الحقيقة الضائعة | عندما دفع الاستعمار الفرنسي المغاربة للقتال ضد بعضهم
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 81"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
مجموعة جنرالات 1961
لقد أقفلت مجموعة جنرالات 1961 حلقة مغامرة الجنرالات الفرنسيين في الشمال الإفريقي، وهو جوهر هذا الموضوع الذي ابتدأ بالحديث عن الجنرال دوغول، الذي فطن إلى أن العصر لم يبق عصر استعمار عسكري، ربما كان يفكر في نوع آخر من الاستعمار، ربما الثقافي أو الاقتصادي، ولكنه ووجه بالحصار الاستعماري الوراثي متجليا في الأرض التي غرس فيها الجنرال بوجو بذرة الاستعمار.
وفي سنة 1961، فطن الجنرال دوغول إلى أن الجنرالات الفرنسيين في الجزائر كانوا وراء كل عمليات القصف التي أخذت تتعرض لها الدولة الفرنسية نفسها..
لقد اجتمع الجنرالات: سالان، ماسو، جوهو، شال؛ زيللير، وكامبييز، واجتمعت معهم كل حثالات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وبعدما تأكدوا أن الدولة الفرنسية أصبحت تشعر بعنف الثورة الجزائرية، وبعدما عجزوا هم أنفسهم عن قمع ثورة المليون شهيد، قرروا ضرب نظام فرنسا نفسه وقلب الأوضاع، وخططوا لاحتلال فرنسا لولا أنهم وجدوا أنه في فرنسا كان يوجد الجنرال دوغول.
فهل هو التاريخ يعيد نفسه، أم أنها جيوش الشر تحن إلى العودة لمنبعها ؟
تلكم كانت قصة الجنرالات مع المغرب العربي، وهي وإن تم سردها بمنتهى الاختصار، فإنما تؤكد حقيقة واقعية وهي أنه لم يكن النظام الفرنسي في باريس أيام الجنرال ليوطي بنفس القوة التي كان عليها النظام الفرنسي أيام جوان وغيوم.
ولهذا وجب التسليم بأن ظروف المواجهة بين الوطن المغربي والاستعمار الفرنسي عند دخول الاستعمار، كانت أكثر عدة ومخططوها أمضى شوكة مما كان عليها الوضع عند نهاية الاستعمار.
وربما ستثبت الوقائع أن مقاومة المغرب للاحتلال كانت أكثر استبسالا وأقوى تضحية وأغنى إرادة من المقاومة التي مهدت لطرد الاحتلال.
في سنة 1900، لم يكن هناك مقياس لحقوق الإنسان ولا منظمات دولية متطورة، ولا جامعة عربية ولا مدلول للتضامن بين الشعوب.
في سنة 1900، كان الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اقتسام لغنائم تقرر التهامها حول طاولة كبيرة في مؤتمر برلين، مثلما تقتسم غنائم الصيد وهي ملقاة على الأرض، إلا أنه كان من سوء حظ فرنسا أن الصيد الذي كان من نصيبها لم يكن جثة هامدة، وإنما كان جبارا عنيدا قوي الشكيمة.
وجلس الجنرال ليوطي في مركز قيادته في عين الصفرا يخطط للاستيلاء على الغنيمة، وأخذت ذكريات الطونكان ومدغشقر تراوده، وخط على إحدى الصفحات من مذكراته هذه السطور: “التنسيق المتكامل بين العمل السياسي والعمل العسكري”؛ “وحدة القيادة”؛ “السلطات العسكرية والمدنية في يد واحدة”.. هذه السطور نلقها كاتب مذكراته أندري لوريفيران هكذا بين قوسين كما كتبها ليوطي نفسه.
إنها الفلسفة التي دخلت بها فرنسا للمغرب، وأولى وصاياها: “التنسيق المتكامل بين العمل السياسي والعمل العسكري”.
جولة في فلسفة ليوطي
عندما يكتب أي عسكري مخططا ما، فإنه يلتزم به ويحرص على تنفيذه حتى ولو قدم روحه في سبيل تحقيقه، وإذا لم يحترم هذه القاعدة فإنه ليس خليقا بأن يتشرف بلقبه العسكري.
وعندما خط الجنرال ليوطي – بعد تفكير كبير – فلسفة التنسيق بين العمل العسكري والعمل السياسي، فإن الذي يجب معرفته هو نوع العمل الأول ونوع العمل الثاني.
