تقرير | موجة الهجرة السرية تفضح شعار حكومة “الدولة الاجتماعية” والنموذج التنموي
خلقت ظاهرة الهجرة الجماعية للشباب والقاصرين نحو مدينة سبتة المحتلة، ضجة كبيرة خلال الأيام الماضية، وطرحت تساؤلات حول مدى مسؤولية الحكومة والدولة والأحزاب والمجتمع المدني، والأسباب الحقيقية وراء عودة هذه الظاهرة من جديد، والتي دفعت فئة واسعة من القاصرين للمغامرة بحياتهم، وعدم استحضار المخاطر التي قد تواجههم خلال عبورهم البحر أو تسلق السياج الفاصل.
إعداد: خالد الغازي
ظاهرة الهجرة غير النظامية إلى سبتة المحتلة من قبل القاصرين وبعض الشباب، جاءت نتيجة الفجوة بين الحكومة وهذه الفئة من المواطنين، وانعدام الثقة في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تمر منها العديد من الأسر، وتراجع المجتمع المدني عن القيام بدوره في تأطير الشباب واحتضان الأطفال القاصرين ومواكبتهم في ظل دور محدود للمدرسة والمؤسسات الأخرى.
وقد طرحت مشاهد محاولة الهجرة الجماعية للقاصرين في مدينة الفنيدق، إشكالية خطيرة تهدد الاستقرار الاجتماعي، فهذه الظاهرة قد تتسع في السنوات المقبلة وتصبح مترسخة في عقول الأطفال والشباب، وهي رسالة إلى المسؤولين والدولة ومشروع النموذج التنموي ومشروع التنمية البشرية، وتحمل العديد من الرسائل حول عدم نجاعة وفشل مخططات التنمية الاقتصادية الوطنية والجهوية، خاصة وأن هذه الواقعة أسفرت عن توقيف مئات الشباب وعشرات القاصرين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 و15 سنة، حيث بلغ عدد الموقوفين أكثر من 4 آلاف شخص، وعشرات المتهمين بالتحريض على الهجرة، لكن بالرغم من ذلك، تبقى هذه الظاهرة في حاجة إلى وقفة خاصة ودراسة خاصة من قبل المسؤولين والمختصين، لمعرفة الأسباب الحقيقية والدوافع التي جعلت فئة كبيرة من الشباب والقاصرين يفضلون المغامرة بحياتهم للوصول إلى حلم “الفردوس الأوروبي”.
فقد اعتبر العديد من النشطاء والمراقبين أن فكرة الهجرة الجماعية التي وقعت في شمال المغرب، هي شكل من أشكال الاحتجاج ضد السياسات الاجتماعية للدولة والحكومة، في ظل معاناة فئة كبيرة من الشباب من البطالة، خاصة في مدن الشمال والأقاليم الصغيرة، مع ارتفاع مستوى المعيشة والغلاء وقلة فرص الشغل ومحاربة الاقتصاد غير المهيكل، مفسرين هذه الهجرة بالانسحاب الجماعي والاحتجاج ضد سياسة الحكومة الاجتماعية، وتنامي سياسة الإحباط وفقدان الثقة بين المواطنين والمؤسسات الرسمية، مثل القطاعات الحكومية والبرلمان والأحزاب والنقابات والجمعيات..
