الحقيقة الضائعة | استعمال القذائف لرسم الحدود المغربية الجزائرية
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 79"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
كانت اتفاقية يوليوز 1901 بشأن تحديد مناطق النفوذ الفرنسي على الأقاليم المغربية الصحراوية الثلاث: كورارة، وتدكلت، وتوات، هي القطرة التي أفاضت الوعاء، ولقد طفح الكيل وهب الرأي العام الوطني منددا – حسب الإمكانيات التي كانت توفر لها الظروف ووسائل التعبير – بما أصبح معروفا بالتنازل عن حقوق المغرب في ثلاثة أقاليم من ترابه.
وحينما وضع علماء المغرب كل ثقلهم في كفة التمرد، بإصدار فتوى تبطل اتفاقية 1901، لم تبق القوات القبلية ملزمة باحترامها بالقرارات الصادرة عن المخزن مصدر النفوذ.
وعندما يسقط رداء الاحترام.. تنطلق الأفكار من عقالها ويصبح التمرد الملاذ الوحيد.
بينما أصبحت المناطق الصحراوية المغتصبة فعلا قميص عثمان، وأصبح الدفاع عن الصحراء، وخوض المعارك من أجلها والتعبير عن السخط من خلال التهاون في شأنها، الشغل الشاغل للرأي العام الوطني كله.. حتى أن الثائر بوحمارة الذي كان عبارة عن جرح عميق في الكيان المغربي نزف منه عدة سنوات، أخذ يجول في مناطق تمرده مدعيا ثورته ضد السلطان عبد العزيز لأنه تنازل عن توات، عندما نعرف – حسبما ورد في الأحداث التي جرت من بعد – أن بوحمارة نفسه كان عميلا لفرنسا وإسبانيا بينما يتهم السلطان بالتواطؤ مع فرنسا، نفهم مدى ما بلغته المناورات الاستعمارية من التردي في سبل الانحطاط.
لقد كانت المخططات الفرنسية تستهدف تغطية احتلال المناطق الصحراوية الشرقية بأحداث جديدة على خط الحدود الجديد الممتد من وجدة إلى فجيج.
وباسم حماية “الحدود الفرنسية”، قامت المدفعية الفرنسية برسم خط الحدود الذي ترغب في فرضه بالقصف المدفعي، وكان هذا القصف يتوقف في زناكة جنوب فجيج.
جنوب فجيج، الذي كان مهد المقاومة المغربية للاحتلال الفرنسي، إذ أن عامل تافيلالت مولاي رشيد، كان قد أخذ من الوقت ما يكفي لتنظيم أفواج اللاجئين.
وقد اهتز الكيان الفرنسي على هذه الحدود، عندما خاضت فيالق من اللاجئين الصحراويين معارك ضد المواقع الفرنسية في حاسي الغزل وفي تاغيت غرب واد الساورة، استمرت أيام 17 و18 و19 و20 غشت 1903.. اتضح للفرنسيين فيما بعد أن قبائل بربرية من غرب تافيلالت التحقت بأفواج الصحراويين وتم اجتماعهم في النخيلة.
وبعد توقف قصير، عادت هذه القوات يوم 2 شتنبر 1903 لخوض معركة كبرى في المنكار على واد الزوزفانة شمال غربي توات.
وذهب الدهاء بالثائر بوحمارة إلى إشاعة أخبار هذه المعارك مدعيا أنها من تنظيمه، حتى يجعل السلطان عبد العزيز يسقط في فخ مناوراته ويبعث جيوشه لمحاربة اللاجئين الصحراويين والبرابرة والفيلاليين.. إنه منتهى المكر.
لكنها مناورة من الدهاء جعلت نقصان المعلومات وبُعد الاتصال، يساعد بوحمارة في مناوراته.. ففي الشمال ونواحي تازة ووجدة، كانت تصله الإمدادات الفرنسية وكان المهندسون الفرنسيون يبنون له عاصمة له سموها المحمدية، في سلوان، مطلة على البحر الأبيض المتوسط، وفي الجنوب بإقليم تافيلالت، كان المجاهدون من أجل استرجاع توات يأملون فيه الخير الكثير، حتى أن العامل مولاي رشيد، زعيم حركة المجاهدين وعامل السلطان عبد العزيز، كتب إلى بوحمارة يطلب دعمه له في سبيل استرجاع المناطق المحتلة من طرف فرنسا.
وهي حالة من الفوضى والتيه كانت في شكلها وجوهرها هي أوج المخطط الاستعماري.. لولا أن دخل العنصر الإصلاحي إلى حلبة الأحداث حينما انبرى السلطان مولاي عبد الحفيظ لتبني سياسة الجهاد ودعم المجاهدين في كل أنحاء المملكة، لاسترجاع كل مناطق المملكة.
