مع الحدث | خليدي وإخوان بن كيران والوزير “كولومبو” و”سراق الله”
حكاية الحرب القديمة بين "التوحيد والإصلاح" وتيار الدكتور الخطيب
بلغني خبر وفاة الصديق الأستاذ محمد خليدي، الأمين العام لحزب “النهضة والفضيلة”، بعد معاناة مع المرض، فها هو الرجل الطيب بات مُسجى على فراش الموت رافعا رأسه.. لقد استعجل الرحيل حيث كنت مصمما على زيارته بعد عودتي من بغداد بعد رحلة مضنية، ولكن الأقدار شاءت أن أدخل عليه فراش الموت وأنظر إليه نظرة أخيرة وأترحم على روحه مع إحساس عارم بالفقد.
ووري الثرى رحمه الله في اليوم التالي (ظهر يوم الأحد) بمقبرة الشهداء بالعاصمة، وفي موكب مهيب حضره عدد من قادة الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني فضلا عن ذويه وأصدقائه وأعضاء حزبه.. لقد غادرنا الرجل الطيب، وذلك قدر الله لا رجعة فيه، وحينئذ كان العديد من الأصدقاء يقدمون لي العزاء بهذه المناسبة، نظرا لمعرفتهم بالصلة القديمة التي ربطتني بالفقيد، لا سيما منذ شروعه في تأسيس الحزب، وهي مرحلة ظلت هي وما بعدها غير معروفة، وإن كان مناسبا تناول جانب منها استذكارا لهذه الفترة التي امتدت لما يناهز العشرين عاما، فهي إضاءة عن تلك الفترة ببعض ملابساتها، حيث باتت جزء من ذاكرة وطن.
بقلم: إدريس هاني
لا أنوي هنا الوقوف على تفاصيل سيرة رجل ناضل في وقت مبكر، وحيث عاصر محطات عديدة من عمل الحركة الوطنية منذ فجر الاستقلال إلى أن قادته الأقدار، وهو ابن المغرب الشرقي، إلى الالتحاق بالدكتور عبد الكريم الخطيب الذي ارتبط اسمه بجيش التحرير، الصديق الوفي للمناضل الكبير نيلسون مانديلا والمسند المادي والمعنوي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي مذ استلم وزارة الشؤون الإفريقية في وقت مبكر، وسيكون مقربا من المرحوم عبد الكريم الخطيب ومناضلا قياديا في حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، حتى فترة متأخرة بعد انضمام جماعة “التوحيد والإصلاح” إلى الحزب في صفقة سياسية مشهودة، ليتخذ الحزب عنوانا جديدا: العدالة والتنمية، وقبل أن يستقيل من الحزب المذكور ويؤسس حزب “النهضة والفضيلة”، كان المرحوم محمد خليدي الذي عُرف بنشاطه كمناضل نقابي، وباعتباره المؤسس الفعلي لنقابة الاتحاد الوطني للشغل، مما أكسبه تمرسا قويا للعمل النقابي، كما أتاحت له وظيفته في قطاع الشبيبة والرياضة تمرسا آخر على التنشيط والنشاط في المجتمع المدني.
هذه التفاصيل قد تصدر في يوميات الفقيد التي أسندها إلي في الفترة الأخيرة، وأجد من الأمانة أن أكمل فصولها لتكون بين يدي القارئ في أقرب فرصة، لأن تلك كانت هي رغبته، وهي اليوم باتت رغبتنا، بل هي حق الرأي العام للوقوف على سيرة مناضل سياسي وثقافي كان على قدر من الإيمان بدور المثقف في العمل السياسي، وهذا ما سأتناوله في هذه المقالة بالقدر الممكن من الاختزال دون الوقوف عند بعض التفاصيل الأخرى.
