ملف الأسبوع | وصفة الحسن الثاني لوقف سباق التسلح بين المغرب والجزائر

منذ بداية الأزمة الحالية بين المغرب والجزائر، أصبح الحديث بقوة عن إمكانية نشوب حرب بين البلدين في أي وقت، على اعتبار سباق التسلح القوي بينهما، حتى بلغ السباق لشراء الأسلحة أوجه عندما خصصت الجزائر لميزانية التسلح لسنة 2023 رقما قياسيا وصل 23 مليار دولار، الأمر الذي جعل المتتبعين والمراقبين يعلقون على الأمر بأن “هذه ميزانية حرب وليست ميزانية دفاع”.. والواقع أن سباق التسلح بين البلدين قديم، ويحاول هذا الملف استعراض مبادرة تقدم بها الملك الحسن الثاني سنة 1967، من أجل وقف سباق التسلح في منطقة شمال إفريقيا ككل، وجعلها منطقة منزوعة السلاح.
أعد الملف: سعد الحمري
هكذا بدأ السباق نحو التسلح في المغرب العربي
منذ نشوب حرب “الرمال” في شهر أكتوبر 1963 بين المغرب والجزائر، دخل البلدان في سباق من أجل التسلح مع توقع شبح اندلاع حرب جديدة بينهما في أي وقت، ودون سابق إنذار، بفعل ترك الحدود دون ترسيمها، غير أن الانقلاب الذي قاده العقيد هواري بومدين سنة 1965 في الجزائر ضد الرئيس السابق أحمد بن بلة، فتح أمام البلدين أفقا واعدا لعلاقات جوار جديدة.. يومها صرح الملك الحسن الثاني بكل سرور، وبنظرة تحمل التفاؤل بمستقبل مشرق مع الجارة الشرقية للمملكة، قائلا في قائد الانقلاب هواري بومدين: ((تسرني رئاسة الجزائر من طرف شخص يمكنني محاورته ومصافحته))، ورغم هذا التحول في الجزائر، إلا أن بداية عهد الرئيس الجديد بومدين لم تكن مبشرة بالخير، ولا على قدر التوقعات المنتظرة منه.. فقد استمر سباق التسلح بين الجارين على حاله.
وإلى جانب السباق المغربي الجزائري المحموم حول التسلح، كانت تونس أيضا لديها مطالب ترابية في الجزائر، ودخلت كذلك في حرب تسلح استعدادا لأي احتمال قد يقع في المستقبل، مع عدم استبعاد الدخول في أي لحظة في نزاع مسلح مع جارتها الغربية الجزائر، وفي هذا الإطار، عكس تقرير أمريكي صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، يوم 5 ماي 1966، الوضع في المغرب العربي، جاء فيه: ((لدى كل من المغرب وتونس نزاعات حدودية مع الجزائر، ويخشى كلاهما من أن الجزائر قد تحاول الهيمنة على شمال إفريقيا، ومن ناحية أخرى، تخشى الجزائر أن يحاول كل من المغرب وتونس، بدعم من القوى الغربية، تطويقها)).
وأكد التقرير الأمريكي أن ((هذه الوضعية ساهمت في نشوء سباق حول اقتناء السلاح في شمال إفريقيا، حيث تلقت الجزائر كميات ضخمة من الأسلحة السوفياتية، ومارس المغرب وتونس الضغوط من أجل الحصول على مساعدات عسكرية واسعة النطاق من القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية))، وفي الختام خلصت نفس الوثيقة إلى القول: ((لقد أصبحت القدرات العسكرية الجزائرية الآن أكبر من قدرات المغرب وتونس مجتمعين، ونعتقد أن الجزائر سوف تسعى للحصول على أسلحة سوفياتية إضافية إذا حدث حشد كبير للقوات المغربية أو التونسية)).
