الحقيقة الضائعة | الزوايا و”العلماء الفرنسيون” أصحاب الفتنة الكبرى في المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 90"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
الانفصال ينطلق من مستغانم
لم يكن الاستعمار الفرنسي يعلن على رؤوس الملأ رغبته في احتلال المغرب، وإلا لهبت الدول العظمى إلى معارضته، فإن ذريعة الوصاية الدولية ومبررات مؤتمر الجزيرة، لم تكن بعد إلا في عداد الأنشطة المقبلة، لكن الجهاز النشيط الذي كان يمارس الغزو الذكي للمغرب هو الدعوة الصوفية والطرق الدينية التي كان الرأي العام المغربي ضعيفا أمامها.. وكيف يجرؤ مواطن مغربي على التشكك في نوايا عالم ملتح معمم ومجلبب يدعو إلى الله ويوحده، أو عالم آخر يطلب من جموع المنصتين إليه إغراق آلامهم ومصاعبهم ومتاعبهم في عبادة الله، أو خبير آخر في علوم الفقه والسنة يحفظ أحاديث الرسول ويشرح صحيح البخاري ويسرد البردة والهمزية؟ وهل يتصور مواطن مغربي أن هذه الجموع من رجال الله تعمل لتخدير الرأي العام الوطني وتجميد أعصابه حتى تدخل الجيوش الأجنبية الغازية على مرأى ومسمع من المخدرة أعصابهم والمستسلمة قلوبهم الخالية من الاهتمام عقولهم ؟
هنا بلغ النبوغ الاستعماري أوجه، وبهذه “الطريقة” أو هاته “الطرق”، طبع على قلوب الجزائريين وأسلمهم لحكمه، وبقوا أمام غزوه صما بكما لا يعقلون.
وهو جهاز أدى مهمته على أكمل وجه في الجزائر وجاء الوقت لنقل جهازه التنفيذي إلى حدود المغرب، إلى مستغانم، ليستأنف في المغرب وعلى طول حدوده عملا توفق فيه بالجزائر.
لم يغير هذا الجهاز اسمه ولا شعاراته، وإنما هي الزاوية الدينية بعلمائها وتلامذتها ودعاتها ونساكها، تولي عنايتها الخاصة للمغرب، ولن تدخل المغرب، بل إن المغاربة هم الذين سيقصدونها، وكان على رأس الحاجين إلى زاوية مستغانم – وبحكم المصادفة – تلميذ القبطان طوماس، الكاتب بديوان السلطان الحسن الأول، والكاتب للأمير مولاي عمر المعارض المتحدي، الجيلالي اليوسفي، الذي جاء إلى زاوية مستغانم ليتعلم وليتتلمذ وليدرس، قبل أن يعود إلى المغرب للقيام بالمهمة التي لا يمكن أن يخطر ببال أحد أنه وحده قادر على القيام بها.
وحتى نعرف نوع المهمة التي ينوي الجيلالي اليوسفي القيام بها، نلقي نظرة على ما كتبه الأستاذ عبد الوهاب بنمنصور في كتاب: “أعيان المغرب” عن المدرسة التي جاء إليها الجيلالي اليوسفي: ((كانت زاوية مستغانم أعظم مراكز الاستخبارات الفرنسية بالنسبة للمغرب، و”فقراؤها” (مريدوها) العليويون من أمهر الجواسيس العاملين لحساب السياسة الفرنسية فيه، وبيان ذلك أن عمالات الجزائر الثلاث: وهران، والجزائر، وقسنطينة، ولا سيما العمالتين الأوليتين، كان يقصدها أيام الحكم الفرنسي عشرات الألوف من المغاربة كل سنة للعمل في مزارع المعمرين الفرنسيين، وخاصة في موسم الحصاد، وأغلب أولئك العمال كانوا من أقاليم المغرب الشمالية والشرقية، فكانت الولاية الفرنسية العامة تنتدب بعض ضباطها المستعمرين للعمل بتلك الزاوية في صورة أوروبيين يعتنقون الإسلام ويحفظون الأذكار ويقيمون بين “الفقراء” والمريدين، وكل ذلك باتفاق مع شيخ الزاوية، فكان العمال المغاربة عندما يقدمون إلى الجزائر يتلقفهم رجال المخابرات الفرنسية العاملون في الزاوية، فيذهبون بهم إلى الشيخ بمستغانم وهناك ينخرطون في الطريقة ويتعرفون على إخوانهم الجدد في الدين (الذين هداهم الله ببركة الشيخ إلى الإسلام)، ثم يتطور التعرف إلى السؤال عن حالة بلادهم ومخزنهم وولايتهم فيدلون عن شعور أو غفلة بأفيد المعلومات التي لا تستطيع السفارة الفرنسية والضباط والأعوان الفرنسيون الملحقون بخدمة الحكومة المغربية، الحصول عليها، نظرا لبعد البلاد وصعوبة المواصلات وخشية الافتضاح.
