المنبر الحر | الأدب المغربي.. من الطغيان السياسي والإيديولوجي إلى العودة إلى الذات والاستقلالية
بقلم: بنعيسى يوسفي
لا أحد يمكن أن ينفي أن الأدب المغربي انطلق في بداياته الأولى خادما للحركة الوطنية، بل إنه ترعرع بين أحضانها، لأن الحاجة كانت في ذلك الوقت ماسة لهذه الخدمة رغم ما قيل عنها وما أثارت ولا زالت تثير من نقاش حول إيجابيات وسلبيات هذا الارتباط اللامشروط، وإلى أي حد خدم الأدب المغربي من عدمه؟ ففي هذه المرحلة، لم يكن بمقدور الكاتب أو الشاعر أو غيره من المبدعين أن ينتجوا خطابا جماليا انطلاقا من ذاته، أو أن يعكس تجربة من تجاربه العاطفية أو الاجتماعية أو شيئا من هذا القبيل، وإذا فسح هذا المبدع أو ذاك المجال لمشاعره الفياضة، كان ذلك يعد خروجا عن النص أو تغريدا خارج السرب، بل قد يُتهم بالتنصل من الواجب الوطني أو نقص فظيع في منسوب الشعور الوطني أو بهبوط حاد في حرارة هذا الشعور، فالأدب في هذه المرحلة هو في خدمة القضية الوطنية أولا وأخيرا، وبالتالي، تجد جيل الرواد من المبدعين المغاربة الذين عاشوا وعايشوا هذه المرحلة المهمة من تاريخ المغرب المعاصر، ملتفا بقضايا الشعب، وهذا راجع بالأساس للظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة آنذاك والمتميزة بطغيان الصوت الاجتماعي والسياسي وعلوه على ما عداه من أصوات، وبالتالي فكل الأجناس الأدبية المعروفة كانت وسيلة تعبيرية عن هذا الهمّ، وأداة للنضال السياسي ضد المستعمر، ورغم حصول المغرب على استقلاله بقي الأدب تحكمه تقريبا نفس الهواجس والخلفيات الاجتماعية والسياسية، ولم يستطع جيل الستينات والسبعينات التخلص والتحلل بشكل نهائي من أقمطة وثقل المرحلة الاستعمارية ومن إرثها، وبدا تأثرهم واضحا بخصوصيات وانشغالات وهموم هذه المرحلة في كافة أشكال المنتج الرمزي، بما في ذلك الأغنية والمسرح، لكن مع بزوغ فجر الثمانينات والتسعينيات، بدأت تلوح في الأفق بوادر الانفراج والتغيير، وأن الأمور ستأخذ مجرى مغايرا ومخالفا، وسيتحرر المبدعون المغاربة أكثر وسيكسرون العديد من القيود التي كبلوا بها أنفسهم ردحا من الزمن، وستبدأ نبرة وحدة الخطاب الاجتماعي والسياسي في الخفوت وستتراجع لصالح البعد الجمالي وطرائق الكتابة، وستتشكل بذلك معالم مرحلة أدبية جديدة بمميزات ومواصفات مختلفة عن سابقتها، وسيجد فيها المبدع المغربي لأول مرة نفسه يعبر عن ذاته دون خوف أو خجل وبحرية وأريحية دون حاجة إلى عكاكيز من خارج مجال الأدب، وأخذ صوت هموم الذات يعلو، وهيمنة الذاتي وطغت “الأنا” بشكل صارخ، لكن مع كل هذا التغيير الذي يبدو كبيرا في حرية المبدع وأشكال تعبيره، لا يمكن أن يدفعنا إلى القول أنه قد قطع علاقته مع الواقع نهائيا وأصبح الاشتغال على هذا “الأنا” هو المهيمن، بل على العكس، فإن ارتباط هؤلاء الكتاب والمبدعين بالقضايا الاجتماعية لا زال قائما وربما بطريقة أكثر جذرية مقارنة بمرحلة الحركة الوطنية، ولعل الخرائط السياسية أو المظان الإيديولوجية التي ينتمون إليها هي دليل ساطع على انخراطهم فيها، لكن الاختلاف يكمن فقط في التحول الذي حدث على مستوى الوعي بالكتابة ووظائفها، ولم يعد الكاتب صوتا مرتفعا ولا صدى مباشرا للحركة الاجتماعية، بل نجد أن هذه الهموم حاضرة في الأدب لكن دون