ملف الأسبوع | عندما رفض الحسن الثاني معاقبة أوفقير في قضية المهدي بنبركة
الإملاءات الفرنسية في القضية الغامضة
أعد الملف: سعد الحمري
نقف اليوم، على بعد أيام من حلول الذكرى الثامنة والخمسين لاغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة، وقد طال الحديث حول موضوع اغتياله في أكتوبر 1965، وهي القضية التي شغلت الرأي العام في مرحلة من المراحل وما زالت إلى الآن، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وقد كان السؤال المطروح والذي لا زال يبحث عن جواب، هو من قتل المهدي بنبركة؟ وكيف قتل؟ غير أن هناك مواضيع أخرى أهملت تماما لا تقل أهمية عن هذا السؤال المركزي المطروح، من قبيل: لماذا لم يقدم الملك الحسن الثاني على إقالة الجنرال محمد أوفقير؟ وكيف نظر الفرنسيون إلى العلاقة بين أوفقير والحسن الثاني في تلك الفترة؟ وكيف توقعوا إمكانية اشتغال أوفقير لوحده دون علم الحسن الثاني؟ وما موقف الحسن الثاني من الأزمة الفرنسية المغربية؟ وهل كان الرئيس الفرنسي يتوصل بكل المعلومات حول قضية المهدي بنبركة، أم كانت هناك جهات أخرى تتدخل لتوصل له معلومات مغلوطة ؟
كل هذه الأسئلة ما كان لنا أن نجد لها أجوبة محددة لولا توفر بعض الوثائق الرسمية التي ظلت سرية إلى عهد قريب، وما يزيد الموضوع أهمية هو مصدر الوثيقة التي نقترحها على قرائنا، لأنها من الأرشيف الفرنسي، بمعنى من الدولة المعنية مباشرة بالأزمة، وهي التي قتل على أرضها المهدي بنبركة، وهي آخر عمل قام به السفير الفرنسي بالمغرب قبل أن يحزم حقائبه وينفذ أمر وزارة خارجيته ويعود إلى فرنسا، وذلك بعدما قررت هذه الأخيرة سحب سفيرها من المغرب في أعقاب قضية المهدي بنبركة.
توتر العلاقات بين المغرب وفرنسا قبل اغتيال المهدي بنبركة
لم تتوتر العلاقات بين المغرب وفرنسا بعد اغتيال المهدي بنبركة على أرض هذه الأخيرة.. فقد كان المغرب قبل اغتيال الزعيم الاتحادي قد بدأ يتخذ خطوات مناوئة لفرنسا، لعل أبرزها توجهه نحو إقامة علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، المنافس الأكبر لفرنسا في شمال إفريقيا، ومن الأدلة التي تثبت ما نقول، ما كشف عنه الأرشيف السري لوزارة الخارجية الأمريكية، الذي أفرج عنه مؤخرا.. فمن خلال مذكرة رفعها مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية، إلى وزير خارجيته، وهي مؤرخة بـ 15 يناير 1965، تؤكد أن وزير الخارجية المغربي أحمد الطيب بنهيمة، طلب من أمريكا أن تقدم للمغرب مساعدات عسكرية، لمواجهة أي هجوم محتمل من طرف الجزائر، وذلك بعدما بدى واضحا تفوق الجزائر على المغرب من ناحية القدرات العسكرية، نظرا لاستفادة الجمهورية الجزائرية من الدعم السوفياتي، ومعنى هذا حدوث تحول في توجه المملكة المغربية من الاعتماد على فرنسا كمورد رئيسي للأسلحة إلى أمريكا.