في البدء كانت الصحافة
كان الفقيد لا يزال يتولى إدارة النّشر في جريدة “العصر”، المفترض فيها أن تكون الناطق باسم حزب العدالة والتنمية، وحيث كان الخطيب هو رئيس النشر، كنت يومها أتقاسم الإقامة بين المغرب والمشرق العربي، ولم أكن مهجوسا بالعمل السياسي بمعناه القُطري، بل حتى ذلك الوقت كانت لدي نزعة أممية.. لقد نجح الفقيد في لفت نظري إلى أهمية الاشتباك مع العمل السياسي الوطني، كان نصيبي من ذلك قبل التعرف على الفقيد، ما كنت أنشره في الصحافة الوطنية وملاحقها الثقافية من مقالات فكرية وثقافية، سواء في جريدة “العلم” أو “الاتحاد الاشتراكي” أو “المنظمة”، وستبدأ محنة الفقيد داخل حزب الخطيب، حيث بدأ الشقاق داخل الحزب يومها بين الوافد الجديد وقدامى حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، الذين شعروا بالتهميش والهيمنة، وبأن طوفان الجماعة قد بدأ يعمل على إقصائهم، وكان الفقيد وهو يدير جريدة “العصر”، يواجه تحديا آخر، هو أن درعا دعويا للمجموعة الحزبية يصدر جريدة ذات طابع دعوي، يزاحم جريدة “العصر” ويسعى بأساليب شتى للتشويش على “العصر”.
هذا النزاع ومثيله على صعيد انتخابات 2002، حيث ترشح الفقيد للانتخابات بجهة وجدة رغما عن الحزب وبمساندة قوية من الخطيب، والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، زادت من احتقان المرحوم، وأظهرت ملامح تمرد حقيقي، وكان يومها قد بدأ يفكر في تخليص حزب الخطيب من هيمنة تيار ذو خطاب وأهداف “إخوانية”، وعند هذه النقطة لم تكن هناك أي مشكلة، فالمرحوم الخطيب هو نفسه قد زكى محاولة خليدي بخصوص إنشاء جمعية موازية داخل الحزب المذكور، لإحداث التوازن، لا سيما وقد كان التيار الآخر يعتمد جمعيته الدعوية رافدا للعضوية في حزب الخطيب.
أمام هذا الشعور الحاد بخلق حركة موازية، انتهى إلى تأسيس جمعية “اليقظة والفضيلة”، وحتى هنا لم أكن معنيا بهذا الأمر، لشدة ما كُنت فيه من نزعة أممية، لكن ما إن تم حفل تأسيس تلك الجمعية حتى اهتزت فرائص ذلك التيار، وبدأت تطفو على السطح مواقف فاجأتني برعونتها وسوء النوايا ونظرية المؤامرة التي شكلت علفا أثيرا لهذا التيار الساعي للتمكين والاستفراد بالساحة، ومع أنني لم أحضر حفل تأسيس الجمعية ولا كنت قد قبلت الانخراط يومها في أي عمل جمعوي، اختار ذلك التيار تدشين عهد محاربتي، فبدأ بعض كوادرهم في نوع من التذاكي يكتبون بأسماء مستعارة ويحملونني مسؤولية ما سيتعرض له حزبهم من انشقاق، باعتبار أن عناصر ممن سموهم بجماعتي، كانوا حاضرين في التأسيس، بل بلغ بالمجموعة الكيدية أن انتدبت شخصا سيتولى هو الآخر حقيبة وزارية، لتتبع خطواتنا، وكان “كولومبو” دائما محل سخرية بيني وبين المرحوم، بدأت نظرية المؤامرة ولكنني تساميت قليلا، لأنني لم أكن أأبه لموقف تيار لم يخرج بعد من وعيه التبسيطي في السياسة والثقافة، لم يكن لهم حضور في ذهني بقدر ما كان هناك شعور بالشفقة ليس إلا..
