيل المفاهيم المجردة وربطها بالخبرات البشرية الملموسة، وتختلف الاستعارات ودلالاتها حسب الثقافات والعصور، لذا يجب فهم السياق بعناية لتحليلها.
يمكن اعتبار الرمز نوعا من اللعب، حيث يشير إلى شيء آخر غير المعنى الحرفي، وهذا يتيح المجال للتأويل واستكشاف أبعاد جديدة للمعنى التي يستخدمها الفنانون لإضفاء طابع لغزي أو تأملي على أعمالهم، مما يحفز المتلقي على التفاعل والتأويل كما تتيح الرموز والإشارات غير المباشرة قدرا كبيرا من الحرية الإبداعية للفنان، لأن معانيها غير ثابتة بالضرورة، على اعتبار الفن نفسه شكلا من أشكال اللعب الرمزي والتجريبي، حيث يخلق رموزا جديدة للتعبير عن رؤى وتجارب بشرية.
وللرمز دور هام في فنون الأداء، مثل الموسيقى والرقص والمسرح، حيث تتيح قدرا كبيرا من التفسير والتأويل، فالرمز هو جوهر التعبير الفني، ومجال خصب للعب الرمزي والإبداعي، الذي يلعب الرمز دورا هاما في كل من الفن والعلم والدين.. ففي الفن، يعتمد التعبير الفني بشكل كبير على استخدام الرموز لنقل المعاني والمشاعر بطريقة غير مباشرة، وتتيح الرموز مجالا واسعا للتأويل والتفسير، مما يجذب المتلقي للتفاعل مع العمل الفني، وتحمل الرموز في كثير من الأحيان دلالات ثقافية وتاريخية يستند إليها الفنان في إبداعه، أما في العلم، فتستخدم الرموز لتمثيل المفاهيم والعلاقات المجردة، لما يلعبه من دور مهم في بناء النماذج والنظريات العلمية، التي تساعد على تبسيط المعلومات العلمية المعقدة وشرحها، وفي الدين، فالرموز الدينية تحمل معان عميقة تتجاوز المعنى الحرفي، تساعد على التعبير عن المفاهيم الروحية والمعتقدات بشكل غير مباشر، وتلعب دورا هاما في الطقوس والشعائر الدينية، فالرمز أداة أساسية للتعبير في هذه المجالات.
تحتوي الطقوس عادة على رموز تحمل معاني روحية أو رمزية تجاوز المعنى الحرفي للفعل، مثل استخدام النار في بعض الطقوس لتمثيل التطهر، على اعتبارها تساعد على توحيد المعتقدات والأفكار ونقلها للأجيال القادمة من خلال الطقوس، التي تخلق الرموز جوا من الانسجام والترابط بين المشاركين في الطقس.
أحد أبعاد الطقوس هو البعد الرمزي الذي يرتبط بالمعاني والقيم الكامنة وراء الرموز المستخدمة، قد تتغير الرموز أو تعدل مع تغير الظروف الاجتماعية أو الثقافية، مما يؤدي إلى تحول الطقوس تدريجيا.
فالرموز تعبر عن هوية المجتمع وتاريخه وعاداته، لذا فإن تغيير الرموز قد يؤدي إلى تغيير في طبيعة الطقوس، مثلما يستخدم العلماء الرموز لتمثيل المفاهيم والعمليات التجريبية والنظريات العلمية، مثل الصيغ الكيميائية أو المعادلات الرياضية، فهي تبسيط الأفكار العلمية المجردة وشرحها، لكنها لا تمثل الواقع بشكل مطلق.
يمكن بناء نماذج علمية رمزية لتمثيل جوانب من الواقع وفهم الظواهر، لكنها ليست تمثيلا دقيقا، وتتغير الرموز والنماذج العلمية مع الزمن لتتناسب مع الاكتشافات الجديدة عن الواقع، وقد تشير بعض الرموز إلى أبعاد غير ملموسة في الواقع، مثل الطاقة أو الذرة، ولا يمكن للرموز وحدها أن تمثل كامل تعقيدات الواقع، بل تساعد في فهمه والتنبؤ بجوانبه، فالرمز يساعد على فهم الواقع دون أن يكون تمثيلا حرفيا له.
فالرموز السائدة في مجتمع ما تعكس قيمه ومعتقداته وهويته، فهي تشكل جزء من سمات ذلك العالم، باعتماد خطاب كل مدرسة فكرية أو توجه سياسي على مجموعة معينة من الرموز التي ترمز لقيمه الأساسية.
تستخدم الدول والمؤسسات الرموز الوطنية كعلم ونشيد وشعار لبناء هويتها وتماسك مجتمعاتها، وتمثل بعض الرموز قيما وتوجهات عالمية مشتركة، بينما ترمز أخرى لخصوصيات ثقافية إقليمية.
تتأثر الرموز السائدة بالتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، مما يؤدي إلى تحول في سمات العالم، مثلما تساهم الرموز في تعريف سمات الحضارة السائدة وتمييزها عن غيرها من الحضارات، فالرموز مقياس هام لسمات العالم واعتماد الخطابات عليها.
هناك بعض المخاوف المتعلقة بدور الرموز في صناعة عالم موحد وموحش في بعض الأحيان، باستغلال الرموز من قبل الدول والشركات الضخمة لفرض هوية موحدة ومهيمنة على العال، مما يهدد باندثار الهويات والثقافات المحلية ذات الرموز الخاصة بها، فانتشار العولمة الثقافية قد يؤدي إلى فرض رموز وقيم غربية على بقية أنحاء العالم.