متابعات | من المسؤول عن إغراق حقل الإعلام والتواصل الاجتماعي في “التفاهة” ؟
أصبحت “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي مصدرا لبعض الناس لتحقيق الشهرة المزيفة، وجني الأموال من مداخيل المشاهدات عبر بث الترويج لمحتوى تافه أو نشر الشائعات والأخبار المزيفة حول السياسيين أو المشاهير، بغية جني الأموال وتحقيق الربح، مما جعل بعض الجهات تطالب بوضع حد لانتشار “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تدمر قيم ومبادئ المجتمع.
إعداد: خالد الغازي
تحولت “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام، إلى مصدر لتحقيق “البوز”، وهي آلية لتحقيق أعلى نسبة من المشاهدات للمحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي، كما ساهم انتشار مشاكل العائلات والفنانات والمشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي في تسويق “التفاهة”، بغية تحقيق مدخول مادي مهم، سواء من عائدات المشاهدات على منصة “اليوتيوب”، أو من عائدات الإشهار، إذ أصبحت “التفاهة” ونشر الحياة الخاصة معيارا للنجاح عند البعض، وتلقى متابعة كبيرة، حيث أصبح تصوير “التفاهة” والترويج لأسماء مغمورة وتافهة في المجتمع، طريقا للوصول إلى “البوز” وجعل الناس يتحدثون عن الموضوع ويتفاعلون معه عبر التعليقات والمشاركة في ترويجه بين الأصدقاء والأقارب، مما يزيد من انتشار مواضيع ومحتويات تافهة في مواقع التواصل الاجتماعي وبين الناس.
فالإشكال الذي يعيشه المجتمع في زمن “التفاهة” هو أن المحتوى الذي يحقق الانتشار يحتوي على أخبار مزيفة، وغير صحيحة، ووقائع مفبركة، أو معلومات لا أساس لها من الصحة، وبالتالي، يتم التفاعل معها ويكون لها تأثير وبعد كبير على الجانب الأخلاقي والاجتماعي، ويرى باحثون أن الهدف من تعميم ونشر “التفاهة” في المجتمع هو شغل الرأي العام عن القضايا الأساسية وإلغاء آلية التفكير لديهم أو إبعادهم عن متابعة قضايا معينة سيكون لها تأثير على الرأي العام أو على سياسة الحكومة.
وسبق أن أصدر الفيلسوف الكندي ألان دونو، كتابا تحت عنوان: “نظام التفاهة”، جاء فيه: “التفاهة بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم، فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام”، ويضيف: “كما في السياسة والفن، عمت التفاهة وتجذرت كالسرطان أصبح من الصعب استئصاله.. وهكذا يصبح الشخص مبرمجا على نظام التفاهة التي صنعتها الدول عن طريق الإعلام والفن وغيره من الوسائل التي تمت صناعتها لهذا الشأن”.
وحسب الكاتب الكندي، فإن “التفاهة أصبحت هي المسيطرة على العقل البشري، بل أكثر من هذا، أصبحت الشيء الطبيعي والعادي في حياتنا، فالتفاهة نظام واعي برهاناته وأهدافه، ومن أهم مظاهره توطيد العلاقة بين السياسة والمال، تهميش منظومة القيم، تسليع الحياة العامة، ووهم الكاريزما.. والتفاهة تمتد من السياسة إلى الاقتصاد إلى التعليم.. الفن ثم الأدب.. حيث تغلغل التافهون في جميع مفاصل الدولة الحديثة، والتي يسهر على امتدادها المضطرب ويحميها زمرة من التافهين الذين يعملون في إطار لوبيات مصالحية لهم القدرة والقوة لدعم بعضهم البعض”.