سيأتيني طلب التعاون مع جريدة “العصر” بمقالة أسبوعية، فقبلت تطوعا، من باب الشعور بالمسؤولية، وكنت أظن أنني أحسنت عملا، وستكون فرصة لتنمية إعلام كنت أراه ضعيفا، فأفكار التسامح والآخر والحوار منا خرجت ولم تكن يوما خطابا لأولئك الذين تداركوها مؤخرا من باب السياسوية، بدأت المقالات تتوالى على الجريدة بينما كان هدفي هو المساهمة في التنمية الإعلامية للمجموعة، والمقالة الأسبوعية اتخذت عنوان: “تحت الشمس”، وكان ذلك أيضا ردا على من آثر أن يصفني في الصحافة الصفراء بأنني أعمل في الظل، كان محتوى المقالات التي كان يستلمها مني بعض ممن انخرطوا في جمعية الفقيد، تدور حول الشأن العام الوطني والإقليمي والدولي على شيء من الشأن الثقافي، لكن التيار المتطرف استشاط غضبا ونابذ وجود مقالاتي في جريدة “العصر” في حرب على الهوية، وسيخبرني يومها الفقيد خليدي الذي كان متشبثا بوجود تلك المقالات في جريدته، بأن بعضهم، بل وخص لي شخصا سيتولى فيما بعد حقيبة في حكومة الإخوان، كان يتردد على الفقيد متحرقا ويلتمس منه عدم السماح لي بالكتابة في الجريدة على الرغم من أنه كان يهتم بمؤلفاتي ويتمثل هو وبعض من مجموعته بعضا من آرائي قبل أن يخضعها للتناص والتّلاص.. إن ملامح معركة مجانية بدأت تطفو، وما أبعدني عنها إلا إشفاقي على دراويش الجماعة قبل أن يتحولوا إلى التدليس السافر والشر المطلق، وكان التحدي الثاني هو تشبث الفقيد بي على الرغم من التشنيع، وكان يجاهر بالدفاع عني في أكثر من لقاء له في الصحافة الوطنية بشجاعة، وهو ما زادهم كيدا.
ميلاد حزب “النهضة والفضيلة”
بدأ الفقيد يتحسس آفاقا جديدة بعد أن اختنق داخل حزب ازداد إصرارا على تهميش أعضاء الحركة الشعبية، ويتجه نحو أُخْوَنَة الحزب.. لقد يئسوا من إصلاح الوضع من الداخل، وهنا يبدو أن الخطيب لم يكن متحمسا لاستقالة الفقيد خوفا عليه، وفي الوقت نفسه لم يكن في كامل قوته للدفاع عن رفاقه القدامى من تسونامي التيار الجديد الجائع الذي وجد في دخول الحقل السياسي الجديد فرصة للتمكين عض عليها بالنواجد، وهذا الشره السياسوي هو ما يفسر امتعاض المجموعة الكيدية من أي تجربة أخرى لها صلة بالدكتور الخطيب، وما يؤكد عدم جدية المحتوى الكيدي الذي يبرر به بعضهم علاقتي بالمرحوم خليدي، أن قياديا من الإسلاميين جاءني ذات مرة في استغباء، وقال لي: “أنتم سيحاسبكم التاريخ لتعاملكم مع الدكتور الخطيب”، وكنت أعرف أن هذا الأخير طرق باب الخطيب مرارا فلم تعط له فرصة، لكن ما أذهلني حين أساء للمرحوم خليدي في ظهره وقال: “أنا لن أسمح له بكذا وكذا، أنا أضرب”، التزمت الصمت، وبدأت أراقب الوضع حيث كنا في لقاء، سكتت حتى أجعل هذا الدجال يتمادى، لأنني كنت مصمما أن أؤدبه بطريقتي متى اقترب من المرحوم، لكنني سأصدم بعد سنوات وأنا رفقة المرحوم كيف بادره الشخص نفسه بالتحية وانحنى بنفاق تزول منه الجبال، لا بل سيبلغني المرحوم نفسه كيف أنه طلب منه في السنوات الأخيرة الانضمام إلى الحزب، وطبعا رفض المرحوم، فعاد الشخص المذكور بخيبة أمل، وهو ما يؤكد أن كل التشنيعات التي تلقتها تجربة المرحوم لم تكن جادة، بل هي نابعة من حالة كيدية عرفت بها الساحة السياسية والحزبية.
