الحقيقة الضائعة | السلطان مولاي عبد العزيز بين الفرنسيين والألمان
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 83"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
لم يكن أحد يجهل مغزى المنشآت الاقتصادية، فما إن وصل أحد أفراد عائلة “مانزمان” للدار البيضاء، حتى شرع في ممارسة أعماله التجسسية لمراقبة التوغل الفرنسي ومراقبة الحركات على شواطئ الدار البيضاء.
ولازالت صخرة “مانزمان” في الشواطئ المتواجدة بين المحمدية والدار البيضاء شاهدة على الاختيار الاستراتيجي لهذا الموقع.
وطبعا، دخلت اتفاقية الألمان مع المولى عبد الحفيظ حيز التطبيق، إلا أن الاتفاق بقي سرا لا يعرفه إلا “مانزمان” ومولاي عبد الحفيظ، ولم يتم الإعلام إلا عن زيارة قام بها الإمبراطور الألماني كيوم إلى طنجة في الفاتح من شهر مايو 1905، وكان مبعوثو السلطان عبد العزيز يستقبلونه بحفاوة، وعلى رأسهم الضابط ماك لين، الذي جاء من فاس على رأس الجيوش السلطانية لاستقبال إمبراطور ألمانيا.
وكانت زيارة في منتهى الحدة والمكر.. إمبراطور ألمانيا المتفق مع سلطان الجهاد المولى عبد الحفيظ، ينزل في طنجة ويستقبله مبعوثو السلطان عبد العزيز وعلى رأسهم الجاسوس البريطاني ماك لين وهم يعلمون أن ألمانيا ليست لها مطامع في المغرب، ويجهلون الهدف الحقيقي من زيارة الإمبراطور الألماني الذي وقف أمام مبعوثي السلطان عبد العزيز راجيا منهم أن يبلغوا تحياته للسلطان المستقل، وهي تحيات لا تخلو من نكاية بالمولى عبد العزيز، الذي كان الإمبراطور الألماني قد راهن على المستقبل بإعطاء الدعم لأخيه ومعارضه المولى عبد الحفيظ.
لهذا لم يفهم أحد لماذا لم يقض الإمبراطور الألماني ليلته في طنجة، وقبل أن يغادر طنجة، وجه مبعوثا خاصا لفاس حاملا رسالة للمولى عبد العزيز.
ولقد وصل هذا المبعوث في نفس الوقت الذي وصل فيه إلى القصر السلطاني بفاس مبعوث فرنسي جاء يحمل عروضا جديدة لتنفيذ المخطط الفرنسي، وتنظيم الجيش، وتنظيم الاقتصاد..
وكان المولى عبد العزيز قد استقبل المبعوث الألماني قبل المبعوث الفرنسي، وبسرعة غريبة أجاب السلطان المندوب الفرنسي بأنه يرفض كل العروض الفرنسية، وأضاف: ((إنه لا بد من عقد اجتماع دولي لدراسة كل العروض التي تقدمها كل الدول لمساعدة المغرب، وأنه لا يقبل الدعم من فرنسا وحدها، ولن يتفق مع دولة واحدة)).
وهكذا أبلغ السلطان عبد العزيز للمبعوث الفرنسي محتوى ما جاء في رسالة الإمبراطور الألماني.
ومما دعا السلطان عبد العزيز للتعجيل بإعلان رفضه للمقترحات الفرنسية، هو أن الرسالة الألمانية كانت خليطا ما بين الدعم والتهديد: ((إنه إذا اخترتم التعاون مع فرنسا سنترككم لجلاديكم الفرنسيين، وإذا رفضتم ذلك، فإن بعثات اقتصادية هامة ستصل من برلين بمشاريع تجارية، وسيتم فتح قنصليات ألمانيا في كل المدن التي توجد فيها موانئ)).
وفي نفس الوقت، تضمنت رسالة القيصر كيوم تصاميم بناء عمارة كبرى في الدار البيضاء، ستكون مقر القنصلية الألمانية، وسيكون شكلها من العظمة بحيث يليق بشخصية القنصل الألماني للقيصر صديق السلطان الحميم، كما تضمنت الرسالة تصميما آخر لقصر سيبنى في ظرف شهر واحد، خصص القيصر الألماني اعتمادا لبنائه قدره مليونان من البسيطة، يهدى للسلطان.
وعندما عرض مبعوث القيصر هذه الجزئيات على السلطان عبد العزيز، ختم حديثه معه قائلا: “إنكم والقيصر إخوة”.
وبتنسيق محكم، انطلقت كل الصحف الألمانية تؤيد السلطان عبد العزيز، وتنشر رفضه للرسالة الفرنسية ورغبته في الدعوة إلى مؤتمر دولي لدراسة ظروف تقديم الدعم لدولة المغرب.