في هذا السياق، يرى علي الشعباني، أستاذ علم الاجتماع، أن “التفاهة” أصبحت ظاهرة خطيرة جدا، وأصبحت بضاعة رائجة عبر وسائل الإعلام في الوقت الراهن، ولا بد من الانتباه إلى خطورتها، وإلى تأثيرها وأثارها لا على الأطفال والشباب فقط، بل على المجتمع ككل، فلابد من الانتباه إلى أثارها للحيولة دون المزيد من انتشارها وتحفيز المشرعين والمربين على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة التي تسيء إلى الإنسان والمجتمع، وإلى كل ما يمت إلى الأخلاق وقيم المجتمع الذي علينا أن نحميه من هذه التفاهة، مشيرا إلى أنه حتى بعض وسائل الإعلام أيضا تساهم في الترويج وتنشر الكثير من التفاهات، فيما يتعلق بمجال الفن أو الأحاديث المثيرة للجدل، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل “تيك توك” وغيرها التي أصبحت ميوعتها ضاربة في الآفاق.
وقال نفس المتحدث: عندما كان الإنسان يقرأ.. كانت وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة لا يتعامل معها إلا الانسان الذي يقرأ، والآن هذه المواقع الاجتماعية كلها عبر “اليوتيوب” و”الواتساب” و”التيك توك” و”تويتر”، أصبحت تخاطب السمع، وفي متناول الجميع.. الذي يقرأ والذي لا يقرأ، سواء كان له مستوى من الوعي، أو عند الذي لا يتوفر على أي مستوى من التكوين، لذلك هناك الكثير من الناس الذين استغلوا هذه الوسيلة وسهولة استعمالها وارتفاع انتشارها، ووصولها إلى العديد من الناس، وحتى بالنسبة لمن استطاعوا أن يستغلوا هذه المواقع للحصول على الأرباح عن طريق هذه الميوعة وعن طريقة التفاهة، ينشرونها عبر هذه المواقع.
وأضاف الشعباني، أن “التفاهة” لم تبق حكرا على العامة، بل أصبح بعض السياسيين والأحزاب السياسية، يستغلون مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى الفاعلين يتعاطون مع هذه المواقع ويستغلون قوة انتشارها، حيث قام البعض باستغلال هذه المواقع وسخروها لخدمة أجنداتهم السياسية وإيديولوجياتهم والدفاع عن “المبادئ” التي يريدون، والترويج للخطاب السياسي قصد الوصول إلى البرلمان والمناصب، معتبرا أن هذه المواقع ساهمت في إيصال وتسويق الكثير من الرداءة التي ظهرت في العمل السياسي والبرلماني والمدرسة، وفي كل الأماكن، ولم تقف عند بعض الفنانين والأشخاص الذين يسمون أنفسهم مؤثرين، أو مشاهير، ولكن وصلت إلى من يدبرون الشأن العام داخل المجتمع.
وأوضح أن المسؤولية لمعالجة إشكالية التفاهة وأثارها السلبية على المجتمع والرأي العام، تقع على “الهاكا” ووزارة الثقافة والتواصل، والبرلمان، والمشرع، الذي عليه أن يضع قوانين وتشريعات يمكن أن تساعد في التخفيف من هذه الآفة، ولا بد له أن يتدخل في مثل هذه الأمور لكي يوقف هذا النزيف وهذا الانتشار الخطير جدا لهذه المواقع والمحتويات التافهة التي تخرب الأخلاق وتدمر القيم والعلاقات الاجتماعية، وتسيء إلى المجتمع وتعطي صورة مشوهة وتافهة على المجتمع الذي نعيش فيه، قصد تقليص مستوى انتشارها في مثل هذه المواقع، مشيرا أيضا الى أهمية الجانب الإعلامي والمواطن الذي عليه ان يكون على وعي بأضرار التفاهة السلبية وما لها من تأثيرات كبيرة جدا على الأطفال والمجتمع.