في تلك الأثناء، حصل اللقاء بيننا، وكان الفقيد يطلعني على كل ما قدمه لحزب الخطيب، لا سيما تكليف الخطيب لخليدي بتأهيل هذه المجموعة التي لم يكن لها رصيد أو تجربة سياسية حقيقية أو نقابية أو إدارية، فكان الفقيد يشرف على تأهيلهم وتعليمهم أبجديات السياسة، لكن مع ذلك لم يراعوا فيه إلّا ولا ذمة، وباستثناء اثنين أو ثلاثة من حزب الخطيب، لم يحضر الآخرون دفنه.
حاول الفقيد في تلك المرحلة أن يستميلني للعمل السياسي، وتبادلنا الكثير من الأفكار، وفي لحظة ما سابقة عن التأسيس، أي لما كان الحزب مجرد فكرة نتناولها مثنى وأحيانا جماعة رفقة أصدقائه القدامى، قلت له: “أنا مستعد لمؤازرتك والتعاون معك في هذا الأمر، لكنني لا أفكر في العضوية والانتماء”، وكان الفقيد يؤكد على دور المثقف في العمل السياسي، ولا يزال يقنعني بالدخول في التجربة، وفي مرة قال لي: “أنا شخصيا أحتقر المثقف الذي لا يكون له دور في السياسة”، وعمليا كانت نزعتي عضوية أيضا، وسيتواصل الأمر حتى وجدت نفسي في هذا المعمعان.
تحسس بعض من التيار الآخر من تعاوني مع الفقيد، لكن خليدي كان قد استشار منذ البداية وقبل حتى التفكير في الحزب، صديقه الدكتور الخطيب بخصوص الانفتاح والتعاون معي، وربما ازداد تخوف الطرف المتطرف من أن يسعى خليدي لمد جسر للتعاون مع الخطيب، وتتكرر التجربة التي اعتبروها مكسبا تاريخيا لن يسمحوا بتكراره، وكانت تلك عملية قياسية وإسقاطية لم ترد في خاطري، وفي بيئة حادة من التشنيع والتخويف، كان الدكتور الخطيب فيما بلغني قد أبدى ارتياحا واحتراما، بل لقد بارك تعاون المرحوم خليدي معي، وسيخبرني الفقيد فيما بعد بأن الدكتور الخطيب قال له: “لا تهتم بأقوالهم”، وطلب منه أن يأتيه بي، وسبق لأحد الإخوة المقربين من الدكتور الخطيب أن طلب مني زيارة الخطيب، وأخبرني أن أختار أي وقت للقيام بذلك، ولكنني كنت مترددا، بل ربما أخطأت التقدير وأحببت أن أرفع الكلفة ولا أحرج أحدا تحت وابل همجي من الحرب الإعلامية، وأعترف أنه كان خطأ وتقصيرا مني، ولكن هذا يشفع لي بأنني لم أكن طالب تمكين ومخاتلة سياسية، فهل هناك من يتردد في دعوة كهذه؟
سيستشيرني الفقيد في أمر بدأ يلح في خلده، ألا وهو فكرة تأسيس حزب.. شعرت بأن اليأس من إصلاح الوضع بلغ مداه، وقال إنه يرى أن يسميه حزب النهضة، وكانت لهذا العنوان حكاية، لأن الخطيب كان ينوي في تجربة الإدماج السابقة أن يسمي الحزب بهذا الاسم، لكن كان هناك رفض لهذا الاسم لكي لا يختلط بحركة النهضة وتفاصيل أخرى، ربما تناولت بعضها في كتاب “سُرّاق الله”، وهو الكتاب الذي تسببت فيه رعونة ذلك التيار الذي تحرش بي سنوات، ظانا أنه يملك إقصائي عبر سنوات من التشنيع والعدوان، لكنني يومها كنت أتطلع لتجربة نجم الدين أربكان وحزب الفضيلة، فانقدحت في ذهني فكرة، وقلت للفقيد: “إن عنوان الجمعية السابقة جميل، فإن كنت عازما على اختيار اسم النهضة فاعطف عليه الفضيلة، فيصبح حزب النهضة والفضيلة، قَبِل بحبور بهذا الاقتراح وحسم في أمر العنوان: حزب النهضة والفضيلة”.. إذن عنوان وضعناه معا.
إلا أن الأمر لم ينته هنا، فقد بدأت عملية الاستقطاب، وبدأت الفكرة تنضج، وبدأ الفقيد يفكر في وضع أرضية تصورية للحزب، لا سيما وأن عنوان الحزب كما كنت أقول له، تُلخص أهدافه، ثم أخبرت المرحوم خليدي بأن الحزب الجديد يجب أن يكون قيمة مضافة وليس تكرارا في المشهد الحزبي، ووجب أن يُعنى بتخليق العمل السياسي، وبأن سؤال النهضة يفرض أساسا من الفضيلة، وهكذا إلى أن فاتحني الفقيد مرة وقال لي: “أريد منك أن تُحضر ورقة مذهبية للحزب، تتضمن التصورات الأساسية، وأن تكون ورقة استثنائية، فأنا كلي ثقة بما ستفعله.. وهكذا قمت بكتابة الورقة المذهبية للحزب في صيغتها الأولى.
كنت مضطرا لقراءة وشرح تفاصيل الورقة، وكان الفقيد يبدي الكثير من الإعجاب ويقترح بعض الموضوعات والأفكار إلى أن تم الحسم في اعتماد الورقة، وبعد ذلك، تقرر طباعة الورقة لأول مرة بالاتفاق مع محمد برادة، وهو المدير العام السابق لشركة “سابريس” والعضو المؤسس لاتحاد الناشرين العرب، وقد أحسن ضيافتنا على وجبة غذاء بالدار البيضاء أنا والمرحوم خليدي، واتفقنا على طباعة الورقة وإخفائها إلى حين..
وقبل أن أقدم تلك الورقة، حرصت على تمكين عدد من المثقفين العرب من الاطلاع عليها، وبقيت في ذاكرتي شخصيتان اطلعا عليها وعبرا لي عن إعجابي بالمشروع، وهما كل من المفكر العربي الراحل د. حسن حنفي، والمفكر العربي الراحل د. نصر حامد أبو زيد، الذي وعدني بقراءتها بالتفصيل، بالإضافة إلى عدد من الباحثين.
كان الطموح عاليا، وكنت أركز على الحامل السياسي لهذا المشروع، وضمنتها مفاهيم مفتاحية أساسية، على أن أشرحها في إطار تكوينات قادمة، وهي مفاهيم سبق وتناولتها في عدد من مؤلفاتي. باختصار كنت أنوي أن تكون الورقة امتدادا عمليا لمشروعي في التبني الحضاري والتجديد الجذري، وحتى حين أخذت مسافة من الحزب، كنت أنبه المرحوم إلى أن هدف المشروع هو الدفع بالتنهيض الشامل، ولا تكون غاية الحزب مجرد صفقة لاحتواء السلفية أو ما شابه وتكرار تجربة المرحوم الخطيب، سيكون الحزب قويا بمضمونه ومشروعه النهضوي، ولكن لا بد لتحقيق هذا الهدف من حامل نهضوي على قدر من الوعي بعلم السياسة وتاريخ الأفكار وأسئلة النهضة.
