الحقيقة الضائعة | “بوحمارة”.. المعلم طوماس والتلميذ الجيلالي
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 89"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كان نوع المؤامرات المدبرة داخل القصور في القرن الماضي يختلف تماما عما يعرفه العالم من مناورات في العصر الحاضر.. فقد كان الملك أو الرئيس عندما يقول عن شاب ما:إن لهذا الشاب مستقبلا كبيرا، فإن العناية توجه إلى ذلك الشاب من كل طرف معني بوضعية قائل النبوءة، حتى يدرك ذلك الشاب ما تم التنبؤ له به، وفي بعض الأحيان يحل محل المتنبئ.
وهكذا كانت الأيادي المتآمرة تدس العناصر المعول على أدوارها في المستقبل وسط الحاشية، وتتبع أعمالها وتدفعها لإدراك أعلى المناصب حتى إذا جاء الوقت المناسب لتوجيه الضربة “المواتية”، وجدت الرجل المناسب في المحل المناسب.
وقد كانت الحركات الانفصالية أسلوبا متداولا في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، التي كانت الحركات الانفصالية في أوروبا إحدى الممهدات لها.
والمقصود من كل الحركات الانفصالية هو الاستيلاء على الحكم بالتقسيط، فمهما كانت أي حركة انفصالية متمسكة بالمناطق التي تعلن انفصالها، فإنها سريعا ما تستقر في مناطق انفصالها حتى تبدأ العمل للاستيلاءعلى الباقي.
ولكن الأمر ليس من السهولة بدرجة يمكن معها لأي كان أن يقوم بانفصال ما في أي منطقة ما.. إن الانفصال عادة ما يحدث في مناطق غنية واستراتيجية، وفي ظروف عادة ما تخدم مصالح الدولة المجاورة، لذلك نجد الحركات الانفصالية لا تعلن عن إطلاقها إلا بعد التأكد من الدعم المادي والمعنوي للدولة التي تدير لها ظهرها، تفاديا للطعنات من الخلف، وقد شهدنا كيف أن تشومبي أعلن انفصال كاطانغا سنة 1958، ضاربا عصفورين بحجر واحد: انفصال أغنى الأقاليم في دولة الكونغو، ودعم الدول المجاورة لكاطانغا حيث النفوذ الاستعماري لازال قائما.
وفي موضوعنا هذا عن الأقاليم الصحراوية، والمناورات السياسية الاستعمارية، نجد أن حركة البوليساريو ما كانت لتعلن عن وجودها لولا دعم الجزائر لها، وليس غريبا أن تدوس الجزائر على كل عهودها ومواثيقها مع المغرب، وتتناسى وحدة اللغة والدين والأرض والدم، وتضحي بما قضت السنين الطويلة في التخطيط له من مشاريع مشتركة، وبرامج لإعطاء المثل للدول الاستعمارية عن إمكانية التكامل بين دولتين جارتين تحررتا من براثن مستعمر واحد، وتفرغتا لبناء مستقبل يحقق لهما خروجا من التخلف ووثوبا إلى الغد الأفضل، وحلا عقلانيا لمشاكل خلفها الاستعمار كقنابل موقوتة لنسف استقلالهما، ونزف دمهما.. ليس غريبا أن تتناسى الجزائر كل هذا وترمي به في سلة المهملات وتدعم حركة انفصالية تعرف الجزائر نفسها حقيقة أصلها ومنبعها، وتتمادى في إسالة دماء الشعب المغربي المستميت في سبيل وحدة ترابه، بل وتدفع الشعب المغربي إلى الاستمرار في إعطاء أروع الأمثلة في الوحدة والاستشهاد وتنمية الروح القتالية عند المغاربة وتعميق هوة الثأر بين الجارين، مما يغرق غد العلاقات فيما بينهما في بحر من الدم والثأر.. كل هذه الأغلاط تقدم الجزائر عليها متمادية في دعم حركة انفصالية لأن الأمر في الواقع لا يستهدف إعطاء شعب صحراوي مغربي حقه في تقرير مصيره، وإنما كان في مرحلته الأولى استعمال هذه الذريعة لقلب نظام المغرب وتجريع النظام المغربي غصة لم يبتلعها النظام الجزائري وهو يلتهم المبادئ الاشتراكية التي لم تشبع نهم حاجياته، ولا غطت كل حاجياته.
ولن تتراجع الجزائر إلى المنطلق الصواب وسابق العهد بالأخوة وحسن الجوار إلا بعد أن تستخلص الدرس من سابق تجربتها الشخصية وتأخذ العبرة من صفحات التاريخ الذي لا يهمل ولا ينسى.