في هذا السياق، يقول محمد بنعيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، أن ظاهرة الهجرة الجماعية تتداخل فيها مجموعة من الأسباب، فهناك أسباب شخصية مرتبطة بالقاصرين والشباب الذين يعبرون عن نوع من “الحكرة” كمعطى وإحساس نفسي حول غياب الأمل في المستقبل بالوطن، أما الجانب الاجتماعي، فنحن أمام فئة من القاصرين ينحدرون من أسر وطبقات اجتماعية فقيرة وما دونها، تعيش في أحياء شعبية ومناطق مهمشة، تعاني من التفكك الأسري ومن ضعف الموارد الاقتصادية وغير ذلك، مما جعلهم يقررون الهجرة غير النظامية، بالإضافة إلى معطى آخر، يتمثل في كون هذه الفئة من الشباب والقاصرين يوجدون في حالة هدر مدرسي أو خارج التكوين أو التعليم، موضحا أننا أمام ظاهرة جديدة لفئة عمرية ما بين 8 سنوات إلى 14 سنة، ووسيلة يتم توظيفها بغض النظر عن وجود أطراف خارجية أو تحريض للقاصرين، فما وقع يبرهن على أن الحكومة والمؤسسات الرسمية فشلت في تقديم بدائل بشكل أو بآخر، ويطرح التساؤل حول دور الآباء والأسرة والمدرسة في ظل تأثر هؤلاء الأطفال بعوامل أخرى تجذبهم، متمثلة في الصور الذهنية التي تكونت لديهم عن أوروبا وإسبانيا بالخصوص، من خلال استلهام مجموعة من التجارب الناجحة لأحد الأحياء التي يقطنون فيها، والذين تمكنوا من الهجرة إلى سبتة المحتلة وتمكنوا من تحسين حياتهم الاجتماعية.
وأوضح بنعيسى، أن المعطى الثالث في عملية فكرة الهجرة الجماعية لدى هؤلاء القاصرين والشباب، يتمثل في كون عملية الوصول إلى سبتة المحتلة لا تتطلب تكلفة مالية بالنسبة لهم، سوى المهارة في السباحة واللياقة البدنية قصد الوصول، بينما الطرق التقليدية الأخرى للهجرة غير النظامية تتطلب موارد مالية والتواصل مع شبكات متخصصة في الهجرة، وهذه الإمكانية غير متوفرة لدى القاصرين ومعظم الشباب، لذلك يلجؤون إلى الهجرة عبر السباحة بصفر درهم بشكل جماعي، أو التوجه إلى السياجات والأسوار الحدودية بشكل جماعي، مثل ما يفعل المهاجرون المنحدرون من دول إفريقيا جنوب الصحراء، والذين يقومون عادة بحملات منظمة لكي يتمكن عدد منهم من العبور إلى سبتة المحتلة.
وقال بنعيسى: “عندما نتحدث عن أطفال قاصرين أعمارهم 9 تسع سنوات و12 و14 سنة، تتحمل فيهم المسؤولية وزارة التربية الوطنية، لأن الطفل في إسبانيا مثلا الذي يعاني من الهشاشة والفقر، يجد مؤسسات اجتماعية حاضنة، في حين أن المدرسة في المغرب ليست حاضنة باستثناء بعض المبادرات الفردية لأساتذة وللمجتمع المدني، نجد المؤسسة تكرس له كره الوطن، وغياب الدفء الذي يفتقده في الأسرة أو في المجتمع بشكل عام، وهنا يأتي دور المجتمع المدني كدور تكميلي، لهذا فالمؤسسات الاجتماعية الرسمية التي تتلقى التمويلات من المال العام، مطالبة بأن تكون محتضنة لهؤلاء الأطفال والمجتمع المدني أيضا له مسؤولية إذا كان يتلقى دعما من الدولة، لهذا يجب العمل وفق علاقة تشاركية ما بين الجمعيات الحقيقية وبين الدولة”.
واعتبر المتحدث ذاته، أن هناك “فسادا وهدرا للمال العام بشكل كبير جدا في برامج رصدت لها موارد كبيرة جدا، في غياب سياسات متكاملة، لم تكن لها أي نتيجة بسبب البيروقراطية والفساد المستشري، في ظل مبادرات تأثيرها ضعيف”، مشيرا إلى مطالبة الفاعلين الحقوقيين بتقييم السياسات العمومية منذ سنة 2019 حتى اليوم، لقياس مدى تأثيرها على الساكنة المحلية في المغرب، لاسيما وأن البرامج الكبرى على المستوى الوطني، سواء “انطلاقة” أو “فرصتي”، كلها برامج فاشلة للأسف، صرفت عليها مئات الملايير من خلال التصريحات، لكنها “فاشلة يحضر فيها الفساد والبيروقراطية بشكل أو بآخر”.