وقد استمرت زاوية مستغانم تقوم بهذا الدور حتى بعد بسط الحماية الفرنسية على المغرب، فكان مريدوها يتجسسون لحساب فرنسا على الحكم الإسباني، وعلى المقاومة الريفية، وعلى حركة الجنرال فرانكو، والثورة الجزائرية، ولا يستبعد أن يكون مريدوها يقومون حتى اليوم بنفس الأدوار لحساب بعض الأنظمة الثورية التقدمية)).
وإذا كانت هذه هي المدرسة، فكيف سيكون نوع المتخرجين منها؟ إلا أن الجيلالي اليوسفي حظي بامتياز آخر توسع مؤلف كتاب “أعيان المغرب” في شرحه مرتكزا على روايات منقولة فما عن فم لا تدع كلها مجالا للتشكك في دور المخابرات الفرنسية في حياة الرجل الأسطورة الجيلالي اليوسفي، الذي يقول كتاب “أعيان المغرب” عن فترة ما بعد مروره في زاوية مستغانم: ((وهناك في عمالة وهران وصحراء الجزائر، قام شيوخ الطرق الصوفية بغسل دماغه بتوجيه من الموظفين الفرنسيين، ووعدوه بتقديم العون له إذا أنس من نفسه القدرة على القيام بثورة لنصرة الدين، وكان الضباط والسياسيون الفرنسيون حريصين على عدم الظهور حتى لا يثيرون انتباه الحكومة الفرنسية بباريس، التي كان وزير خارجيتها ديلكاسي منشغلا يومئذ بتصفية مسألة المغرب مع الدول الأوروبية المنافسة لفرنسا فيه، والتفاوض مع حكومته على عقد اتفاقيات متعلقة بالحدود، والقصد من هذه التصرفات – التي كانت تقوم بها الولايات الفرنسية العامة في الجزائر دون إذن الحكومة الفرنسية بباريس، أو يقوم بها الموظفون الفرنسيون دون علم الولاية العامة نفسها – هو إشاعة الفوضى ونشر الفتن في المغرب حتى تهن قواه ويسهل ابتلاعه، وذلك باصطناع ثوار يخلقون المصاعب في وجه حكومته ولو باسم الدين ومقاومة التغلغل الأوروبي، وإمدادهم بالمال والسلاح وحتى الرجال، لتكون لفرنسا المنة عليهم إن انتصروا أو إلجاء السلطان إلى طلب السلاح من فرنسا واقتراض المال منها إن أراد الانتصار عليهم، فتكون لها المنة عليه، وفي كلتا الحالتين يزداد صيتها في المغرب ذيوعا ونفوذها انتشارا)).
ولم تكن حفلة التخرج مقرونة بشهادة ولا بدبلوم، ولا سلمه الضباط الفرنسيون عصى المسؤولية، ولا نيشان الاستحقاق، فليس الجيلالي اليوسفي إلا ذلك العالم المتصوف الساحر الشاعر النابغة الذي يعود إلى وطنه محاطا بكبير الجلال والوقار.. فلابد إذن، من إحاطته بالتعظيم أينما حل وارتحل، أليس هو سفير الزاوية الفرنسية في مستغانم، وبطل المرحلة الجديدة في تاريخ المناورات الاستعمارية الفرنسية في المغرب، وأمل القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر؟
إذن، فقد صدرت الأوامر إلى خلايا زاوية مستغانم الموجودة في إقليم وجدة وعلى رأسه عامل الإقليم أحمد بن كروم، الذي نفذ الأوامر – عن جهل أو تواطؤ – وخصص للجيلالي اليوسفي استقبالا رسميا.
