الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الفرق بين السيبة والجهاد

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 88"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    كانت تحركات الوصاية الدولية المقبلة بإمضاء ميثاق الجزيرة تواكب عملية إحراق المغرب، بل كانت – كما سبق ذكره – ذريعة لغزوه، وستارا للحيلولة دون كشف المخطط السياسي والعسكري الاستعماري الذي كان مستمرا منذ المعارك الضارية التي خاضها الجيش الفرنسي ومرتزقته ضد سكان الأقاليم الصحراوية الشرقية وطرد المواطنين المغاربة منها أو إفناء من أصر منهم على البقاء.

فكان الجيش الفرنسي في تحرك مستمر، ولكن تمركز السكان الصحراويين في إقليم تافيلالت وتنظيمهم للمقاومة المسلحة، جعل القيادة العسكرية الفرنسية المستقرة في الجزائر، ووهران، وعلى طول الحدود الجنوبية التي أقيمت بالحديد والنار بين إقليم تافيلالت وأقاليم الساورة وتدكلت وكورارة، تقف بكل قوتها وثقلها عاجزة عن دخول المغرب، مما دعا الحكومة الفرنسية لتكليف الجنرال ليوطي، رئيس مقاطعة عين الصفراء، بالانتقال إلى وهران والتخطيط لاحتلال المغرب.

لذلك لم يكن الغزو السياسي والعسكري الفرنسي متوقفا لحظة واحدة، وإنما كانت فرنسا تبحث عن تغطية دبلوماسية لغزو المغرب، فجاء ميثاق الجزيرة ملبيا لآمالها مجددا لعزيمتها.

تتمة المقال تحت الإعلان

وقبل عقد مؤتمر الجزيرة بسنوات، كانت عملية إحراق المغرب مستمرة لا تعرف التوقف، بينما كانت المواجهة الوطنية ضد الاحتلال والتشكيلات الثورية ضد المناورات الاستعمارية تعرف المزيد من الانتصارات، وهي انتصارات ليست من قبيل الانتصارات التي نسمع عنها اليوم في البلاغات والتصريحات في الحروب القائمة في الشرق والغرب.

كانت انتصارات المقاومة المغربية كامنة في الضربات القاسية التي توجهها للعدو ولعملاء العدو، وما دام كل حادث يموت فيه أجنبي واحد يكذب ادعاءات الغزاة، ويخلق في نفس الوقت مزيدا من تشكيلات الثوار، فإن ذلك كان هو الانتصار، ولولا تلك المقاومة وذلك التحدي المغربي، لأخذ احتلال المغرب شكل احتلال الجزائر، ولو تمكن الاستعمار الفرنسي من احتلال المغرب على طريقة احتلال الجزائر.. لما كان الأمل في استقلال هاتين الدولتين ممكننا.

لقد شهدنا أن استمرار الثورة المغربية ضد الاحتلال الفرنسي تتوج باستقلال المغرب، مما أعطى للثورة الجزائرية نفسا قويا لدعمها واستمرارها وتتويجها باستقلال الجزائر، وهنا يكمن الانتصار المغربي.

تتمة المقال تحت الإعلان

وهكذا، ومع مطلع القرن العشرين، ومنذ الشهور الأولى لسنة 1900، اندلعت شرارة الغزو السياسي والعسكري للمغرب، فأذكت باندلاعها نار الثورة المغربية، وكانت المواجهة خلال فترة إحراق المغرب بين القوة الوطنية والقوة الغازية على الشكل التالي:

– من الجانب الفرنسي، كان التخطيط المحكم للمناورة معتمدا على العناصر التالية:

  1. إفقار المغرب وتجويعه؛
  2. بث المرتزقة والعملاء للتفرقة بين القبائل؛
  3. إضعاف موقف السلطان، وتحميله كل المسؤوليات؛
  4. إثارة بوحمارة وتسليحه وتأطير جيوشه؛
  5. إذكاء نار الحرب بين السلطان عبد العزيز وأخيه السلطان عبد الحفيظ؛
  6. إطلاق يد إسبانيا في الشمال للقيام بأعمال مشابهة للأعمال الفرنسية.

واتفق الاستعماريون على تسمية هذه الأعمال بالنظام، واتفق المغاربة على تسميتها بغزو الكفار.

تتمة المقال تحت الإعلان

– أما على الجانب الوطني، فقد كانت حركة الثورة الوطنية ضد الاحتلال متمثلة في العناصر التالية:

  1. ثورة السلطان عبد الحفيظ على أخيه؛
  2. ثورة البوعزاوي في إقليم الشاوية؛
  3. ثورة الريف استجابة لدعوة الشريف أمزيان؛
  4. حرب الشريف مولاي رشيد في الجنوب؛
  5. اغتيال العملاء ورؤساء المصالح الاقتصادية.