وهكذا، دخلت ألمانيا في لعبة الوصاية الدولية بكل ثقلها المادي والمعنوي، وأيضا بكل ذكاء وحنكة، إذ ضربت في نفس الوقت عصفورين بحجر واحد:
- دعم مادي للسلطان الشرعي في فاس، حيث وصلته مساعدة مادية قيمتها اثنا عشر مليون مارك في شكل قرض يرده بعد سنتين، وهي مهلة تدعو للاستغراب؛
- ودعم مادي وعسكري لسلطان الجهاد عبد الحفيظ، لكن جزئياته بقيت سرا.
وشعرت فرنسا بالمناورة الألمانية فحاولت الضغط على السلطان عبد العزيز لرفض المعونة الألمانية، وبدأت أولا بإعطائه قرضا قيمته 12 مليون فرنك فرنسي، وعندما استهلك القرض، استمر في دعوته للمؤتمر الدولي، فاتجهت فرنسا إلى أسلوب غير جديد في الضغط، وهو استدعاء بعض القبائل في المناطق الشرقية إلى وهران لتسليحها وإدخالها إلى المغرب لإشعال الفتن في إطار سياسة إحراق المغرب، إلا أن كل هذه المناورات قد يعول عليها في مواجهة دولة مغلوب على أمرها كالمغرب، أما تجاه ألمانيا القوية، فإن الأمر يستدعي حلا أكثر إيجابية.
لذلك سارعت فرنسا إلى إمضاء بروتوكول مع ألمانيا في 8 يوليوز 1905 ينص على اتفاق ألمانيا وفرنسا على تأييد دعوة السلطان لعقد مؤتمر دولي لدراسة المسألة المغربية، وفي أعقاب إمضاء هذا الاتفاق، أعلن السلطان عبد العزيز عن دعوته لمؤتمر دولي في بيان صدر في 28 أكتوبر 1905.
لكن الاتفاقيات شيء والتحركات والمناورات شيء آخر.. فلم تكن الاتفاقيات عبر القرون والأجيال إلا ستائر لحجب المناورات والتحركات.
لقد كانت البعثات الألمانية تتقاطر على المغرب لدرجة أزعجت فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، بل إن السلطان عبد العزيز منح إحدى الشركات الألمانية امتياز أحد الموانئ التي كانت المفاوضات جارية في شأن صفقتها مع الحكومة الفرنسية.
وعندما أخذت بوادر عقد المؤتمر الدولي، الذي كان السلطان عبد العزيز يستهدف منه الإفلات من ضغط دولة واحدة، كانت تصرفاته مع الألمان قد زادت من حقد الفرنسيين عليه، وهو حقد لا يعادله إلا تعاطف الألمانيين مع أخيه المولى عبد الحفيظ.
فلم تكن ظروف عقد مؤتمر دولي، الذي دعا إليه السلطان عبد العزيز، تعمل لصالحه على الإطلاق.
إلا أن النشاط السري الفرنسي، وحتى الإسباني، كان قد بلغ حدة جعلت السلطان عبد العزيز يستعجل عقد مؤتمر دولي لإنقاذ المغرب، وإذا عرفنا أن الحكم كان قد صدر بمقتضى الاتفاق البريطاني-المغربي سنة 1904 في شهر أبريل، والاتفاق الإسباني-الفرنسي على اقتسام المغرب في سابع أكتوبر 1904، وأن فرنسا – كما ورد في حلقات سابقة – كانت تمارس عملية الاحتلال ضاربة بعرض الحائط كل الأوفاق والمبادئ الدولية، وتذكرنا ما يقض مضاجع الجنرال ليوطي وهو في الجزائر من طموح لاحتلال المغرب، وما يمارسه من تسليح للقبائل وإثارة لبعضها ضد البعض.. لقدرنا الظروف التي كانت تضغط على السلطان عبد العزيز للاستنجاد بدعوة أكبر عدد من الدول للاهتمام بأمر المغرب، وطموحه إلى تدويل القضية المغربية، حيث أن المولى عبد العزيز لم يبق ذلك الشاب اللاهي الذي كان يترك الأمر لوزيره باحماد، بل أصبح مسؤولا عارفا بالمناورات مقضوض المضاجع بما تمارسه القوات الفرنسية، والإسبانية، والألمانية من مناورات وحروب، بينما شمل التخريب كل الهياكل الاقتصادية وأصبح الوطن قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس.
ودعوته إلى مؤتمر دولي لم تكن بالفكرة العابرة، وإنما كانت فعلا الحل الوحيد الذي لا يمكن أن ينصح به إلا خبراء عظام في مجال السياسة الدولية.
وتحت الضغط الألماني، والتأييد الأمريكي، والتناور الفرنسي.. تقرر عقد المؤتمر الدولي في 16 يناير 1906 بالجزيرة الخضراء، خلافا لرغبة السلطان عبر العزيز، الذي كان يريد عقد المؤتمر في طنجة.