الحقيقة الضائعة | ركائز أسلوب بوحمارة لإثارة الفتنة ضد السلطان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 91"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كانت ثورة بوحمارة خلال السنوات الأولى من هذا القرن، الشغل الشاغل للرأي العام المغربي، حتى كان بوحمارة لا يستعمل فقط لتخويف سلطان المغرب وتهديد عرشه، وإنما كان يستعمل أيضا لتخويف الأطفال.
وكان أسلوب بوحمارة في الأول، وكان يعرف أيضا بـ”الروكي”، أي الفتان تذكيرا بفتنة “الروك” التي عرفها المغرب في القرن الثامن عشر، كان أسلوبه يغني عن خبره.. فقد كان منتحلا شخصية المعارض الديني والمدافع عن وحدة التراب والغاضب على احتلال الاستعمار للصحراء، ولكنها كانت ذريعة ذكية لتغطية دوره الحقيقي في استنزاف الطاقة المغربية وإضعاف تركيبات هذا الوطن حتى يدخلها الاستعمار الفرنسي بثمن أرخص بكثير من ذلك الذي دفعه أثناء غزوه للأقاليم الصحراوية الشرقية، كما سبق تفصيل ذلك في حلقات سابقة.
ويمكن اختصار فتنة الروكي بوحمارة في المراحل الحاسمة من حربه الكبرى ضد النظام المغربي، والتي يمكن حصرها على مدى عشر سنوات في الفترات التالية:
أولا: انتحال شخصية أخ السلطان
كان محركوه مقتنعين بأنه يستحيل إطلاقا على أي حركة انفصالية أن تزحزح العرش العلوي من موقعه، خصوصا بعد أن كان الحسن الأول قد زاد مكانة هذه العائلة ارتباطا بالقلوب، وأصبح شخصه رمزا لعظمة المغرب وقوته ووحدته. لذلك، كان على بوحمارة أن يغير اسمه ويدعي أنه أخ السلطان، الأمير مولاي امحمد، ونظرا للتشابه الفيزيونومي بين الرجلين، فقد صدقه الكثير من الناس ونصروه على أساس معارضتهم لسياسة أخيه المولى عبد العزيز، الذي سمح له صغر سنه بارتكاب الكثير من الأخطاء، ونحن نذكر أن الأمير امحمد كان أحق الأمراء بالعرش لأنه كان أكبرهم وأذكاهم وأكثرهم حنكة، وإذا تذكرنا ما أوردناه في الحلقات الأولى من هذا الموضوع، من أن باحماد عندما نصب المولى عبد العزيز سلطانا سجن أخاه المولى امحمد، حق لنا إذن، أن نتساءل: هل لم يكن لاعتقال الأمير امحمد وانتحال بوحمارة لشخصيته ارتباط وثيق بالمخطط الاستعماري ؟
ثانيا: أول معركة..
خاض بوحمارة أول معركة ضد جيوش السلطان التي كان يقودها الأمير مولاي الكبير، في تازة، وكان بوحمارة على رأس جيوش تقدر بالألفين.
ثالثا: أول انتصار..
استطاع بوحمارة التغلب على الجيوش العشرة آلاف التي كان يقودها السلطان نفسه، وكاد أن يدخل إلى مدينة فاس، مما أحدث تصدعا كبيرا عند الرأي العام الذي كان يعتقد فعلا أن الأمر يتعلق بحرب بين السلطان عبد العزيز والأمير امحمد، وبعد هذه المعركة أصبح بوحمارة يشعر بالاعتزاز فأخذ يعين الوزراء والعمال، ويصدر الظهائر ويحيط نفسه بسياج من الهالة والوقار.
رابعا: دخول الرأي العام في المعركة
اضطر المولى عبد العزيز إلى إخراج أخيه امحمد من السجن وتقديمه للرأي العام وتوزيع المناشير التي كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة، وهي حملة إعلامية أعطت نتائجها بسرعة غريبة، فما إن وصل بوحمارة.. حتى وجد الرأي العام في فاس ملقحا ضد الدعاية المغرضة، فهبت أغلب قبائل المغرب تنصر شرعية السلطان عبد العزيز، وتشكلت جيوش من المتطوعين من أيت موسى وبني مكيلد، وبني مطير، وزيان، وزمور، والشرفاء الأدارسة، وهي وحدة كبرى جعلت القبائل التي تناصر بوحمارة مثل الحياينة، تتراجع عن موقفها وتعلن ولاءها للسلطان الشرعي، مما جعل بوحمارة يبقى وحيدا ويختفي منذ يوم 20 يناير 1903 في إحدى مخابئ مدينة تازة.
خامسا: السلطان يطلب النجدة
وعاد بوحمارة يطلب النجدة من القوات السرية التي تسنده وتعطيه المال والسلاح، بينما سجلت المخابرات الأجنبية أول انتصار على السلطان، إذ أن معركتين مع بوحمارة كانتا كافيتين لإفراغ صندوق الدولة، فهب المولى عبد العزيز يطلب الدعم المادي، واقترض من فرنسا سبعة ملايين فرنك ومن بريطانيا سبعة آلاف جنيه ومن إسبانيا سبعة ملايين بسيطة، وكان ذلك أولى أهداف القوات التي كانت ترغب في رهن استقلال المغرب.