واعتبر الشعباني، أن الآباء والأمهات يساهمون في تقريب “التفاهة” والمحتوى السيء لأبنائهم، من خلال اقتناء هواتف نقالة لهم كهدية، ولا يعلمون أنهم يقدمون قنبلة موقوتة ستنفجر في وجههم في وقت من الأوقات، وبالتالي، أصبح الآباء متجاوزون ولا دور لهم إطلاقا، مما جعل العديد من الأسر تشكو من انعكاسات هذه الآفة على سلوك أبنائهم بسبب انتشار التفاهة والظواهر الخطيرة في مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد كشف الحضور الكبير لوسائل الإعلام لتغطية ندوة فنانة للرد على أخرى وتبادل الاتهامات والتراشق الكلامي في قضايا لا فائدة منها، مدى مساهمة الإعلام في التسويق للقضايا التافهة والترويج لها لدى الرأي العام، بالمقابل، يغيب عن تغطية لقاءات فكرية وعلمية مثل ندوة العالم المغربي رشيد الأزمي، مخترع البطارية الذكية، الذي يريد خدمة المجتمع والمغاربة باختراعه، مما يبرز التراجع الكبير الذي وصلت إليه بعض وسائل الإعلام الوطني في مواكبة التفاهة وتحويلها إلى أخبار مهمة للرأي العام، حيث أصبحت القضايا الخاصة ومشاكل الناس الخاصة، تحظى باهتمام وتغطية للبحث عن المشاهدات، بينما الندوات الفكرية والثقافية والقضايا الوطنية، تظل بعيدة عن التغطية.
وقد أصبح الهدف لدى ناشري “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي، نشر المحتوى كيفما كان مضمونه وتأثيره على الناس، حتى لو كان الموضوع ليست له فائدة أو إضافة، إلا أن البعض يجعل منه موضوعا أساسيا بهدف إثارة انتباه الناس، سواء حول متابعة فنانة في القضاء، أو الترويج لفضيحة أو لخلاف بين فنانين أو مؤثرين، وجعله الموضوع الأول في مواقع التواصل الاجتماعي والساحة الإعلامية، والهدف هو تحقيق الربح المادي من المشاهدات، كما برزت نماذج تقوم بتسويق “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي مثل ظاهرة “إكشوان” و”نيبا” و”رضا ولد الشينوية” و”القايدة غيثة”، و”ساري كول” و”طالوني” و”نزار وندى حاسي” وغيرهم، وهناك من يقوم بنشر مواد تافهة مثل الكوميديا أو مقالب عائلية أو “روتيني اليومي”، أو عرض حياته الخاصة للناس، بهدف تحقيق المشاهدات والشهرة.
في هذا الإطار، تقول عزيزة حلاق، إعلامية، أنه سبق أن أطلقت رفقة مثقفين وإعلاميين ونشطاء، عريضة إلكترونية في أكتوبر 2022، تحت شعار: “توقفوا عن تحويل التافهين إلى قدوة ونجوم”، وأضافت أن “انتشار التفاهة كان سببا في التأثير بشكل سلبي على الناشئة والمراهقين، في ظل سيادة ما بات يعرف بالميديا الشعبية، التي أصبح رأسمالها انتشار التفاهة بحثا عن الربح السهل عبر اللايكات وعدد المشاهدات، وبحثا عن الشهرة الاجتماعية أو البوز، وكانت مسؤولية بعض القنوات أو ما يسمى بالإعلام الحر، واضحة في هذه الديناميكية، بتشجيعها لهذه الظاهرة ضدا على أخلاقيات مهنة الصحافة وقواعدها، وضدا على قيم المجتمع، بحيث أضحت واقعا اكتسح المشهد بما تقدمه من محتوى تافه ووقح وخطير، والمصيبة أنه وجد متابعين له ومعجبين بالآلاف إن لم نقل بالملايين، وتحطمت كل الحدود الأخلاقية والقيمية، وبات الربح المادي من هذه الشوهة هو الهدف الأوحد والوحيد”.