ظاهرة الهجرة إلى إسبانيا انتقلت من “قوارب الموت” التي كانت تحصد العشرات من الضحايا في كل شهر، إلى ظاهرة جديدة أصبحت هاجس الشباب والقاصرين متمثلة في العبور إلى مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، بسبب موقعهما الجغرافي وقربهما من إسبانيا، الشيء الذي جعل العدوى والفكرة تنتقل من المهاجرين الأفارقة إلى المراهقين والقاصرين الذين يرون في الوصول إلى المدينتين “الحلم المنتظر”، بعد مغادرتهم للمدرسة أو التكوين.
وحسب عدد من الباحثين في مجال الهجرة، فإن هناك عدة عوامل وأسباب تدفع بالكثيرين، خاصة فئة الشباب والقاصرين، إلى المجازفة بحياتهم وركوب الأمواج هربا من مرارة الحياة التي فرضت عليهم داخل بلدهم، فالفقر والاضطرابات الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية، تظل محددات متحكمة في رفع وخفض نسبة الهجرة بين الدول، بحيث كلما تحقق الاستقرار وتوافرت ظروف العيش الكريم ومناصب الشغل كلما انخفضت نسبة الهجرة، وكلما تأزمت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للأسر جعلت فكرة الهجرة تعود بقوة وتلتصق بعقول القاصرين والمراهقين.
في هذا السياق، يقول علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع، أن هجرة الشباب والقاصرين نحو سبتة المحتلة، تطرح التساؤل حول أسباب تأثر هؤلاء الصغار بفكرة الهجرة إلى الدول الأوروبية، والجواب يكمن في عدة جوانب متعددة اقتصادية واجتماعية، وكذا الوضع المعيشي للأسر، وغلاء المعيشة والبطالة والتضييق على الحريات، ومجموعة من القضايا التي تجعل البعض يتصيدون مثل هذه الفرص عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويقومون بتحريض كل الفئات بمن فيهم القاصرين من أجل الهجرة العلنية، لهذا فالمواقع الاجتماعية كان لها دور كبير جدا في مثل هذه الأمور، لأنها أصبحت في متناول الجميع والأطفال الصغار الذين يتوفرون على الهواتف النقالة.
وحمل الشعباني المسؤولية للآباء الذين تخلوا عن تربية وتوجيه أبنائهم، ولا يتابعون ما يحتاجونه من متطلبات لتحقيق طموحاتهم في مختلف المجالات، لذلك يجد هؤلاء القاصرين ضالتهم عبر هذه المواقع التي تنمي أحلامهم وخيالهم، وتلهمهم بأن الجنة توجد في أوروبا وهنا ما هو إلا جحيم، معتبرا أن إنزال الآباء لأيديهم، والمحيط الأسري الغير مكترث، هو الذي أعطى لهؤلاء القاصرين الرغبة في الهجرة إلى الضفة الأخرى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، التي تذكي في عقولهم مثل هذه الأحلام الوهمية نحو تحسين الأوضاع الاجتماعية، متسائلا: كيف يمكن للقاصر أن يدرك ما هو الواقع الذي يحسن وضعيته، فهو غير مدرك لهذه الأوضاع لا الاجتماعية ولا الاقتصادية ولا السياسية ولا الثقافية ولا غيرها، فهو لازال جاهلا.. فكيف له أن يعرف ما يحسن وضعيته، أو من يساعده على التنمية الذاتية؟ مؤكدا أن هناك تقصيرا من قبل مؤسسات الدولة فيما يتعلق بالإدماج، وفي التأطير الذي يحتاجه هؤلاء القاصرين والشباب بصفة عامة، من خلال المؤسسات الاجتماعية ودور الشباب ودور الثقافة، والهيئات المدنية والجمعيات والمنظمات الأهلية التي من واجبها تأطير الشباب والأطفال، ثم الجانب التربوي للمدرسة التي لم تعد تقوم بذلك الدور، وتخلت عن التربية واقتصرت على تعليم الأطفال القراءة والكتابة، فالمدرسة لها دور كبير جدا في مثل هذه الأمور لأنه حتى الأستاذ لم يعد ذلك الأستاذ المربي، بل إنه أصبح موظفا يذهب إلى القسم ليؤدي وظيفته ولا يخرج منها ولا يهمه تربية وتأطير الأطفال والشباب، إذن، فهذه الأمور لا تساعد على إدماج القاصرين والشباب في المجتمع، معتبرا أن هناك عوامل كثيرة ومتداخلة مع بعضها البعض التي تدفع هؤلاء القاصرين إلى التشبث بهذه الأوهام التي تضرهم وتضر أسرهم وتضر المجتمع بصفة عامة.