واتفق الاستعماريون على تسمية هذه الأعمال بالسيبة، واتفق المغاربة على تسميتها بالجهاد.. وكانت المواجهة.

هذه المواجهة أنقلها بالأحداث والأسماء والتواريخ، وأكتبها كما كان يجب أن تكتب لا كما خلفها لنا الفرنسيون وصدقناهم إلى أبعد مدى، وأخذ المؤرخون مخلفاتهم مأخذ الجد، حتى أحجم عدد منهم عن كتابتها، وكيف نطمح لأن يكتب أعداؤنا عنا حقائق لا تشرفهم، وكيف نشك في وطنية المسؤولين المغاربة سلاطين ومواطنين، وكيف نتهمهم بتهم ألصقها بهم جهاز المخابرات الفرنسية دون أن نتفحص جزئيات تصرفاتهم ودون أن نسأل التاريخ.

تتمة المقال تحت الإعلان

فلولا الرفض الكامل المتكامل للاحتلال الفرنسي، ولو كانت هناك حقا خيانات وتهاونات، لكان المغرب مستعمرة على طريقة الجزائر، ولما كان هناك استقلال للمغرب واستقلال للجزائر، وهذه هي جزئيات المواجهة بكل دقة وأمانة.

 

الله يرحم مولاي الحسن

تتمة المقال تحت الإعلان

إن المقولة التاريخية “الخير كله في الصحراء والشر كله في الصحراء” تعتبر بحق ذات مغزى عميق.

لقد اندلعت نار الثورة في المغرب كله، جباله وسهوله شماله وجنوبه وراء شعار واحد هو الاحتلال الفرنسي للصحراء الشرقية.
وعندما جاء مولاي الهيبة إلى داخل مدينة مراكش ليضرب قوات الجنرال مانجان، اهتز الرأي العام الوطني ملبيا دعوة الجهاد.

وعندما انشغل السلطان عبد العزيز في المشاكل الاقتصادية التي أغرقه فيها المستشارون الفرنسيون والإنجليز، وأوقفت حرب السلطان الحسن الأول ضد احتلال الصحراء، وظهر للعيان عمق الثغرة، أصبح المغاربة في حل من الانتظار والأمل والرجاء وحملوا راية الجهاد، وكان على رأس المجاهدين الأمير مولاي عبد الحفيظ.

تتمة المقال تحت الإعلان

ولم يكن مولاي عبد الحفيظ وحده، وإنما كان يدلي بدلوه بين الدلاء، ويسهم بنصيبه في خوض المعركة المصيرية ضد الاحتلال.
وعندما شعر الخبراء الفرنسيون والإنجليز بأن روح النفور من سياسة السلطان عبد العزيز تجاه الصحراء الشرقية، وتذمر الرأي العام الوطني من عجزه عن الاستمرار في سياسة أبيه العظيم الحسن الأول، تبنوا هذا النفور ونموه وطعموه، بأن نصحوا السلطان عبد العزيز بأن يحل الأزمة الاقتصادية بعنصرين جهنميين يعتبران غاية في المناورة:

– الأول: إلغاء الزكاة وفرض الترتيب بدلها.
– ثانيا: إلغاء عملة الحسني (عملة الحسن الأول).

وأصبح المغاربة مرغمين على التعامل بعملة “السوردي” المشتقة من “سو” العملة الفرنسية، وأصبح الفقراء يدفعون الترتيب بدلا من أن يأخذوا الزكاة.

وكلما أمسك مواطن بقطعة “سوردي” بدل “الحسني”، رأى فيها وجه الاحتلال وردد: “الله يرحم مولاي الحسن”.. لقد كانت عملته بالفضة وها هي أصبحت بالبرونز الأصفر، فرحم الله مولاي الحسن، وكلما ردد المغربي اسم مولاي الحسن تذكر النخوة والعظمة والانتصار على الكفار.

وصبر الناس على التغيير، ولكنهم لم يصبروا طويلا، وكلما ازداد السلطان عبد العزيز بحثا عن الحلول لأزماته الاقتصادية والتزاماته المادية، زاده المستشارون إغراقا وتوريطا.

وأخذ الموظفون الكبار يتفادون تسلم المناصب الكبرى ويرفضون الاقتراب من السلطان، وهي غاية قصوى أدركها الخبراء الأجانب حينما أصبح قانون تسلم الوظائف الكبرى على أداء القسم.

وقال العلماء ولماذا أداء اليمين؟ أليست اليمين على من أنكر ونحن لم ننكر يوما ولاءنا للسلطان؟

وعندما نصح المستشار البريطاني الخاص للسلطان عبد العزيز بإصدار قانون 14 شتنبر 1901 بإلزام الناس بالتصريح بممتلكاتهم وأداء ضرائب عنها، أقر السلطان بأنها وسيلة جديدة لملء صندوق الدولة، وأقر المواطنون أنها خرق للشريعة الإسلامية.