الوثيقة المقترحة
وهكذا دخلت العلاقات بين البلدين في مرحلة الشك.. إلى أن جاء حدث اغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بنبركة فوق الأراضي الفرنسية، ليعلن عن بداية أول أزمة بين البلدين منذ استقلال المغرب عن فرنسا في سنة 1956، وقد كشفت بعض الوثائق التي أفرج عنها مؤخرا، بعض تفاصيل ما وقع ودار بين سلطات القرار خلال بداية الأزمة، ومن ضمنها وثيقة هي عبارة عن تقرير حول لقاء سري جمع السفير الفرنسي بالمغرب والملك الحسن الثاني، يوم الإثنين 24 يناير 1966، وقد تم ذلك بمنزل أحمد الطيب بنهيمة وزير الخارجية والتعاون المغربي (20 غشت 1964 إلى 23 فبراير 1966)، أما الذين حضروا الاجتماع، فقد تعلق الأمر بكل من رئيس الديوان الملكي إدريس المحمدي، بينما حضر الملك الحسن لوحده إلى المنزل وبصفة سرية، على الساعة السابعة مساء، ودون مرافقين، ودام اللقاء ساعة كاملة من المباحثات.
ويشير السفير الفرنسي من خلال هذا التقرير، إلى أن اللقاء تناول عدة مواضيع رئيسية ومختلفة، وطرح كذلك أفكارا معقدة نظرا لطبيعة المرحلة، وطبيعة الأوضاع التي كانت تمر منها العلاقات المغربية الفرنسية في تلك الفترة، وقد سجل النقط التالية حول أهم ما تطرق إليه اللقاء، وهي:
1) أسباب عدم إقالة الحسن الثاني لأوفقير
أول نقطة تطرقت لها الوثيقة، وهي مشكلة محمد أوفقير وزير الداخلية، الذي طالبت فرنسا بعد اغتيال المهدي بنبركة، بإقالته من منصبه.. فقد ذكر السفير – في هذا التقرير – أن للملك الحسن الثاني رأي واضح بخصوص هذا الطلب، فبالنسبة إليه، إنه من غير المعقول إقالة الرجل، ولو كان ذلك على حساب رفض طلب رئيس دولة تربطها بالمغرب علاقات وطيدة، وهي فرنسا، واعتبر الحسن الثاني أن من أبرز أسباب رفض هذا الطلب، هو أن إقالة أوفقير بناء على طلب من الرئيس الفرنسي دوغول، يعتبر في حد ذاته تدخلا سافرا في شؤون المغرب الداخلية، ورأى الملك أنه كانت هناك بخصوص هذه المسألة اعتبارات وطنية وكرامة إنسانية، كان على باريس أن تأخذها بعين الاعتبار، كما لم يخطر بباله كون دوغول، أو أي رئيس دولة آخر، قد يتفهم هذه الأمور، التي تعتبر مسألة داخلية وخاصة بالمغرب، وأن من شأن الإقدام على أي خطوة أو مبادرة يقترحها أي رئيس دولة أخرى، من شأنه أن يسقط هيبة الحكومة في أعين الرأي العام المغربي، وباقي المكونات الأخرى.
2) شك في عدم وصول كافة المعلومات إلى الرئيس الفرنسي الجنرال دوغول
ومما أشارت إليه الوثيقة، أن الملك الحسن الثاني أكد بشدة خلال اللقاء، أنه لا يعتقد أن المعلومات التي تصل إلى دوغول حول الموضوع، وتطور الأحداث ليست كاملة، ومن الممكن أن تكون هناك بعض الجهات تتعمد فعل ذلك، ويطرح السفير السؤال التالي: “كيف لا يعتقد الملك الحسن الثاني أن الرئيس الفرنسي دوغول لم يتم إخباره بكل التفاصيل حول هذه القضية؟”.
وتجدر الإشارة، إلى أنه منذ أحداث 23 مارس 1965 بالدار البيضاء، شنت صحافة اليسار الفرنسية حملة مسعورة ضد النظام المغربي، ولم تكد هذه الحملة تتوقف حتى جاء حادث مهم آخر وهو اغتيال المهدي بنبركة، الأمر الذي جعل الصحافة بكاملها، بما فيها اليمين واليسار، تتوحد ضد المغرب، بل وحتى الإعلام الرسمي، ويشير هذا التقرير إلى أن الملك الحسن الثاني أبدى شديد التأسف من جراء هذه الحملة، خاصة وأن الإعلام الرسمي صار يقوم بحملات عدائية ضد المغرب حتى إذا تعلق الأمر بتقديم برنامج إعلامي عن المغرب، فإنه دائما ما تتخلله لقطات حول مظاهرات 23 مارس 1965 بالدار البيضاء، كما أنها تقدم معطيات ومعلومات إيجابية ومنحازة للزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد والمعارضة بصفة عامة، حيث أن كل هذه الخطوات – حسب التقرير – في حد ذاتها موجهة ضد الملك بصريح العبارة.