وعبرت النائبة البرلمانية سلوى الدمناتي، عن حزب الاتحاد الاشتراكي، عن تأسفها لمشاهد مئات الشباب والقاصرين الذين حاولوا الهجرة الجماعية نحو سبتة المحتلة، وقالت في تدوينة لها: “مؤلم جدا الوضع في الفنيدق.. كأم أرى قوافل الأطفال والشباب يرتمون في عرض البحر وتسيل دماؤهم على أسلاك الحواجز”، مشيرة إلى تنبيه الحكومة مرارا إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية لساكنة الفنيدق والنواحي بعد إقفال معبر باب سبتة بدون توفير البديل”، وأضافت: “على الحكومة أن ترى وجهها في المرآة وتسحب رأسها من الرمال وتستيقظ من عجرفتها بإيجاد حلول سريعة لتوفير فرص عمل على أرض الواقع وليس شعارات تصدح بها في المؤتمرات.. هؤلاء الشباب هم من فئة 4 مليون شاب وشابة الغير مصنفين لا في خانة التمدرس ولا في التكوين ولا في خانة البطالة.. هؤلاء الشباب هم سواعد مغرب 2030، إيلا حركوا، من سيشيد ومن سيرفع راية هذا البلد في 2030؟”.
بدورها، انتقدت النائبة البرلمانية فاطمة التامني، سياسة الحكومة وعجزها عن الاهتمام بالشباب والأطفال الراغبين في الهجرة الجماعية، في ظل استمرار السياسات اللاشعبية، التي لا تزيد الفقير إلا فقرا والغني ثراء، مضيفة في سؤال إلى أخنوش أن هناك واقعا مخالفا تماما وبعيدا كل البعد عن ملامح الدولة الاجتماعية حيث تعميق الفوارق الاجتماعية، وضرب المكتسبات الحقوقية، وتفاقم البطالة، وارتفاع نسبة الفقر، وضرب القدرة الشرائية للمواطنين، وعدم الوفاء بالوعود المقدمة للمواطنين، خاصة منها ما يتعلق بفرص الشغل ومحاربة الفقر والهشاشة”، وقالت: “الحكومة فشلت في تدبير معظم الأزمات، ولم تستطع ثني الشباب عن فكرة الهجرة، ولم تستطع تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية والحد من الإقصاء والتهميش، فعشرات الشباب الراغبين في سلك طريق الموت ينحدرون من المغرب العميق، الذي جابته السيارات رباعية الدفع محملة بوعود انتخابية لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع”.
وسبق أن كشف تقرير لمركز “الباروميتر العربي”، أن 55 في المائة من الشباب المغربي يفكرون في الهجرة، لأسباب اقتصادية والبحث عن فرص تعليمية، بالإضافة إلى تفشي الفساد، مشيرا إلى أن نسبة البطالة بين الشباب المغاربة الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما تصل إلى 35.8 في المائة، وأن مليون ونصف المليون شاب مغربي لا يقومون بأي عمل أو تدريب، مما يفاقم إحباطهم ويدفعهم إلى البحث عن مستقبل أفضل في الخارج.