سادسا: لا محل في المغرب لسلطانين
وبعد ثلاثة شهور من استرجاع الأنفاس، كان السلطان يحتفل بعيد الأضحى يوم سابع مارس 1903 حينما جاءته أخبار بأن بوحمارة هو أيضا أقام احتفالا دينيا في ضواحي تازة واحتفل بعيد الأضحى، وكان ذلك إعلانا للحرب من جديد، ومرة أخرى توجهت الجيوش السلطانية إلى بوحمارة الذي هرب إلى سلوان، وسلوان التي كانت تتوفر على موقع استراتيجي هام يعقد عليها بوحمارة الآمال الكبار.. آمال تتمثل في قرب سلوان من منطقة كان الفرنسيون والإسبان قد اتفقوا على أن يتركها الفرنسيون من نصيب الإسبان.
سابعا: الدعم الإسباني
ولم يكن الإسبانيون يتوفرون على نفس الدهاء الفرنسي، فأعلنوا تأييدهم لبوحمارة ما دام أنه التزم بتأييد بقائهم في مليلية، واستطاع الدعم الإسباني أن يعيد لبوحمارة كل معنوياته، فانتشرت دعوته في منطقة النفوذ الشمالية من حوض ملوية وقبائل تازة في خط ممتد غربا حتى إلى “الحجرة الكحلة”، الموقع الاستراتيجي المطل على ضواحي فاس، ثم توجه بوحمارة إلى منطقة وجدة للحصول من الجيوش الفرنسية المتواجدة في مستغانم ووهران على نفس الدعم، وكان أحد إخوة السلطان، وهو مولاي عرفة أب ابن عرفة المشهور، عاملا على وجدة، فأصيب بالهلع وهرب إلى الجزائر واستقر بمغنية، بينما اشتبك بوحمارة مع جيوش القايد عمر اليوسي عامل إقليم فاس، الذي تكبد هزيمة كبرى بلغ عدد القتلى فيها حوالي الألف.
ثامنا: بوحمارة يتسلح..
توجه القايد أحمد الركينة إلى وجدة ليبحث في أسرار العلاقة بين بوحمارة والفرنسيين، فقال له الفرنسيون نحن لا نعرف بوحمارة، وإذا أردت سلاحا لمحاربة هذا الفتان فلتأخذه، وأعطوه سلاحا كثيرا، لكن جيوش بوحمارة اعترضت طريق الركينة وجيوشه والسلاح الذي أعطاه له الفرنسيون في موقع يقال له عيون سيدي ملوك، يوم 2 شتنبر 1903، واستولى بوحمارة على كل الأسلحة الفرنسية وهي طريقة معهودة، فقد أخبر الفرنسيون بوحمارة بكل شيء.
تاسعا: تخويف السلطان
سارعت الأيدي الخفية المحيطة بالسلطان إلى تهويل الموقف، وتقديم الوضع على الصورة التي كانت عملية بوحمارة تستهدفها، وهي أولا ضعفه أمام الخوف، واحتماؤه بأسوار قصره، ثم طلبه للتدخل الأجنبي، وهي أهداف ثلاثة فوجئ المستشارون الخاصون بأن مولاي عبد العزيز لم يقبلها، وهي أيضا أهداف ثلاثة سيفاجأ القارئ الكريم في نهاية هذه الحلقات المخصصة للمناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية، بأنها ثلاثة أوراق استعملت مرة ثانية ونجحت مائة في المائة وأدت مهمتها، وحققت للاستعمار غاياته في بسط النفوذ الأجنبي على المغرب.
وكان أسلوب تهويل الأحداث أمام السلطان مشحونا بالروايات والأساطير، وهو أسلوب عادة ما يستعمل لتحطيم أعصاب رئيس الدولة عندما يكون في حرب، فتدخل جماعة لتقول له لقد انتصرنا، ثم تدخل جماعة لتقول له أن الجماعة التي كانت عندك قد هزمت وها هي أصوات الرصاص تلعلع غير بعيد من هنا.. فعندما أدخلوا الفرح على السلطان بانتصار عامل فاس عمر اليوسي على بوحمارة في ضواحي تازة، عادوا من بعد ليخبروه بأن اليوسي هرب يوم 19 أكتوبر إلى وجدة بعد أن هزمه بوحمارة، وهذا هو ما يسمى بالحرب النفسية أو حرب الأعصاب، ومرة أخرى نفذ صبر السلطان، ونفذ ماله، وأخذ يتساءل عن الوسيلة المناسبة لإنقاذ الموقف بينما كان – ولا شك – يجهل أن بوحمارة هو نفسه قد انتهى ماله وسلاحه ورجاله، وهو سر لم يبلغ للسلطان، وإنما سجله الفرنسيون في مذكرات ضباطهم، وكتب عنها المؤلف مارتان.