وصبر الناس على التغيير، ولكن صبرهم لم يطل.

وكان المواطنون المغاربة يلجؤون إلى المساجد للإفلات من قبضة القانون وللتوبة إلى الله في نفس الوقت، فصدر قانون بمنع قانون الاحتماء بالمساجد. إنه لا توجد مساجد في بريطانيا، وطن المستشار هاريس، فلا حرمة للمساجد في المغرب.

وقال المواطنون هذا مستحيل.

وراج بين المواطنين أن هذا من نصح الإنجليز وهم يقصدون هاريس، فانقض أحد المواطنين على أحد الإنجليز في مدينة فاس وقتله ودخل لحرم مولاي إدريس ليحتمي، وقال هاريس: “إن القانون يكتب لينفذ”، ودخلت مجموعة من الحراس بحضور مجموعة من الإنجليز وأخرجوا المواطن المغربي من الحرم الإدريسي ونفذوا فيه حكم الإعدام بتقطيعه إربا أمام أنظار الناس.

وكان هذا التسلسل المريب للقرارات والأحداث المستحدثة دون إعداد للرأي العام، ودون توفر وسائل التفسير والإقناع، أكثر مما يتحمله هذا الشعب الذي لم يبتلع غصة احتلال الصحراء، فجاءت القرارات المستوردة لتزيد جرحه تمزيقا ومواجعة وآلاما.
وإذا كان الكفار قد دخلوا الصحراء بالسلاح، ودخلوا المدن بالقوانين، فإن الشعب همّ لطردهم بجميع الوسائل.

 

الأمير مولاي عبد الحفيظ يدخل الأحداث

    وبتنسيق محكم وتخطيط جهنمي، شبت في ظروف غامضة الأسباب حرب طاحنة بين أفراد قبيلة واحدة، هي قبيلة احمر التي كان يحكمها أربعة عمال هم: مسعود بلعربي، أحمد ولد علال، قاسم ولد القاضي، وقدور الخلاقي.

وانتصر الأخيران على الأولين في حرب طاحنة اشتعلت في مايو 1902، ولم يتمكن السلطان عبد العزيز من التوجه لإيقاف الحرب بين المتقاتلين، فإنه عندما هم بالسفر إلى قبيلة احمر، ثم إخباره بأن السيبة اشتعلت في أيت يوسي غير بعيد من فاس، وكلف السلطان عبد العزيز أخاه الأمير عبد الحفيظ بالتوجه إلى احمر لفرض النظام كما عينه في نفس الوقت عاملا على أقاليم الجنوب.

وعندما وصل الأمير عبد الحفيظ إلى قبيلة احمر، وجد أن الأمر يتعلق بحرب بين فرقة تؤيد الاحتلال وفرقة مكونة من لاجئين من القبائل الصحراوية من أولاد دليم وأولاد بوسبع، أرادوا الحرب على الاستعمار في الشياظمة استمرارا لحربهم في الصحراء.

وفطن الأمير عبد الحفيظ إلى نبل الفرقة الثانية، ولكنه لعب ورقة وطنية نبيلة، وهي ورقة التوحيد، توحيد الجهود في حرب واحدة، لكن ضد الاحتلال.

وعندما أخذ الفرنسيون يقيمون الخطوط الحديدية والتلغرافية في ضواحي فاس، هبت قبائل أيت يوسي لنسفها وضرب الجيوش التي تحرسها، مما دعا السلطان عبد العزيز للاستنجاد بقبائل الشاوية ودكالة وعبدة والسراغنة، والتي ما إن وصلت بقيادة العامل عبد السلام برشيد، حتى كانت الأيادي الخفية قد أطلقت ثورة بوحمارة التي أغرقت ما تبقى للسلطان من إرادة في فرض النظام.

وإذا كانت كل أعمال تفرقة القبائل، إما أصلها ضرب الاحتلال، وإما بتدبير من جيوش الاحتلال، فإن بعض الأحداث كانت لا تدع مجالا للشك في نوعية أسبابها.

ففي يونيو 1901، تم إخبار السلطان عبد العزيز بأن أحد الخبراء الفرنسيين في طنجة، ويسمى بوزي، قد تم اغتياله من طرف مجموعة من قبائل كبدانة، ولم يكن المهم هو إخبار السلطان، وإنما المهم هو تهديده بأنه إذا لم يطلق للفرنسيين اليد في معاقبة كبدانة فإنهم سيضطرون للقيام بذلك دون استشارته، وبصيغة أخرى، فإنهم سيضطرون لدعم بوحمارة الذي أصبح كالسيف المسلط فوق رأس السلطان.

ولكن الثوار لم يكونوا على علم بما يدور داخل قصر السلطان، وبعد شهر واحد، في يوليوز 1901، فتكوا بمجموعة من الأوروبيين في وسط طنجة فزادوا وضعية السلطان تعقيدا.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى