الحقيقة الضائعة | الصحراويون الذين حاربوا فرنسا في مراكش
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 78"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
لقد صلى أحمد الهيبة في تيزنيت حيث مات أبوه قبل أن يرفع راية الجهاد، وخرج يوم سادس ماي 1912 على رأس جيوش من شنقيط والساقية الحمراء، وواد الذهب، وواد درعة وواد سوس ودادس وأكادير وتارودانت وتزروالت.
وكانت جيوشه مدعومة بجيوش جرارة من قبائل الحوز بقيادة الزعيم الجلولي، العدو الأكبر للجنرال ليوطي.
وسألت القيادة العسكرية الفرنسية عن عدد جنود أحمد الهيبة، فقدر الضباط الفرنسيون عددها فقط بمائتي ألف.
وكتب في محاضر الجيش الفرنسي التي لا زالت مرجعا إلى اليوم، أن مولاي أحمد الهيبة غادر مدينة تيزنيت في اتجاه كعبة الثورة: السمارة، ليجعل منها منطلقا للثورة وللثأر وطرد الاستعمار، أما القبائل التي تسير في ركابه، فهي حسب الأهمية، قبائل: عريب، الحوز، أولاد يحيى، أولاد دليم، العروسيين، الإيشركيين، الركيبات، العرب، البربر، إيداوبلال، إيداومريبط، أیت باعمران.
وبدأ مولاي أحمد الهيبة تحركه العظيم على رأس جيوشه الجرارة بالهجوم على تارودانت، فقال الفرنسيون: إن أخبارنا كلها غلط.. إن هذا الرجل ليس متجها إلى السمارة وإنما هو متجه إلى الشمال.
والحقيقة أن فيالق كبرى اتجهت إلى السمارة، حيث ابتلعتها المعارك وأقبرت أخبارها في طي الأحداث الرهيبة، وبقيت بعض أثار معاركها سطورا في بعض مذكرات الضباط الفرنسيين والإسبان في الساقية الحمراء وشنقيط.
أما النصف الثاني من جيوش أحمد الهيبة، فقد اتجه فعلا نحو الشمال، وخاضت معارك بطولية كان من الصعب على الفرنسيين محو أثارها، وبقيت لنا شاهدة على أن الصحراويين حاربوا في شمال الصحراء بجانب إخوانهم سكان الأطلس والواحات، وقدموا للتاريخ أروع أمثلة الكفاح حتى بعد إمضاء عقد الحماية، وهذه بعض البيانات:
فعندما هجمت جيوش أحمد الهيبة على تارودانت، حيث قضت بكل عنف على كل الأجانب الموجودين في المدينة، من ألمان وفرنسيين، أصبح من المؤكد لدى الرأي العام الوطني أن هذا الصحراوي البطل هو الذي سيحرر المغرب من نير الاستعمار الفرنسي، لذلك سارعت إلى تأييده والانضمام إليه قبائل كلاوة وحاحة، ومتوكة وراس الواد.
ووصلت جيوش أحمد الهيبة إلى الحوز ودكالة، حيث جرت في الجيوش والرعايا الفرنسيين مجازر كبرى لم ينج منها حتى الأطباء الفرنسيون الذين كانوا يحاربون وباء الطاعون.
بينما أعلنت الرحامنة انضمامها لثورة أحمد الهيبة، الذي وصل إلى الرحامنة في منتصف شهر يوليوز 1912، وكانت ثورة أحمد الهيبة في شهرها الثالث. وقررت القنصليات الأجنبية بما فيها فرنسا، إجلاء رعاياها من تلك المناطق، خصوصا بعد أن دكت قوات الثورة كل الحصون التي بناها الفرنسيون في الرحامنة.
وأرجو أن لا يظن القارئ الكريم أن الأمر يتعلق بوصف روماني لمعارك خيالية، فإن كتاب المؤرخ الفرنسي مارتن يرجع إليه الفضل في الكثير من هذه المعلومات.
وأصبح جنوب المغرب ابتداء من الرحامنة تحت النفوذ المطلق لمولاي أحمد الهيبة، ودرست فرنسا الوضعية باستعجال، استعجال نسبي، إذ أن فرنسا أخذت غرة بهذه الحرب المفاجئة.