3) عدم وجود أدلة حول تورط أوفقير في اغتيال المهدي بنبركة
يشير التقرير إلى أن الملك طلبت منه فرنسا أن يقيل أوفقير من منصبه، ولكن الحسن الثاني تساءل خلال هذا اللقاء عن الفائدة من ذلك في هذه الظرفية، خاصة إذا كانت التحقيقات ستستمر، كما أشار إلى أن هذا القرار في حد ذاته لن يحل المشكلة أبدا، ويقول السفير أنه أخبر الحسن الثاني خلال نفس اللقاء، بأن قضية بنبركة لها وجهان: وجه سياسي ووجه قضائي، كما أنه ومن جهة أخرى، طلب منه أن يقيل الجنرال أوفقير من منصبه دون أن تقدم للملك حجج تثبت الإدانة، خاصة وأن اتهام أوفقير جاء بناء على ادعاءات مغرضة من طرف أحد القتلة، وهو جورج بوشيسييش George Boucheseiche، ويتساءل السفير الفرنسي بدوره حول هذه النقطة، هل يعقل أن يكتفي القضاء الفرنسي بتصريحات هذا السفاح لاتخاذ قرار خطير من هذا الحجم والقاضي بإقالة الجنرال أوفقير من منصبه؟
4) أسباب رفض الملك الحسن الثاني تطبيق البند 28 من الاتفاقية القضائية المغربية-الفرنسية
لماذا تم رفض تطبيق المسطرة المنصوص عليها في البند 28 من الاتفاقية القضائية المبرمة بين المغرب وفرنسا بتاريخ 5 أكتوبر 1957؟
يقول صاحب التقرير في هذا الشأن، أن المغرب لم يستجب للجنة القضائية المتعلقة بقضية وزير الداخلية محمد أوفقير، لأن الأمر يتعلق بإجراء يدخل في إطار السيادة الفرنسية، حيث أن النص القانوني كان من تحرير قاضي فرنسي، وهو الذي حدد الأسئلة التي كان على أوفقير أن يجيب عنها، لكن في إطار الفصل 28 من الاتفاقية الفرنسية-المغربية بخصوص التعاون القضائي، فإن المسطرة تختلف تماما، ذلك أن طلب المتابعة القضائية لم يكن إلا أن تقبله السلطات القضائية المغربية، غير أنها هي التي درست الملف على أساس ما تتوصل به من وثائق في هذا الشأن، وبناء على هذه المعطيات، يشير صاحب التقرير إلى أن المغرب في هذه الحالة هو من يتحمل المسؤولية أمام الرأي العام الوطني والدولي بخصوص القرار الذي سيتخذ بشأن أوفقير.
ويشير التقرير إلى أن فرنسا – من جهتها – ستقوم بكل الإجراءات القانونية طبقا لما تخوله لها الاتفاقيات الجاري بها العمل في هذا الشأن، حيث جاء في التقرير أن أمر التشكيك يكمن في غياب نتائج إيجابية من جراء اللجوء إلى هذه المسطرة، ويشير السفير الفرنسي إلى أن الملك الحسن الثاني ألح إلحاحا قويا على هذا الجانب من القضية، ملتمسا من السفير الفرنسي توضيح مدى أخذ باريس بعين الاعتبار التقرير الذي قدمه له أحمد بنهيمة بخصوص القضية.
كما ذكر التقرير، أنه بمجرد أن نطق أحد المشاركين في اغتيال المهدي بنبركة باسم أوفقير كأحد المشاركين معه في العملية، حتى صار مطلب القضاء الفرنسي هو مثول أوفقير أمامه ومحاكمته، ويشير التقرير إلى أن أوفقير ألح في كثير من الأحيان على الملك بأن يذهب إلى باريس، وذلك بهدف التعبير عن براءته، وكذلك الإجابة عن الاتهامات الموجهة إليه، غير أن الملك رفض هذه المقترحات قطعا.