لقد بقي عامل تافيلالت مولاي رشيد، وقد بلغ من الكبر عتيا، محافظا على مبدأ الجهاد ممسكا بأطرافه باليدين والأسنان، منتظرا عبر سنوات ثلاث أن تتفتح آفاق الفرج ويظهر مولاي عبد الحفيظ كملك للجهاد ليزيل أثار الضعف من العقول وأدران الانحلال من القلوب.
وفي 16 رجب 1325 الموافق لـ 25 غشت 1907، سارت الركبان بذكر رسالة المولى عبد الحفيظ، التي أصبحت فعلا دستورا للمغرب الجديد.
وتقول هذه الرسالة: ((لقد استجبنا لدعاء المغرب في سبيل التحرر ليبقى المغاربة في وطنهم أحرارا وأسيادا، وأن يبقى كل واحد في حدوده، والله ينصر من يشاء وسيكلل عباده الصالحين بالنصر من عنده ذلك النصر الموعود.
ولقد أسسنا جيشا من الجنود ورجال القبائل سيكون على رأسه أحد المقربين إلى عائلتنا، وسيصل هذا الجيش عندكم، كما سيصلنا دعم مادي وعسكري قريبا، لنطرد الفرنسيين من الدار البيضاء)).
إنه منطق جديد وصلت أصداؤه إلى اللاجئين المنتظرين في تافيلالت، ونزل عليهم كما ينزل المطر على الأراضي العطشانة.
وسارعت وفود التواتيين والكوراريين بالتوجه إلى مراكش لمقابلة مولاي عبد الحفيظ، لتحصل على نصيبها من الأسلحة والدعم، وكان المغرب وقتها ينظر إلى السلطان عبد الحفيظ نظرته إلى المنقذ بعد أن توسعت رقعة الاحتلال وتوسعت وصمة الانحلال، ونفذ ما عند المغرب من بأس ومال.
بينما كان السلطان عبد الحفيظ يرى أن طرد العدو المحتل يجب أن ينطلق من المدن الداخلية، ويجب طرد القوات الفرنسية من الدار البيضاء قبل طردها من توات، ويجب القضاء على جيوش أخيه السلطان عبد العزيز، حتى لا يبقى للفرنسيين نصير في المغرب.
لذلك تنازل عامل تافيلالت مولاي رشيد، عن مهمته في تزعم حركة الجهاد في تافيلالت، واتجه على رأس جيوش جرارة لمحاربة جنود السلطان عبد العزيز، التي كان يقودها القايد البغدادي.. وفعلا، كسر مولاي رشيد جيوش البغدادي وهزمها في معركة 24 نونبر 1907 في الزيايدة، وهي معركة كان مولاي رشيد يخوضها بدافع الانتقام من السلطان عبد العزيز، الذي لم يقم بدوره المفروض عندما كان مولاي رشيد يطلب منه الدعم لتجهيز جيوش اللاجئين الصحراويين الراغبين في طرد الاستعمار الفرنسي من أقاليمهم.
وبعد أن تعقب مولاي رشيد فلول جنود البغدادي حتى أوصلها إلى تمارة، عاد لتافيلالت حيث كانت حركة الجهاد قد أخذت أبعادا جديدة، إذ أصبح الثوار يوجهون ضرباتهم إلى جيوش الاحتلال الفرنسي أينما كانت، وكانت فعلا في كل نواحي تافيلالت.. كانت الجيوش الفرنسية متواجدة في دبدو، وفي واويزغت وحتى في أيت عتاب على أبواب تافيلالت، كما كان التواجد الفرنسي في هذا الإقليم متمركزا في بوذنيب، وبذلك لم يبق البرابر والفيلاليون يدعمون اللاجئين إلى تافيلالت من باب التضامن والكفاح المشترك فقط، بل وأيضا أصبحت حربهم ضد الفرنسيين من باب الدفاع عن النفس.
وبذلك وحدت المعركة صفوف المحاربين، وأصبح حجم المقاومة على مستوى حجم الاحتلال.