وصدرت الأوامر إلى القوات الفرنسية بالتحرك، ليس برا، لأن البر في أيدي أصحابه، ولكن بحرا، حيث جاءت البارجة الحربية “كوساماو” إلى عرض مدينة أكادير، وقنبلت المدينة يوم 19 يوليوز، كما اتجهت جنوبا وقنبلت كل المناطق المتواجدة جنوب أكادير.
وقررت القيادة العسكرية الفرنسية العليا تعيين الكولونيل مانجان حاكما عسكريا وسياسيا على المنطقة.. ووصل إلى الجديدة يوم 29 يوليوز 1912 ولم يستطع أن يذهب بعيدا، فاتخذ مقر قيادته في الجديدة.
بينما اتخذ أحمد الهيبة مقر قيادته في إداوتنان.
1912.. الفرنسيون يهربون من مراكش
وعندما سمع ابن ماء العينين باستعدادات الجيوش الفرنسية، قرر التحرك في اتجاهها، وفي بداية غشت 1912 تحركت جيوشه في اتجاه مراكش.
وقد قسم جيوشه إلى قسمين:
– قسم اتجه عبر الطريق الجبلي عبر متوكة.
– وقسم اتجه عبر الطريق على الشاطئ.
وفي يوم 13 غشت وصلت جيوش الجهاد إلى مشارف مراكش، وكان أحمد الهيبة على رأس ثلاثة آلاف محارب عندما وصل إلى أيت يمور، حيث استقبله الباشا الكلاوي استقبال الفاتحين ونظم له دخولا رسميا وسط شوارع المدينة الحمراء، وأدخله الكلاوي قصر السلطان، وكان السلطان آنذاك في مدينة فاس.
ولم يسترح أحمد الهيبة في مراكش إلا بعد أن أمر بإحضار كل الفرنسيين الموجودين بمراكش بين يديه، فأحضروهم، وكان عددهم ستة.
وكان دخول الجيوش المجاهدة إلى مراكش بعد أن كان الفرنسيون يدعون أنهم حماة المغرب، صفعة تاريخية للاستعمار الفرنسي، وسارع الكولونيل مانجان تدعمه نجدات ضخمة من القوات الفرنسية، إلى الاقتراب من مراكش، فوصل بنفسه إلى مشرع بن عبو على رأس أربعة فيالق، لكن قبائل الرحامنة تصدت له في معركة أرغمته على التراجع، فطلب المزيد من النجدات .
وفي يوم 22 غشت 1912، وصلت طلائع جيوش مولاي أحمد الهيبة يقودها هو بنفسه، إلى سيدي بوعثمان، وقتها قدر الفرنسيون الموقف وقرروا مراجعة مخططهم، وأمروا الكولونيل مانجان بالتراجع إلى مقر قيادته، وصدر إليه هذا الأمر يوم 24 غشت 1912.
وعندما صدرت الأوامر للكولونيل مانجان بالتراجع، كانت الحكومة الفرنسية كلها أمام تحدي الجهاد السافر.. إن هؤلاء الثوار الذين جاؤوا من الساقية الحمراء وشنقيط ووصلوا إلى مراكش بهذه السهولة، لا بد وأن يكونوا بصدد إعادة التاريخ لنفسه، وربما سيصلون إلى الأندلس وجنوب فرنسا.
ولو كانت فرنسا تتوفر آنذاك على القنبلة الذرية لما تأخرت لحظة واحدة عن إطلاقها على مراكش، ولكن العالم في ذلك الوقت كان يتوفر على أسلحة فتاكة أخرى تعادل في خطورتها القنبلة الذرية.
إنها المؤامرات والمناورات والخيانات.. وعندما هجم الكولونيل مانجان على مراكش بوسائل جديدة وبخطة جديدة وبجيوش جديدة وأسلحة جديدة، لم يبق بيد أحمد الهيبة وعشرة آلاف مجاهد كانوا معه، إلا الاستشهاد.
إن المؤرخين الفرنسيين لا يتحدثون عن الثمن الذي دفعه الجيش الفرنسي من أجل القضاء على عشرة آلاف من الثوار الذين يمثلون الوحدة المغربية، ولا يتحدثون عن الثمن الذي دفعه عشرة آلاف من المجاهدين المغاربة لفرض الوحدة الترابية المغربية، ولكن الجنرال ليوطي كتب إلى حكومته يقول: ((لقد كانت عاصفة رملية.. جاءت من الصحراء)).