5) تأكيد الحسن الثاني على الحفاظ على العلاقات المتميزة مع فرنسا
كتب السفير الفرنسي ضمن تقريره، أن الملك الحسن الثاني حرص خلال هذا الاجتماع على تكذيب ما تداولته بعض الأخبار، حول نيته التخلي عن فرنسا وربط علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما عبر الملك عن حزنه وطلب من السفير أن يخبر الرئيس الفرنسي بذلك، حيث حرص على التأكيد وبقوة على سعيه في الحفاظ على علاقته بهذا الأخير بالرغم من المشاكل التي طغت على العلاقات بين البلدين، وذلك رغم الأزمة الخطيرة والعميقة التي تمس علاقاته الشخصية مع الجنرال دوغول.
6) رأي السفير الفرنسي في بعض القضايا المتعلقة بالمغرب
أشار السفير الفرنسي في نفس الوثيقة، إلى ملاحظة يقول من خلالها بأنه امتنع في الجزء الأول من التقرير، عن ذكر وجهة نظره التي قدمها للملك وملاحظاته الخاصة خلال هذا اللقاء، وذلك حتى لا يثقل التقرير بآرائه، ويرى أنه من الضروري إبداء ملاحظات حول هذه القضايا في وقت وصلت فيه مهامه بالرباط إلى النهاية، وكانت ملاحظاته كالتالي:
– يرى السفير أن الحسن الثاني متأثر صراحة بفعل تلك الأزمة، حيث أخبره أحمد بنهيمة وزير الخارجية، أن الملك تأثر كثيرا من جراء استدعاء باريس لسفيرها بالرباط، وأكد له أن الملك ظل يتحدث عن الأمر طيلة شهر رمضان، كما عكف على الاطلاع ومراجعة الصحف الفرنسية والبيانات الرسمية الصادرة من باريس، كما يشير السفير إلى أن الحسن الثاني استفسره حول السياسة الفرنسية تجاه دول العالم الثالث، وموقع المغرب فيها، حيث أشار له بأن “المغرب كملكية محافظة، لم تعد له مكانة بين الدول التي تدعمها فرنسا”.
– أما بخصوص الجانب المتعلق بتطبيق المسطرة القانونية المتعلقة بالمادة 28 من الاتفاقية القضائية الفرنسية-المغربية، فإن السفير يشير إلى أنه أخبر بنهيمة بأن المسطرة ليست معقدة.. فمن جهة، هناك قضية “المحافظة على أوفقير في الحكومة”، ومن جهة أخرى، “مثول أوفقير أمام القضاء، وهل تصدر إدانته؟”، أما بخصوص المزايدات السياسية، فلا توجد لها مكانة في هذه القضية، حيث أكد السفير أن المساعدات الفرنسية لن تنقطع عن المملكة المغربية أبدا.
7) هل كان أوفقير يطلع الحسن الثاني على كل ما كان يقوم به ؟
يتساءل السفير بحيرة حول هذه القضية، حيث أن خبرته ومعرفته بخبايا المغرب وهو الذي يتقلد أعلى منصب دبلوماسي فرنسي بالمغرب، جعله يشك في علم الملك بكل ما يقوم به أوفقير، حيث قال في التقرير: “لا يمكن القول بأن الملك على علم بكل ما قام به أوفقير”، غير أنه لم يستبعد على أساس إخلاص أوفقير للحسن الثاني، أن الأول كان يخبر الثاني بمجريات وتفاصيل الأحداث، ولكن إمكانية عدم إطلاع الملك من طرف أوفقير تبقى واردة وبقوة، كما ذكر السفير أن أوفقير مقتنع تمام الاقتناع بأن أي حجة حقيقية بخصوص إدانته في قضية المهدي بنبركة لم توجه إليه، وأنه من الممكن أن يكون قد أقنع الملك بهذا الشعور، غير أنه – حسب السفير – فإن هذا الشعور يكتنفه بعض الحذر، لعدم معرفة المغاربة بما يحتوي عليه الملف القضائي، وهذا ما يفسر موقف الملك الحسن الثاني، سواء من خلال محادثاته مع السفير، أو من كونه لم يدل بأي تصريح يدين من خلاله إدانة فرنسا لأوفقير.