وفي إطار هذه التجارب الانفصالية التي نعاني منها بحكم إعادة التاريخ لنفسه، خططت المخابرات الفرنسية بتعاون مع شريكتها الإسبانية لأخطر وأبرع عملية انفصالية حققت الكثير من أغراض الاستعمار، وكادت أن تدرك مداها لولا رد فعل وطني رادع وانتشار وعي شامل، بعد إدراك الرأي العام الوطني، الذي لم يكن على درجة الوعي التي يوجد عليها اليوم، للحركة التي صبت فيها المناورات الاستعمارية كل عبقريتها وذكائها لتعطيها طابع الحركة الانفصالية الداخلية التي كانوا هم أيضا يدعون أنهم ليسوا أطرافا معينة فيها، وكان ضباطهم يقلبون أيديهم أمام الرأي العام الدولي “نظيفة طاهرة” من كل لبس يربطها بهذه الحركة الجهنمية، لولا أن الممارسة الطويلة للمجابهة بين الدولة والحركة الانفصالية، والمعارك الطويلة بين القوتين جعلت الأيام تكشف التواطؤ بين القوات الاستعمارية والحركة الانفصالية، بل إن تردي حالة الانفصال جعلت القوات الفرنسية تتدخل رسميا وعلنا لتبني متزعمي حركة الانفصال.
الطالب اسمه اليوسفي والمعلم اسمه طوماس
فعندما كانت العقول الذكية الأجنبية المحيطة بالجهاز القوي العتيد للملك الحسن الأول، باحثة عن أنجع السبل لشرخ هيكله وإضعاف إمبراطوريته، تتسابق فيما بينها للحظو بأرقى المناصب في البلاط الملكي والصراع على هذا الحظو بالغ أشده بين الخبراء الإنجليز والألمان والفرنسيين، وحتى الإسبانيين والطليان، واقتنعت فرنسا بعد احتلالها للجزائر بأحقيتها “البديهية” في ملكية هذه الإمبراطورية التي كان كل رجالها على المستوى، وأشعت فكرة استعمال باحماد أو المنبهي أو غيرهما ممن كانت تحوم حولهم شبهات كانت لها سوابق مشجعة أثناء إمضاء اتفاقية “لالة مغنية” التي لعبت فيها الرشوة الأجنبية ورقة الخيانة في قضية السيادة المغربية، أصبحت البعثات الأجنبية التعليمية منبت أطر المستقبل التي تعلق عليها كبار الآمال.
وعندما كلف الحسن الأول العظيم القبطان الفرنسي طوماس بتدريب مجموعة جديدة من الطلاب المغاربة النجباء على أصول الحرب والعسكرية، وضع هذا القبطان – الذي لم يكن إلا واحدا في الجماعة المحضرة للمستقبل الاستعماري – يده على كتف شاب طموح ذكي لم يكن إلا مخزنيا بباب الديوان السلطاني وأهله طموحه لأن يحظى بالاختيار السلطاني ليسلم إلى القبطان طوماس، ولو لم يكن هذا الضابط الفرنسي وجد في الطالب المغربي العنصر الذي كان يبحث عنه، لما كتب عنه في مذكراته الخاصة إلى القنصل الفرنسي بفاس، كايار، الذي أشار إلى هذه العناية الخاصة في كتاباته التي بقيت محفوظة في الوثائق الدبلوماسية الفرنسية “مسائل المغرب” سنة 1905 كما ورد في كتاب “أعلام المغرب العربي” للأستاذ عبد الوهاب بنمنصور.
ولا أحد يدري ماذا علم القبطان طوماس لمحظيه الطالب الجيلالي اليوسفي، هل كان يعلمه أصول المناورات أم علوم المؤامرات،أم فن الثورات، أم هل كان يعلمه مبادئ القتل ودروس السفك؟إنما المهم أن الطالب الجيلالي اليوسفي تخرج من مدرسة القبطان طوماس مؤهلا للقيام بدور لم يسبق له نظير في تاريخ المغرب، وخرج من مدرسة القبطان طوماس ودخل رأسا في معترك لم يعرف على مدى عشرين عاما نظيرا من المناورات والمؤامرات والحروب، لم يتوقف حتى نفذ فيه حكم الإعدام وهومصر على مواقفه.
والذي يتعمق في دراسة حياة هذا الرجل الأسطورة، يجد فيه الصورة الحية لرجال عصابات المافيا الذين نرى ونسمع عنهم الكثير.. فقد كان له في كل ظروفه وأحواله وصي ونصير على طريقة “الباران” المعروف في قصص عصابات المافيا، يطلقه من السجن ليضعه في منطلق جديد.