وأكدت نفس المتحدثة، أنه للحد من انتشار “التفاهة” وتأثيرها، اقترحت المبادرة، بعد تنظيم ندوة فكرية بعنوان “محتويات وسائط التواصل بين حرية التعبير والتفاهة”، توصيات أبرزها دعوة وسائل الإعلام العمومية بالخصوص، إلى فتح أفق جديد في التعامل مع ظاهرة “التفاهة”، وفق ما هو متعارف عليه عالميا، ووفق مقاربة تربوية وإعلامية، والاجتهاد في إنتاج محتويات ومضامين مضادة، خاصة بالإعلام العمومي السمعي البصري، المطالب بالارتقاء بمنتوجه، لتجنيب المجتمع المغربي من الانزلاق في تتبع وإدمان المضامين التافهة، من خلال تعميم التربية على وسائل الإعلام في المناهج التربوية والتعليمية، ومن أجل إنتاج جيل يكتسب مناعة ثقافية تمكنه من تبيان الفرق بين المضامين التافهة والجادة.
وأوضحت، أن معالجة هذا النوع من السلوكيات والممارسات السلبية بالعالم الرقمي، الذي يساهم في تحويل اهتمامات الرأي العام عن الانشغال بهمومه اليومية، ليس رهينا بالزجر الأمني والجنائي، وبتشديد القوانين والوعظ والإرشاد، بل يتطلب الأمر مقاربات متعددة الأبعاد، منها إعادة الاعتبار للدور التربوي والسيكولوجي والاجتماعي والتواصلي، وتوسيع هوامش الحرية وترسيخ قيم المواطنة، ومصالحة الجمهور مع وسائل إعلامه.
من جهة، قال الحقوقي محمد الزهاري: مواضيع “التفاهة” يمكن أن تشغل عددا من المواطنين ونسبة منهم تبقى مركزة على القضية الأصل، ولكن عددا كبيرا من الناس لا يهتمون بقضية باطمة أو غيرها، ولم تمنعهم من متابعة أزمة التعليم أو متابعة قضية غزة وما يجري فيها من جرائم إبادة، ولكن الرداءة والتفاهة لديها حتى هي أنصارها ومتابعين لها، لأن هناك تطورا في العالم في وجود الشبكة العنكبوتية، لهذا ومن وجهة نظري، أرى أنه لا يمكن أن نضع هذا الشيء أو ما يحدث في قالب، أو إيجاد حلول له في قالب المقتضيات الزجرية القانونية، هذا الأمر يسيء إلى الوطن أكثر ما يخدمه، لأن الكل يتابع ما يحصل، سواء قضية فنانة أو غيرها، ولكن القضايا الأساسية لازالت قائمة وتحظى بالمتابعة، مثل قضية المؤسسة العمومية التعليمية، التي لازالت تعاني في ظل فشل الحكومة والوزارة.
وأكد الزهاري أن “التفاهة” تؤثر على الأطفال والتربية ولا يمكن للآباء والأمهات منع أبنائهم من استعمال الهاتف النقال، والولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي مهما كانت القيود والتربية، وما دام الأطفال يتوفرون على هواتف فإمكانية الولوج إلى منصات مواقع التواصل الاجتماعي تظل قائمة وتشكل عليهم خطرا، لهذا لا بد من سياسة عمومية ودراسة هذه الإشكالية من قبل خبراء في علم الاجتماع وعلوم التربية وعلم النفس، وإيجاد توجه عمومي وسياسة عمومية ضابطة لهذا الأمر، رافضا معالجة الظاهرة بالقيود أو مقتضيات قانونية تستهدف أصحاب الآراء وتمس حرية التعبير، وقد تكون نتائجها معكوسة ولن تخدم القضية في الجوهر.
وتابع أنه من الصعب فرض مقتضيات قانونية لتطويق “التفاهة” في مواقع التواصل الاجتماعي، لأن هذا الأمر سيعيد النقاش إلى فترة ما بعد “كورونا”، خاصة عندما جاء وزير العدل بن عبد القادر، بمشروع قانون 22.20، والذي وضع عددا كبيرا من القيود وسن مقتضيات قد تضع العديد من الناس وراء القضبان، مشيرا إلى أنه لا يمكن سن بعض القواعد الزجرية التي قد توظف ضد تكبيل وفرملة حرية الرأي والتعبير.