كان بعض الملتحقين، تنقصهم التجربة السياسية والفكرية، يتحدثون كما لو أن الحزب هو مشروع انشقاق عن حزب العدالة والتنمية، وكنت شخصيا أرفض ذلك، وأدعو إلى تجربة جديدة بملامح أخرى.. فأنا شخصيا لم أكن أرى في عنوان الانشقاق ما يليق بانتظارات هذه التجربة، أتحدث هنا عن البداية، لأن الحزب شهد ثلاثة أجيال من الملتحقين على قِصر عمر الحزب، وأنا أتحدث هنا عن المرحلة التأسيسية قبل أن آخذ مساحة وبعد أن أصبح الحزب جاهزا فقط لطلب الوصل القانوني، وأما ما تلاها، فقد كان يهمني فقط التواصل مع المرحوم أو أستجيب لما كان يبادرني به.
كان الاجتماع الأول لكتابة طلب الترخيص ببيت المرحوم الكرفاطي بالمحمدية، وهو من قدماء حزب الحركة الشعبية الدستورية الذين التحقوا بهذه التجربة، مثل فخشوش وسعيد الحسن وآخرين.. وتضمن الطلب إمضاء الأربعة الذين اجتمعوا ببيت الكرفاطي، ومنهم أنا وخليدي والكرفاطي وشخص رابع، ولا زال طلب الترخيص الأول موثقا بتلك الأسماء.
ولعل أول اتصال تم تحويله إلي، وقد كنت مداوما في مكتبي بمقر الحزب، مساءلة من القسم المعني في الولاية بخصوص الحزب الجديد، حيث كان الفقيد يومها يتواجد بوجدة، فأجبت عن المطلوب..
بدأنا التحرك في المدن والأقاليم نحن الاثنان في أغلب الأوقات، نشرح تصورات الحزب الجديد، شملت عملية الدعوة إلى الحزب واستقطاب مناضلين، عددا من المدن مثل المحمدية والدار البيضاء والخميسات ومكناس وفاس وبن جرير ومراكش… وأيضا جمعتنا لقاءات مع مؤسسات أخرى وشخصيات وطنية وثقافية وروحية، مع المفكر والعالم أحمد الخمليشي رئيسا لدار الحديث الحسنية، ومع راعي كاتدرائية القديس بطرس بالرباط، بما أننا تناولنا فكرة التسامح كقضية أساسية في نهج الحزب القادم.
حين اتخذت مسافة من الحزب، جاءني ترحيب من بعض الأصدقاء من صفوف المجموعة الأخرى، يهنؤونني ويطالبونني بتحويل الورقة المذهبية إلى مشروع وطني عام للجميع، بينما عبر البعض عن ارتياحه، مما يؤكد أن تلك الجماعة كانت حريصة على الإقصاء، وقد استمرت على هذا التقليد بتصميم منهجي عبثا.
وعلى الرغم من ابتعادي عن هذه التجربة، إلا أن خليدي ظل وفيا للصداقة، ويستشيرني في الكثير من القضايا، ويسرّ لي بكل مواقفه وانزعاجاته واضطراره إلى مداراة الكثير ممن يسميهم “les bras casses”، فيما أسميهم “حرافيش السياسة”، وهو ما يجعله يدخل في نوبات من الضحك.. لم تنته مشاوراته، وآخرها قبل أن تلم به الوعكة الصحية، طلب مني العمل على تحيين الورقة المذهبية في ضوء التطورات الجديدة، كما كان يستدعيني في كل نشاط من الأنشطة الثقافية التي يقيمها الحزب، واستمرت العلاقة على قدر من الاحترام والوفاء حتى آخر لحظة من عمره، كان يسأل عني حتى وهو طريح الفراش، فلقد اعتاد أن نلتقي كلما أتعبته السياسة وأصيب بخيبة أمل، ويسر لي بالكثير من الأمور وما يخفيه من امتعاض من بعضهم.. وكان يتفادى الصدام، ولعله بهذا يطيل عمر الأزمات، وكان يردد “pas de casse”، وهذه الصفة المسالمة هي من جرأت عليه الكثير من مجاهيل القوم، فكنت أجيبه يومئذ:
“on ne fait pas d’omelettes sans casser des œufs”، نحتاج دائما إلى الحسم، بينما كان المرحوم يواصل تعاطفه حتى في أسوأ الحالات.