وإلا فكيف نتصور أن هذا الجيلالي اليوسفي، بعد تخرجه من مدرسة القبطان طوماس، أصبح موظفا في القصر الملكي، ولكنه مارس سرقة أو خيانة سجن على إثرها لمدة سنتين، وهي تهمة وعقوبة خليقة بأن يرمى بعدها إلى الشارع، لأنه لا مكان مبدئيا في القصور للسراق ولا لخائني الأمانات.
وإذا بالجيلالي اليوسفي بعد خروجه من السجن، يرقى لمنصب آخر، هو رئاسة الكتابة الخاصة لخليفة السلطان بفاس، الأمير مولاي عمر، الذي حاول أن يعلن نفسه سلطانا في إقليم تازة فيما بعد، وكان الذي أقنع الأمير مولاي عمر بتعيين التلميذ الجيلالي اليوسفي في منصب الكاتب الخاص هو الذي طمأنه إلى أنهما معا سيتعاونان على مهمات كبرى في المستقبل..
وهو تنسيق محكم لم يكن يقدر على التفكير فيه وترتيب خطواته إلا جهاز كبير للمخابرات، هذا الجهاز الذي كلف الكاتب الجيلالي اليوسفي بأول مهمة يوم وفاة السلطان العظيم الحسن الأول، فكلفه بمنع كل المظاهرات لتأييد السلطان الجديد المولى عبد العزيز، ونجح في إسكات أصوات المهللين وزغاريد النساء، لأن الخليق بالملك في مخطط الجيلالي اليوسفي كان هو ولي نعمته المولى عمر خليفة السلطان بفاس.
وكان منتظرا أن يتولى السلطان الجديد المولى عبد العزيز أو وزراؤه زجر الكاتب البسيط الذي تزعم معارضة السلطان الجديد داخل أسوار القصرالسلطاني، ولكن مرة أخرى تدخل الأيادي الخفية لتنقذ الكاتب المحظي الجيلالي اليوسفي من السجن الذي وضعه فيه السلطان عبد العزيز، وكان رفيقه في السجن هو أحد المخازنية ويسمى المهدي المنبهي، كان هو أيضا مؤهلا للقيام بدور خطير في إطار مخطط المناورات الاستعمارية.
إلا أن الأيدي الخفية أخرجت الجيلالي اليوسفي من سجنه للمرة الثانية دون إعارة أي اهتمام لرفيقه في السجن المهدي المنبهي، الذيلم يكن بالنسبة للمخابرات الأجنبية ذا وزن يضاهي وزن الجيلالي اليوسفي.
فكيف خرج الجيلالي اليوسفي من السجن للمرة الثانية وبقي شريكه في الجريمة رهن الاعتقال؟ وكيف خرج الجيلالي اليوسفي من سجن أدخله فيه السلطان الحسن الأول، وسجن ثاني أدخله فيه السلطان عبد العزيز، وأفلت من هذين السجنين في زمن كان فيه من دخل السجن لا يخرج إلا على ظهر صفيحةمن الخشب ورجلاه ممتدتان إلى الأمام؟
ونزل الجيلالي اليوسفي إلى الشارع يزاول السياسة بكل ما في الكلمة من معنى، وسياسة الشارع في ذلك الوقت كانت ممارستها خطيرة، ومتطلباتها المادية كبيرة.. فلم يكن الجيلالي اليوسفي يتوقف عن الانتقاد والتنقيص من أهمية سلطانعفى عنه، وزاد انتقاده عندما سمع بأن رفيقه في السجن المهدي المنبهي، العون المخزني السابق، أصبح وزيرا للحرب، فانفجر الجيلالي اليوسفي غيظا وقال قولته المشهورة: ((إذا كان المهدي المنبهي أصبح وزيرا.. فلابد أن أصبح أنا أميرا)).
لكن كيف؟ وما هي الظروف التي كان يعرف الجيلالي اليوسفي كنهها وتؤهله لأن يدلي بتصريحات من هذا القبيل؟
هنا وجدت الأيدي الخفية الفرصة السانحة لأن تبعث بتلميذ القبطان طوماس إلى المعهد العالي للمناورات السياسية، وإلى تعلم أصول السياسة العليا وسط المدرسة الاستعمارية التي تخرج منها دهاة التهريج والتدجيل وأبطال الغزو الفرنسي للجزائر، وإذا كان الاستعمار الفرنسي مرتكزا في الجزائر، منها يطلق جنوده وأمواله وخبراءه لغزو المغرب، فإلى الجزائر اتجه الجيلالي اليوسفي تنفيذا للخطة الكبرى، وطلبا للدعم، ورغبة في التنظيم، وسيرا في المخطط.