لكنه سيكون من الأفيد معرفة الوجه الآخر للحقيقة والتفسير الحقيقي لمدلول العاصفة الرملية التي تحدث عنها ليوطي، ولن نجد هذا التفسير إلا عند ليوطي نفسه في رسالة كتبها إلى الكولونيل مانجان أثناء المعارك المصيرية مع مولاي أحمد الهيبة في مراكش.
الرسالة مؤرخة بتاسع شتنبر 1912 وهي غنية عن كل تعليق: ((عزيزي وأعز ما عندي، تجد طيه تعليماتي، لكن تجد معها أغلى ما عندي، عناقي.
فبأية سعادة وبأي فرح تلقينا أمس خبر انتصارك في الساعة السادسة مساء، لقد طار ذلك الخبر إلى باريس إلى الحكومة، وإلى المغرب، وإلى العائلات التي أنقذتها وحررتها من الهلع والخوف، أخبرني ولا تتركني هكذا في ظلام التيه والجهل بما جرى ويجري لأنني أنا الممسك بالمقود وأنا على نار الهلع وأحتاج إلى المعرفة.. إنك الآن نقطة الارتكاز بالنسبة لسياستنا في المغرب، ومنطلق قراراتي، فلا تتركني هكذا في الفراغ)).
وطبعا، إن الصحراء وما يأتي من الصحراء ليس فقط نقطة ارتكاز السياسة في المغرب، وإنما هو أيضا منطلق القرارات، ولو بقي الهيبة في مراكش لما بقيت فرنسا في المغرب.
وهذه الرسالة أيضا نشرت في كتاب “ليوطي المجهول” سنة 1980، أما في حياة ليوطي فلم تنشر إلا الفقرة التي كتب يقول فيها: لقد كانت عاصفة رملية.. جاءت من الصحراء.
الهيبة من الصحراء ومانجان من فرنسا
هكذا واجهت الساقية الحمراء ووادي الذهب وشنقيط مؤامرات تقسيم المغرب وبتر أجزائه.
وإذا كانت فرنسا سنة 1980 تخجل من إثارة هذا الماضي المشين وتعمل على تفادي تحريك جثث ضباطها وجنرالاتها في قبورها، فإنها على أية حال مطالبة بالاعتراف بأن معارك الكولونيل مانجان في أزقة مراكش لم تكن مع خيالات وأشباح، وإنما كانت مع مجاهدين من الركيبات، والعروسيين والشناقطة والخنت وأيت باعمران، جاؤوا ليقدموا أرواحهم قربانا للوحدة الترابية المغربية، وانتقاما لما أقدم عليه الاستعمار من تقسيم المغرب وفصل الرأس عن الجسد.
وتلك كانت صلات المغرب بصحرائه الغربية أوردناها في سياق الكفاح الصحراوي من أجل رفضه للتقسيم، بينما توسعت الحلقات السابقة في كفاح سكان مناطق الصحراء الشرقية ضد ذلك البتر الذي زاولته الجيوش الفرنسية في كورارة وتيدكلت وتوات.
لكن إذا كان ليوطي يعتبر أن رفض سكان شنقيط والصحراء الغربية للاحتلال والتقسيم نوعا من العواصف الرملية.. فهل كان يقصد أن هذه العاصفة الرملية الصحراوية آتية من الجنوب أم من الشرق؟ فمن المعهود أن العواصف الرملية الشرقية أكثر عتوا وأعلى حرارة من العواصف الغربية، وقد سبق أن تطرقنا للعواصف الرملية الأخرى التي كانت تهب على التواجد الفرنسي في المغرب من الصحراء الشرقية، وتلك العواصف التي حملت معها آلاف اللاجئين من توات وكورارة وتيدكلت، وجدوا في تافيلالت ملجئا لهم ومنطلقا لانتقامهم.
وتوقفنا عند المرحلة التي أعقبت ابتلاع الاحتلال الفرنسي للأقاليم المغربية الثلاث، وإعطاء طابع الشرعية لهذا الابتلاع بإمضاء اتفاقية يوليوز .1901. لكن هل ابتلع الفرنسيون صحراءنا الشرقية بعواصفها ؟