لقد كان خليدي حاضرا في جميع مراحل إدماج الملتحقين من تيار بن كيران في حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وكانت الاجتماعات مكونة حصرا من الخطيب والوكوتي وخليدي وبن كيران وباها، وكان الخطيب يعول على خليدي في التصدي لهيمنة تيار الإخوان على الحزب، لا سيما بعد أن لمس الخطيب فيهم صفات الإقصاء والسعي إلى التحكم واحتواء الحزب لجماعتهم. ولهذا السبب ساند الخطيب والوكوتي تأسيس خليدي لجمعية “اليقظة والفضيلة” كجمعية موازية، وكما ذكرنا، كان خليدي مدير نشر جريدة “العصر” الناطقة باسم الحزب والخطيب مديرها المسؤول، وكانت حركة “التوحيد والإصلاح” تحاربها في الخفاء، وقد لمس الأستاذ خليدي من الخطيب بداية تحسسه وندمه على تعامله معهم، بل بلغني قول الخطيب له: “il m’ont eu”.
لقد كان للأستاذ خليدي الفضل في تأهيل وتكوين الوافدين الجدد سياسيا، فلقد جاؤوا شُعثا غُبرا لا يفقهون في السياسة والشأن العام حديثا، وكان يُحْضِر معه المرحوم أحمد باهي، وهو ما أخبرني به الاثنان معا.
يُحسب للفقيد خليدي أنه صالح بين الخطيب وأحرضان سنة 1998 بعد قطيعة دامت قرابة ثلاثين عاما، وكان خليدي قد أسس نقابة الاتحاد الوطني للشغل، وشغل منصب أول كاتب عام لها، وفي عهده كانت للنقابة صولات وجولات، كما يحسب له أنه قدم خدمات للعديد ممن حوله.. لقد لبسته السياسة وأخذت منه كل اهتمام.. خليدي الذي لم يكسب شيئا في السياسة وقد نشأ فيها حتى قبل فجر الاستقلال، ثم يرحل وليس وراءه ثروة مقارنة مع أولئك الذين نبتوا في جدران السياسة كالحشيش والبوبال في الوقت بدل الضائع، كما يحسب له رحمه الله، أن كان سببا في ترميز كائنات مجهولة، لعل بعضهم انقلب عليه وتآمر.. كنت أعرف وأقولها له، أن آفة السياسة هي الانتهازية، وأن نهضة الأمم تتطلب قدرا من الزهد، وكان كذلك ينظر إلى من حوله من أولئك الذين اغتنوا بالسياسة وإدارة السياسة بالمُلاوغة، لقد كان خليدي أقل حظا من هذه الناحية مقارنة مع من التحقوا بالحزب جوعى وبفضل السياسوية بلغوا الرغد.
رحل المرحوم بعد عمر طويل، وسيكون شرف له وشهادة على طيبته، أنه رحل ولا يملك بيتا، لأنه انشغل بالسياسة دون أن يتاجر بها.
انتابني شعور الفقد وقد نظرت في وجهه وهو ملقى على فراش الموت، دارت في ذهني كل تلك المحطات، إنه رصيد من العمر وجب أن نقضيه ثم نرحل، وها هو الصديق الطيب يرحل وهو كما تخيلته يرقد بسلام، وسندعو له دائما بالرحمة وأن يلحقه الرب بالصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إنا لله وإنا إليه راجعون.