وليس من شك في أن الجنرال ليوطي تقمص شخصية مسيحية متصوفة وهو يخطط لاحتلال المغرب، وأصبح موقنا بأن رسالته الموحاة أمانة ملقاة على عاتقه، بل وربما كانت تخامره فكرة إنقاذ فرنسا من خلال احتلال المغرب، وهي تركيبا سيكولوجية خطيرة التأثير على من يقع تحت وطأتها، خصوصا إذا كان قابعا على رأس ترسانة من السلاح متحكما في عشرات الآلاف من الجيوش.
إن الإنسان المدني مهما تفلسف وتعمق في التفكير، فإن تفكيره لا يعدو أن يسبح في آفاق من الخيال ويركب أجنحة هائلة من السحاب الفضفاض سرعان ما يسقط منها على بسيطة الحقيقة حيث يجد نفسه لا حول له ولا قوة، كذلك الواقف على حافة الطوار ينتظر الحافلة، وهو يحلم بذلك اليوم الذي يكون فيه لكل مواطن سيارة بحكم الديمقراطية والمساواة.. ويتخيل الناس جميعا متراصين في سياراتهم ولا أحد يمشي راجلا في الشارع، وطبعا يتخيل نفسه في سيارة وسط الأفواج المتراصة للسيارات ويهتز جسمه لحركة قوية تنتشله من أوهامه ليكتشف أن أحد الواقفين دفعه جانبا ليأخذ محله في الحافلة التي أقلعت.
أما العسكري، فهو شيء آخر ولا شك.. إنه لا يحلم وليس من حقه أن يغرق في بحر من الأوهام، وكذلك الجنرال ليوطي، وموانيي، وكورو، وغيرهم.
لو قرأنا رسائل ليوطي لحسبناها سياحة في عالم الخيال، لكن بحكم رتبته العسكرية وتجربته، فإنه من الخطأ اعتباره حالما. إن الرتبة العسكرية في ذلك الزمان كان لها مغزى ومدلولا يختلف تماما عن مغزاها ومدلولها في أي وقت آخر، ورتبة جنرال لم تكن في متناول أي حاكم فيلسوف في ذلك الوقت العصيب المتواجد في عز الحرب العالمية الباردة التي مهدت لأعظم حرب عالمية كانت هي الحرب العالمية الأولى.
ولنقرأ هذه الرسالة الشخصية للجنرال ليوطي لنتبين وزن الرجل ونوع العمل الذي يفكر فيه، ووزن الرجل وبعد آفاق تفكيره.
في رسالة مؤرخة بـ 28 يوليوز 1907، يكتب من وهران إلى صديقه المحامي أنطوان دوماجوري، وهي رسالة أشبه ما تكون برسالة موجهة من الجنرال سالان إلى أي كولونيل في باريس وهما يتبادلان عبارات التفاهم على أن فرنسا في حاجة إليهما معا لإنقاذها، رجل القانون ورجل السلاح، وكما كان سالان شغوفا بالإبقاء على احتلال الجزائر كان ليوطي شغوفا باحتلال المغرب، وهما معا ينطلقان من أن عظمة فرنسا كامنة في نجاحهما.
يقول الجنرال ليوطي في رسالته: ((لقد قضيت أنكى ستة أشهر في حياتي.. لقد كلفوني بقضية وجدة دون برنامج ولا تعليمات، وأيضا بدون مبادرات.. إننا نتخبط في وضعية سخيفة وأنا مكتوف الأيدي بأوامر صارمة ومتناقضة، لأنه ليس هناك تفاهم بين وزرائنا، وهذه القضية جعلتني أعيش أجمل مهرجان فوضوي حكومي.
إنه في هذه القضية المغربية، فإن غيبة التنسيق وضعتنا في مأزق وأنا الذي أتحمل المسؤولية وعلى أكتافي يقع ثقلها، لأنهم في باريس لا يقدرون ظروفنا ولا ينظرون إلا لمصالحهم، لأننا في وضع لا تكفي فيه خطب البرلمان.. ولقد تعبت وليس من حقي أن آخذ عطلة لأن نفسي لا تسمح لي بأن أسلم هذه المسؤولية “القيادة العصيبة” التي حتى ولو كنت غائبا فإنه سأكون مضطرا لتحملها، ثم إن كل مجهوداتي الشخصية في المجال العسكري والمجال السياسي أجدها معوقة بالمشاكل التي تتخبط فيها فرنسا.