وكان الجيلالي اليوسفي يتجول بأقاليم وجدة والجبال المحيطة بها بإقليم تازة، مسجلا المواقع ومستفسرا عن المخابئ، وممضيا للاتفاقيات، ومتسترا وراء الدعوة الدينية، ومحتميا بالزاوية الدرقاوية.
وعندما دخل مدينة فاس، لم يهتم أحد بهذا المتصوف الداعية الذي يجمع حوله المتعطشين للعلم والدين بالآلاف، وكان ينتقل من موسم ديني لموسم آخر، ويبحث عن الزوايا فيزورها والمساجد فيرتادها.. إلى أن أتته الفرصة المواتية أثناء انعقاد موسم كبير للشيخ الجناتي في قبيلة الحياينة، وكانت القبائل المجاورة كلها على موعد مع موسم هذا الولي الصالح، ووسط الجموع الهائلة لرواد هذا الموسم، دخل الجيلالي اليوسفي راكبا على حمارة مغطى بالأسمال، لكنه يوزع الأموال بسخاء، وأحاط به الناس وانهالوا على أسماله بالتقبيل وعلى شخصه بالإجلال.
ودخل أحد المقربين على السلطان المولى عبد العزيز ليخبره بأن رجلا أعلن نفسه سلطانا على المغرب محله، وسألهم: ومن يكون؟ قالوا له: إنه يدعي أنه أخوك امحمد، وسألهم: ومن يكون ما دام ليس أخي؟ قالوا له: إن الناس يسمونه بوحمارة، وقال الوزير المهدي المنبهي: إنه الجيلالي اليوسفي الذي كان معي في السجن.
فتنة الروكي بوحمارة
كان بوحمارة هو القنبلة الزمنية التي فجرها الاستعمار الفرنسي بكل دهاء في جوانب مغرب السلطان عبد العزيز.. فهل نتصور ماذا تحدثه قنبلة متفجرة في بيت كبير؟ إنها تخربه وتصدع جدرانه وتفجر مواسير المياه، وتشعل أسلاك الكهرباء نارا متقدة، وتحدث الرعب النفسي، وتمزق الأشلاء، وعند عودة الهدوء وإطفاء النيران، يلتجئ صاحب الدار إلى طلب العون المادي لتعويض خسائره وإعادة بناء داره.
ولكن القنابل لا يتداولها إلا العساكر عادة لأنها سلاح حربي، وعندما يستعملها مدني، فإنه بذلك إنما يقدم خدمة لعسكري، ولم يكن آنذاك عساكر يرغبون في نسف المغرب غير الجيوش الفرنسية والإسبانية، ولم تكن القنبلة إلا فتنة بوحمارة.
بوحمارة الذي كان في حربه وكره وفره يمارس سياسة الفئران التي تدخل بيتا فخما محروسا، فتظهر عندما لا يكون أحد يتوقعها، وتخرب تحت جنح الظلام، وعادة ما يحلو لها أن تتجول بين أنوف سكان الدار وهم مستسلمون للسبات العميق، والحق أن الحكم في المغرب خلال السنوات التي أعقبت وفاة السلطان الحسن الأول، كان يغط في سبات طويل، فنفهم إذن ماذا كان يتاح لفئران بوحمارة من فرص ذهبية لا للتجول بين أنوف حكام المغرب، وإنما حتى لتنظيم حفلات راقصة على غرار حفلات “ميكي ماوس” أمام ذقون أصحاب البيت الذي لم يكن من حق أحد أن يلومهم.
إن تاريخ فتنة بوحمارة طويل ومليء وحافل بالمغامرات الخليقة بالأفلام السينمائية.
وليس موضوع هذه الحلقة هو ثورة بوحمارة، وإنما وضع بوحمارة في إطاره الحقيقي كسلاح فتاك بالوطن المغربي لتمزيق كيانه وتخريب اقتصاده كمرحلة إعدادية لاحتلاله.
وإذا كنت سأتوسع في تحليل مقاومة الشعب المغربي ضد الاحتلال دون التوسع في مراحل فتنة بوحمارة، فلأن أي مؤرخ لحد الآن لم يعط للمقاومة المغربية ضد الاحتلال حقها، بينما تبارى الكتاب الاستعماريون وكتبة المخابرات الأجنبية، وخبراء نشر الأخبار والدعايات على طريقة راديو المدينة، في تعظيم فتنة بوحمارة وتهويلها.