المنبر الحر | إسلام الأنوار والانتقال من الزمن المقدس إلى الزمن التاريخي
بقلم: بنعيسى يوسفي
لا شك أن صعود نجم الليبرالية والناصرية القومية وكل الاتجاهات التقدمية والتحديثية في العالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان فرصة كبيرة لهذا العالم للانتقال من ما يسميه المستشرق الفرنسي جاك بيرك “الزمن المقدس” إلى “الزمن التاريخي”، خاصة وأنه مر من تجربة تكاد تكون مماثلة وهي محاولات النهضة التي عرفها في القرن التاسع عشر، لم تكتمل وكان مصيرها الفشل، وأُجهضت أو توقفت، وبالتالي، تبخر حلم العرب في التأسيس لدول حديثة بكل مواصفاتها المعروفة، خاصة وأنه في هذه الفترة تسربت إليه العديد من الأفكار الحداثية، التي كان من شأنها أن تسهم في بناء مجتمعات عربية حديثة وحداثية، لكن ثمة معوقات ذاتية وموضوعية حالت دون تحقيق ذلك، ليبقى السؤال العريض مطروحا: لماذا استعصى الانتقال من “زمن المقدس” إلى الزمن التاريخي في المجتمعات العربية؟ وهل لا بد من الانتقال بهذه الطريقة الأوتوماتيكية، أم يمكن أن نهتدي إلى حلول وسطى ربما تناسب الخصوصية العربية في هذا السياق؟
حري بنا أولا قبل أن نخوض في تفاصيل وحيثيات هذا السؤال، الذي يبدو عميقا ومعقدا، أن نحدد ما المقصود بـ”الزمن المقدس” و”الزمن التاريخي”؟ فالمقصود بـ”الزمن المقدس” هو الزمن الذي كان فيه الدين الإسلامي هو كل شيء في المجتمعات العربية على مر العصور، وكان الحكم باسمه باعتباره النظام السائد منذ أن تأسست الدولة الإسلامية إلى سقوط الخلافة العثمانية، والاحتكام إلى النصوص القرآنية في كل التشريعات والقضايا التي تهم الإنسان العربي، أو ما يحلو لبعض المفكرين والباحثين تسميته بالإسلام الأصولي، وما نتج عنه من أفكار ومفاهيم وكتابات فقهية محايثة له في مختلف المجالات، والتي يوثر الكثيرون إحاطتها بنوع من الهالة والتقديس وكأنها لا يأتيها الباطل أو الضعف من أي جانب، رغم أنها إنتاج بشري خالص، لها ما لها وعليها ما عليها، أما “الزمن التاريخي” هذا المفهوم الذي يحمل في طياته حمولة فلسفية عميقة، فالمقصود منه هو دخول التاريخ من أبوابه الواسعة وعدم الركون إلى الخلف والاستكانة إلى واقع الحال والجمود أو الاجترار المعيب للماضي وإنتاج الفراغ، واللحاق بالركب، أي محاولة القطع مع كل تلك الأساليب والممارسات التقليدية، ودخول الحداثة العلمية والسياسية والتكنولوجية، كما فعلت قبلهم جل المجتمعات الأوروبية .
