المنبر الحر | همجية القرن الواحد والعشرين.. الدم الفلسطيني نموذجا
بقلم: بنعيسى يوسفي
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع الهجوم الذي شنته “حماس” يوم 7 أكتوبر الماضي على إسرائيل، في عملية “طوفان الأقصى” والأسباب والتوقيت بالذات، إلا أنه لابد من القول أن الرد الإسرائيلي فاق كل التوقعات، وتجاوز كل ما يمكن أن يتخيله العقل البشري، حيث أمعنت إسرائيل في التقتيل والتهجير والتشريد، وتفننت في أساليب التنكيل والتعذيب في أبشع صوره، وأظهرت هذه السلوكات الوجه القبيح للغطرسة الصهيونية التي تبدو وكأنها مصابة بالسعار، وكأنه ليست هناك قوة في العالم قادرة على الوقوف في وجهها وإرغامها على إيقاف هذه الحرب التي أجمع الجميع أن التاريخ لم يشهد لها مثيلا، وبات طموحها أكبر ويمكن أن يصل إلى أبعد مدى واستئصال شأفة “حماس” وتدمير الأنفاق، وما إلى ذلك من الممارسات والأفعال التي قد تجعل قطاع غزة أثرا بعد عين، فخمسة أشهر من الحرب الضروس التي أجهزت على ما يربو عن ثلاثين ألف نسمة من سكان قطاع غزة، من أطفال ونساء وشيوخ وبطرق مختلفة، وخرّبت ثلثي البنية التحتية وتدمير البنايات ونسفها بشكل وحشي، لا يمكن أن ينطبق عليها إلا عنوان واحد وهو الهمجية، همجية القرن الواحد والعشرين، فهذه الحرب التي نتتبع فصولها كل يوم، تختلف كثيرا عن سابقاتها، لأنها تدور بين طرفين غير متكافئين: طرف مدعوم من طرف القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، مدجج بشتى أنواع الأسلحة المتطورة، والطائرات المسيَّرة، وطرف لا يدعمه أحد، فباستثناء إيران أو “حزب الله”، فليست هناك أي دولة عربية أو إسلامية إلى حدود الساعة قدمت أو تقدم دعما عسكريا أو لوجستيكيا له، وأركز على الدعم العسكري وليس شيئا آخر، ولكن في ظل الحصار المضروب على غزة من كل الجوانب، يجعل هذه المساعدة والدعم لا يفيان بالغرض المطلوب إلا في حدوده الدنيا، لتجد حماس نفسها في الميدان تقاتل جيشا عرمرما، معتمدة على نفسها وبتنسيق مع باقي الفصائل الأخرى المقاومة، مستغلة في ذلك ما أتيح لها من إمكانيات وقوة، وقودها العزيمة والإصرار وطرد الخوف من النفوس، وإيمانها العادل بقضيتها، وهي طرد الاحتلال الصهيوني وتحقيق الاستقلال، وثانيا دفاعها عن الأقصى، الذي يمثل كبرياء الأمة العربية والإسلامية، هذه الأمة التي تعيش بالتزامن مع هذه الإبادة التي يقوم بها الجيش الصهيوني والتجويع الممنهج إزاء شعب أعزل، وضعا لا تحسد عليه، فباستثناء بعض التنديدات والإدانات.. فالصمت العربي والإسلامي الرهيب وعدم التحرك للضغط عليها لإيقاف ماكينتها الحربية، باستعمال وسائل الضغط التي قد يكونوا يمتلكونها، واستثمار علاقاتهم مع بعض القوى الكبرى كالولايات المتحدة الراعي الرسمي للدولة العبرية، لإيجاد مخرج لهذه الحرب والتوصل إلى هدن مؤقتة وتقديم المساعدات.. ألا لهذا الحد لا تملك أي دولة عربية أو إسلامية ورقة يمكن استعمالها في وجه الجبروت الإسرائيلي؟ فإذا كان من الصعب إقناع إسرائيل بإيقاف الحرب، فعلى الأقل فتح أبواب المساعدات لإطعام الأبرياء العزل والإبقاء على المستشفيات مفتوحة لتقديم الإسعافات للجرحى وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولأنها لم تستطع لحدود الساعة القيام بأي شيء من هذا القبيل، فهذا يفسر بشكل كبير مدى العجز والترهل الذي تعانيه الأمة على جميع المستويات، وكذلك الحالة من التخشّب والوهن اللذين استحكما مفاصيلها، اللهم إلا إذا كانت لبعض هذه الدول العربية أهداف خفية من هذه الحرب، حيث هناك من يمني النفس بالقضاء على “حماس” على اعتبار أنها صوت مزعج ولا يقبل التطويع والاستسلام بسهولة، وتمثل نموذج الإسلام السياسي الذي أصبح غير مرغوب فيه ولم يعد يحظى بذلك الزخم والتأييد التي كان يتمتع به إلى عهد قريب، هذا فضلا عن تحالفها مع قوى معادية لبعض الدول العربية، من الناحية السياسية.
قد نقبل هذه التبريرات، لكن من الناحية الإنسانية، فالأمر غير مقبول نهائيا، فالأولوية للإنساني في هذه الحالات على السياسي، مئات الأطفال يقضون كل أيام مرضى وجوعى في مآسي حقيقية تحتاج لتدخل عاجل وترك الحسابات السياسية جانبا، الدولة العربية الوحيدة التي تتحرّك ولو في مربع ضيق في محاولات متتالية لإيجاد صيغة معينة لإيقاف دوامة الحرب ولعبت ولازالت أدوار وساطة مكوكية لتحقيق هذا المبتغى هي دولة قطر، باعتبارها تربطها علاقات مع قيادات “حماس”، ومنها من يتخذها مقرا للإقامة، لكن تدخلات قطر لوحدها لم تستطع إقناع قادة إسرائيل بإيقاف الحرب.
لقد عرت هذه الحرب على العديد من الحقائق، ومنها أن “حماس” ربما تكون تسرعت نوعا ما في ذلك الهجوم، وصحيح أن الفلسطينيين يتعرضون كل يوم للموت، والإهانات، لكن حجمها لا يقارن بما وصلت إليه الأمور حاليا، فـ”حماس” تدرك تماما أن إسرائيل لن تكون رحيمة معها، خصوصا بقيادة رئيس الوزراء المتطرف، نتنياهو، ومع ذلك ركبت المغامرة، اللهم إلا إذا كانت لها حسابات أخرى لا تعلمها إلا هي، وثانيا أظهرت هذه الحرب أن الدم الفلسطيني رخيص، ولا أحد في العالم قام بما يمليه الضمير الإنساني لإيقاف المجازر، وثالثا وهذا الأهم، كل الدول العربية تقريبا وقفت عاجزة عن اتخاذ مواقف حازمة تجاه إسرائيل، وبالتالي، كرست تلك الصورة التي اعتدنا عليها منذ زمن بعيد، الرهان عليها في مثل هذه الأحداث وهو كمن يراهن على حصان خاسر، ليبقى السؤال العريض الذي يطرح نفسه: متى تتوقف هذه الحرب؟ كيف ستكون عواقبها على “حماس” كتنظيم سياسي وعلى شعب غزة؟ كيف يمكن تصور الخريطة السياسية الفلسطينية بعدما تضع الحرب أوزارها؟ وما هي تداعياتها على المستوى العربي والإسلامي عامة والإقليمي خاصة؟ وأخيرا، كيف ستكون التأثيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية على شعب غزة وكيف يمكن لهم العودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية ؟