التضحية بالجمالي فيه، وبما يجعله أيضا بوابة نحو الحميمي والتعبير عن الذات والتعاطي مع قضايا إنسانية أخرى مختلفة، وبالتالي، نستطيع القول أن هذه المرحلة عموما قد دشنت قطيعة مع الرعيل الأول من الكتاب المغاربة المهجوسين بالشعارات وبتسخير الإبداع لخدمة المشروع السياسي، والنزعة الوطنية والإيديولوجية، وهذا ما جعل حضور الواقعي والاجتماعي في الأدب يأخذ مساحة كبيرة، وفي الحقيقة، قبل أن يستقر الشأن الأدبي على هذه الشاكلة بهذه الخصوصيات والتوجهات التي ذكرناها، كمرحلة ثانية في مسار تشكل معمار وبنيان الأدب المغربي، لا مندوحة من التوقف عند مرحلة مهمة جدا، قد تعتبر جزء من المرحلة الثانية التي نتحدث عنها، لكن هناك من يوثر اعتبارها مرحلة مستقلة بذاتها، ويمكن أن تتموقع مباشرة بعد المرحلة الأولى، مرحلة الحركة الوطنية، والأمر يتعلق بالصراع الذي خاضته النخبة السياسية، والتي كان جزء منها يمارس أيضا العمل الثقافي، هذا الصراع الذي كان صارخا مع نظام الحكم، وتتمثل في المواجهات الاجتماعية المعروفة، وفي أحداث سنوات الرصاص، هذه المرحلة أنتجت منتوجا أدبيا وفنيا رمزيا يمكن أن ننعته بالواقعية الاجتماعية، وطغيان خطاب فلسفة الالتزام والنظر إلى الأدب باعتباره رسالة ووظيفة إيديولوجية، وأداة من أدوات النضال، لكن هذه النزعة الخطابية التي كانت سيدة الميدان في نصوص السبعينيين والتي كان فيها النصيب الأوفر لمقولات أنتجها اليسار بالخصوص حول الالتزام الأدبي، اعتبرت مقولات جوفاء وعقيمة، لم تساهم في تطور الممارسة الكتابية في المغرب، وأن ذلك تم على حساب مصلحة الكتابة والجوانب الجمالية للمنتج الرمزي، ورغم أن الأدب في ظل هذا المناخ الذي تحدثنا عنه، عرف قفزة نوعية من الناحية الكمية على الأقل، إلا أنه لم يستطع تحقيق تلك الاستقلالية المنشودة إلا بعد مدة طويلة، تحول خلالها الإبداع الأدبي من خطاب يناصر الالتزام والتخندق والإيديولوجيا، إلى خطاب ينطلق من الذات ويعود إليها، وهذا كله إيجابي وقيمة مضافة ونوعية لصالح هذا الأدب ودفعة قوية إلى الأمام، إلا أن هناك من الأدباء والنقاد أنفسهم من يقول أن كل ذلك لا يخلو أيضا من سلبيات كما يجنح إلى ذلك الناقد المغربي حسن المودن، الذي يقول أن هذا الاهتمام المفرط بالذات أدى إلى انغلاق الأدب على نفسه وانفصاله عن قاعدة القراء السابقين، وبالتالي بدأ الأدب يفقد قراءه، بل أصبح المنتوج الأدبي لا يُقرأ حتى من طرف الأدباء أنفسهم، غير أنه في سياق غنى المشهد الأدبي في المغرب وتنوعه وتطوره وفي ديناميته التي لا تتوقف، يمكن أن نميز اليوم تيارا جديدا استطاع أن يوفق بين الهمّ الاجتماعي والأدبي، أي بين الشكل والمضمون، ويمكن أن نضرب أمثلة لبعض الكتاب الذين دخلوا غمار هذه التجربة، كالروائي نورالدين وحيد، عبد الحي المودن، وأحمد الكبيري، الذين يكتبون من مواقع خارج الانتماء الأدبي بالمعنى الأكاديمي، وينتجون نصوصا تتوافر فيها هذه العلاقة الثنائية بين الأدب والمجتمع، وإن كان سابقا لأوانه تقييم هذه التجربة الفتية، وهل حقيقة نجحت أو أخفقت في هذا التوفيق؟ لكن على الأقل يمكن اعتبارها أرضية صالحة للاشتغال عليها في أفق تطوير وإنضاج هذه التجربة في المستقبل، وأن الأدب المغربي دائما يعد بالجديد وهذا هو الأهم.