من نافلة القول أن الانتقال من “الزمن المقدس” إلى “الزمن التاريخي” وعلى الطريقة الغربية، من الصعوبة بمكان إن لم نقل من المستحيل أن يقع، أو على الأقل يجب الانتظار أكثر وأكثر حتى تنضج شروط وظروف أخرى غير هاته التي تسود اليوم، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو بدون منازع أنه رغم كل هذه الجهود المبذولة لـ”استيراد” الحداثة على مدار عقود طويلة، وحتى يخال البعض أننا على هديها وطريقها سائرون، فجأة يحدث انقلاب عليها، وغالبا ما يكون السبب في ذلك هو الإحساس بنوع من غرابة المفهوم عن أعماق التراث العربي وشخصيته التاريخية، والشعور بعطش كبير لمعانقة الأصل والجذور، ودائما “الزمن المقدس” حاضر بثقله، وقابع في الزوايا الخلفية يتربص فشل كل تلك الإيديولوجيات “التحديثية” التي سبق ذكرها، لكي يعود ويحتل الساحة كليا من جديد، وهكذا دواليك.. ومن هنا يظهر أن الفكر العربي لم يستطع قطع حبل السرّة مع “الزمن المقدس”، وهذا ما تجده “الأصولية” مناسبا دائما للعودة وبقوة، وفي هذا الاتجاه إذا لم تدخل فلسفة الدين إلى العالم العربي وتفكك اليقينيات التراثية المتكلسة والمتحنطة، فسوف تظل الأصولية في الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لعصرنا، أو كما يقول المفكر هاشم صالح: “كلما هربنا منها لحقتنا أو رأيناها تنتظرنا على قارعة الطريق، كلما توهمنا أننا خرجنا منها إذا بنا نجد أنفسنا مرميين في أحضانها”، وأمام هذا الوضع، ولكون أن لا أحد يملك القدرة على إلغاء الدين الإسلامي أو تحييده جانبا في المجتمعات العربية، بحكم أنه يشكل جزء هاما من وجدان الإنسان العربي، ومن تاريخه، وعقيدته التي يؤمن بها، وثانيا لكونه أيضا يحمل بين ثناياه ما يدعو إلى التحديث والتجديد دائما، وإلى العلم والعمل، فالدين الإسلامي دون شك هو منظومة حياة مكتملة الأركان، لكن يبقى السؤال: أي إسلام نريد؟ نعم بالمعنى الحرفي يبقى الإسلام إسلاما بثوابته ودعائمه، وإنما في نفس الوقت وجب الاعتراف بأن الحياة تتطور والتاريخ يسير إلى الأمام، وبين الفينة والأخرى تظهر إلى الوجود العديد من المستجدات والمتغيرات والظواهر والسلوكات التي تهم مناحي الحياة المختلفة، مما يقتضي مواكبة ليست دينية وفقهية وحسب، بل مواكبة فلسفية وفكرية وتاريخية وتحليلية وما إلى ذلك، حتى نعرف في أي طريق وفي أي مسار نحن؟ إننا نتحدث هنا عما بات يصطلح عليه بـ”الإسلام المتقدم” أو “إسلام الأنوار”، الذي يبدو أن المجتمعات العربية في حاجة ماسة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، و”إسلام الأنوار” هو من المفاهيم التي صاغها جاك بيرك، وأول من استعملها وبعده استعمله المفكر الجزائري مالك شبل، وألف فيه مؤلفات عديدة، و”إسلام الأنوار” هو دعوة إلى إعادة قراءة النص القرآني قراءة عقلانية كما كانت سائدة في ما قبل عند “المعتزلة”، واليوم عند الكثير من المثقفين، وغني عن البيان أن النص القرآني كما كل النصوص الدينية الكبرى، يحتمل قراءتين لا قراءة واحدة: القراءة الأصولية والقراءة العقلانية، إلا أن القراءة الأولى بقيت هي المهيمنة إلى درجة أنها غطت على القراءة الثانية، بل وطمستها كليا، فإسلام الأنوار الذي يدعو إليه مختلف المفكرين والمثقفين العرب اليوم، لا بد له من التأسيس ليس لتجاوز القراءة الأصولية السائدة، وإنما على الأقل لتحقيق نوع من التوازن معها، وذلك بتمكينه من كل الأدوات والآليات القمينة بذلك كما هي متاحة للإسلام الأصولي، وكل هذا لا يعني أنه إسقاط للقداسة عن الإسلام أو أي شيء من هذا القبيل، وإنما يعني الانتقال من الفهم المتشدد للفقه إلى الفهم المتجدد، من الفهم الانغلاقي الظلامي إلى الفهم المضيء، الشيء الذي يتطلب معه توسيع مجال الفقه الغني جدا لكي يتحول إلى فقه التقدم، إلى فقه الحرية، إلى فقه التفكير لا التكفير، وهذا ما يجعل العديد من هؤلاء المفكرين والمثقفين يشجعون على انتشار هذا “النمط” من الإسلام في كل الأجيال الجديدة الشابة، لأنه الوحيد المتلائم مع الحداثة والديمقراطية والنزعة الإنسانية.
يتضح من خلال ما استعرضناه حول “إسلام الأنوار” والأرضية التي يتأسس عليها، أنه لا يتنكر للأصل ولا يمس الثوابت والمرتكزات، وإنما يركز على الفهم الجديد للإسلام واستيعاب روحه الملهمة دائما نحو التطور والتقدم الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بناء على قراءات جديدة أكثر انفتاحا وتقدما حتى ينسجم مع مستجدات العصر ويكون مدخلا للتأسيس لمجتمعات عربية ديمقراطية وحداثية ولو على نموذج عربي بحت.