ماذا أقول لك؟
إنك تقدر وتفهم أنني وطني، واستعماري بكل ما لهذه الكلمة من مدلول بريطاني، متكبر بكل ما ورثته من جذوري، تأكلني الغيرة، متألم لدرجة قصوى من العذاب)).
في خضم عذاب الضمير يتحدث ليوطي عن برنامجه السياسي والعسكري، ويجتر هو أيضا أفكاره الاستعمارية الممزوجة بالكبرياء والوطنية والروح الاستعمارية وهو يستعد لغزو المغرب، هذه الخطوة التي تفصله عن المجد الذي يحلم به.
ورغم أن ليوطي لن يعين مقيما عاما فرنسيا بالمغرب إلا بعد إمضاء عقد الحماية، فإنه كان يزاول من الجزائر مهمة التخطيط التي وصفها فيما قبل بأنها مهمة عسكرية وسياسية.
لقد كتب بنفسه رسالة من وهران إلى الحاكم العام الفرنسي للجزائر، جونار، مؤرخة بـ 24 يوليوز 1910، يقول فيها: ((إنه مهما كانت أخطاء فيلقي التاسع عشر، فإن متعة الفرحة تغمرني لما حصلت عليه من نتائج.. إن الأخبار تتحسن يوما عن يوم، وفي بركان التي كنت بها أول أمس، جاءت قبائل بني بويحيى للسوق وأخبروني أن القبائل التي هاجمتنا قد تم القضاء عليها، والضفة الشرقية اليوم لوادي ملوية أصبحت خاضعة لنا بينما الضفة الغربية هادئة.
وبالمناسبة، فإن اتفاقية 1895 قد أصبحت لاغية وأن الملوية بأيدينا وإلى الأبد، وهكذا أكون قد أديت مهمتي)).
هذه الرسالة واردة أيضا في كتاب “مذكرات ليوطي” (نشر بيران 1980).
ومدلول هذه الرسالة هو عنصر أساسي في تفسير مخطط ليوطي السياسي والعسكري، فبالإضافة إلى أنه يعترف بأنه عسكريا أدى مهمته، فإنه يعترف بأن مهمته قد تم التمهيد لها باستعمال قبائل بني بويحيى في القضاء على القوات المغربية التي تضرب الفرنسيين وكانت في تلك المنطقة هي قبائل بني يزناسن.
ولم يكن ليوطي يخفي اغتباطه للنتائج التي حصل عليها، بل يعتبرها تجديدا في مجال السياسة الاستعمارية، ويسجل اعترافه هذا في رسالة أخرى إلى صديقه الحميم، جوزيف شايلي، كتبها من مدينة رين في سابع نونبر 1911 فيقول: ((أظن أنهم – يقصد الحكومة الفرنسية – يحنون إلى استعمال الأساليب السابقة التي استعملت في غزو الجزائر، بينما تجربتنا المكتسبة وفلسفة مجموعتنا، أعطت نتائج رائعة بثمن رخيص)).. وهل هناك أروع إنجازا وأرخص احتلالا من أن يتولى المغاربة قتل بعضهم باسم السيبة والفتنة وأخذ الثأر ؟
لعل هذه الموجزات لمذكرات ليوطي ومراسلاته، أغنتني عن بذل الكثير من الجهود في تبرير الدور الجهنمي الذي لعبته المخابرات الفرنسية في المغرب تمهيدا لاحتلاله.
إنه منتهى الالتقاء في الرأي بين الجنرال بوجو أيام حرب إيسلي سنة 1844 والجنرال ليوطي أيام إعلان حرب الاحتلال سنة 1903، واللجوء إلى نفس الأساليب.
وسيظهر فيما بعد كيف كانت البوارج الحربية الفرنسية تقنبل مدينة الدار البيضاء لتزعزع معنوية الجيوش المغربية التي كانت تحارب جيوش الاحتلال الفرنسي في وجدة، وما في ذلك من غرابة.. ففي سنة 1844 عندما ضاق الخناق على جيوش الجنرال بوجو في إيسلي، جاءت باخرة حربية فرنسية بقيادة الأمير جوانفيل، وقنبلت مدينة طنجة في العاشر من شهر غشت سنة 1844، لتزعزع المعنوية القتالية والوحدة الوطنية عند المغاربة.