علي أومهاوش يقود الجيوش الصحراوية
كان على رأس القائمة الطويلة لزعماء الجهاد، البطل الفيلالي مولاي العربي، والبطل الأطلسي علي أومهاوش، وكان صاحب الرأي والمرجع هو العامل مولاي رشيد، وكانت واجهة المقاومة متقدمة الصفوف في تولال حيث عشرة آلاف من خيرة مقاتلي إيدزدك، وأيت يوسى، وأيت يحيى، وفي العمق الفيلالي، في الرتب وتيزمي ومزكيدة جيوش أخرى مختلفة المشارب والمنابع، وتم اجتماع بين مولاي رشيد ومولاي العربي وعلي أومهاوش، أبت فيه الأقدار إلا أن يسلم مولاي رشيد راية الجهاد لرجل أكثر منه شبابا وحماية، ويعتذر ويبكي عن بلوغ سنه حدا لا يسمح له بالتحرك، ويستأذن الحاضرين في أن يخلفه في قيادة حركة التحرير الزعيم علي أومهاوش.
وظن الخبراء والمستخبرون الفرنسيون أن انسحاب مولاي رشيد سيفت في عضد الصحراويين.. لولا أنهم فوجئوا بجيوش جرارة من ذوي منيع التواتيين وأولاد جرير يسيرون صفا واحدا وراء علي أومهاوش، الذي بدأ عمله في شهر غشت 1908 بتحرك كبير قام به مقاومو قبائل زیز والرتب وتيزمي، والذين وصلوا إلى أوفوس، وهناك يوم 15 غشت، جرت عملية تجميع للقوات استمرت إلى يوم 20 غشت التحقت فيها بالقبائل المحاربة، قبائل اشكيرين وأيت سغروشن وأیت شخمان وأيت عتاب، وكان التجمع العام في مركز تاغزيرت حيث كان حوالي 15 ألف محارب تحركوا في اتجاه بوذنيب، موعدهم الجرف على بعد 15 كيلومتر من التجمع الفرنسي.
كان الفرنسيون يتتبعون تحركات هذه القبائل كلها ويرقبون تحركاتهم، بينما كان القائد العام لمنطقة كولومب بشار، الجنرال أليكس، يرسم الخطوط ويستقدم الإمدادات للمعركة الفاصلة التي كانت تستهدف استرجاع الأقاليم الصحراوية في توات.
وكانت الحركة دائبة على طول الخط الممتد من ميناء وهران إلى كولومب بشار، حيث كانت البواخر الفرنسية تنقل الإمدادات بشكل استعجالي، وكانت القوات التي تجمعت لمحاربة جيوش علي أومهاوش يقودها الكولونيل فيش.
وفي يوم فاتح شتنبر 1908، وجهت القوات المغربية ضربة مفاجئة للمعسكر الفرنسي في بوذنيب، وكان يرأسه اليوتنان فيرى، ويتواجد به 4000 جندي ومجند من سنغاليين وجزائريين وفرنسيين، وضربت حصارا على الموقع الفرنسي جاءت قوات فرنسية يقودها الجنرال أليكس بنفسه، لكن رئيس العمليات العسكرية الفرنسية لم يكن يتصور أنه سيدخل في حرب مع المغاربة على ثلاثة محاور، وكانت معركة سابع شتنبر مصيرية بالنسبة للتواجد الفرنسي، وكان الجنرال أليكس يتوفر على قوات بمستطاعها كسب المعركة مهما كانت قوة المغاربة أو أي جنس آخر.
وقد دفع المغاربة ثمنا باهظا من أرواحهم وبطولاتهم.. مثلما قدم الفرنسيون نفس الثمن من قتلى وجرحى.
وكان استغراب الفرنسيين عظيما حينما وجدوا بين الأسرى رجالا من كل أقاليم المغرب، فلم يكن فقط التواتيون من ذوي منيع، والفيلاليون واليزناسيون واليوسيون، بل وجدوا بين الأسرى رجالا من أيت عتاب وزيان والحوز وسوس.
لقد فرق الفرنسيون المغرب أرضا وترابا، ولكنهم وحدوه رجالا.. وهكذا أذاب الكفاح المرير، الذي خاضه سكان تيدكلت وكورارة وتوات في بوتقة الكفاح الشامل الذي خاضه الشعب المغربي ضد الاحتلال الفرنسي، مدلول الوحدة الوطنية، ولقيت باقي أجزاء التراب الوطني نفس المصير الذي لقيته مناطق الصحراء الشرقية والصحراء الغربية في نفس المرحلة.
ففي سنة 1908، حينما كان الفرنسيون يفرضون احتلالهم على المناطق الداخلية في المغرب، لم يكن الجهاد ولا المقاومة توقفتا في الأطراف التي احتلوها قبل ذلك بسبع سنين.
وكان من الطبيعي أن تلقى تلك الأطراف نفس حظها من الحرية والاستقلال كجزء لا يتجزأ من التراب المغربي كله، ولكنها المناورات الاستعمارية في المناطق الصحراوية كانت وبقيت وستبقى ولن تنتهي بانتهاء المغرب.
لكن هل سينتهي المغرب ؟