وعلى هذا الأساس، كان الوضع في شمال إفريقيا يقلق الولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصا سباق التسلح القائم في المنطقة، وبناء عليه، حاولت هذه الأخيرة التخفيف من حدة دك المنطقة بالأسلحة، حيث عملت على التنسيق مع الاتحاد السوفياتي في هذا الباب، على اعتباره المورد الرئيسي للأسلحة إلى الجزائر، وفي هذا الإطار، صدر تقرير أمريكي يوم 8 فبراير 1967 بعنوان: Notes on the Meeting of the National Security Council، أبرز مخاطر استمرار تدفق الأسلحة السوفياتية على المنطقة والمجهودات التي قامت بها أمريكا في هذا الباب، وقد جاء في التقرير ما يلي: ((لدينا مصلحة في نجاح واستقرار بلدان شمال إفريقيا الأربعة.. لقد شعرنا بالقلق إزاء الاستقطاب في العالم العربي الذي شهد انجذاب بعض الدول، مثل مصر والجزائر وسوريا، إلى الاشتراكية العربية، حيث مارست هذه الدول ضغوطا على الأنظمة الأكثر تحفظا، وأرسل الاتحاد السوفياتي كميات كبيرة من الأسلحة إلى اثنين من هذه الأنظمة الأكثر تطرفا: مصر وسوريا، ولا نعرف نحن ولا الفرنسيون السبب الذي دفعهم إلى ضخ كل هذا الكم من العتاد إلى الجزائر، إلا أن ذلك أدى إلى زعزعة الاستقرار في المغرب وتونس.
لقد كنا على اتصال مع الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط بشأن إمكانية فرض قيود على الأسلحة، والسوفيات على استعداد لرؤية المنطقة خالية من الأسلحة النووية، ولكن ليس لديهم مصلحة في السيطرة على الأسلحة التقليدية)). وبخصوص المغرب، فقد جاء ضمن نفس التقرير ما يلي: ((مشكلتنا المباشرة هي إعطاء الملك الحسن الثاني إحساسا بالاستقرار، ولذلك، أوصينا ببيع أسلحة بقيمة 14 مليون دولار، واتفاقية غذائية جديدة)).
وصفة الملك الحسن الثاني لجعل المغرب العربي خاليا من الأسلحة
وعلى غرار الولايات المتحدة الأمريكية، كان الملك الحسن الثاني يحمل هم التسابق نحو التسلح وما قد تؤول إليه الأمور في كل لحظة، ومن هذا المنطلق، دخل الرجل في محاولات من أجل إيقاف هذا السباق المجنون، مقابل تحويل الأموال التي تصرف على شراء الأسلحة، من أجل البنيات التحتية وتنمية بلدان المنطقة.
ومن أجل رؤية المغرب العربي خاليا من الأسلحة وإيقاف فيروس السباق نحو التسلح، أخذ عاهل البلاد المبادرة وأرسل رسالة إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، يوم 28 فبراير 1967، طلب من خلالها أن تصبح منطقة شمال إفريقيا منزوعة السلاح، على أن تراقب وتشرف على ذلك هيئة الأمم المتحدة بنفسها.. فقد تضمنت الرسالة التي بعثها الحسن الثاني إلى الأمين العام للأمم المتحدة مجموعة من المقترحات، جاءت كما يلي: ((يصبح اقتناعنا هذا حقيقة سياسية، إذ نود أن يكون مبدأ نزع السلاح معمولا به في المنطقة التي توجد بها بلادنا، لذا نقترح على سعادتكم إحداث لجنة تحت إشراف الأمم المتحدة، يعهد إليها بمهمة مزدوجة: أولا، أن توصي كلا من الجزائر والمغرب بالتنازل عن الزيادة في القوات المسلحة لتجنب أخطار التسابق نحو التسلح بإفريقيا الشمالية. ثانيا، أن تقوم في عين المكان وبجميع الوسائل الصالحة لمراقبة السلاح الذي يتوفر عليه المغرب والجزائر كما وكيفا، وتحديد القدر الضروري لكل منهما للمحافظة على الأمن الداخلي)).
وتابع الحسن الثاني مقترحاته في رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة قائلا: ((.. وإننا نعتقد أن كلا من الجزائر والمغرب سيبرهنان عن حكمة بالغة بمواقفهما على الاقتراح، والمغرب من جهته مستعد تمام الاستعداد لاستقبال هذه اللجنة والتعاون معها بدون تحفظ قصد القيام بمهمتها في مراقبة التسلح وتقدير حده الضروري، وفي ذلك دليل على حسن نيتنا وسلامة طويتنا وتعبير عن نياتنا السليمة، وإننا سنكون جد ممنونين لسعادتكم إذا تفضلتم بدراسة هذا المقترح بما يستحقه من عناية راجين منكم أن تتأكدوا من صدق عزمنا على العمل يدا في يد مع المنظمة الأممية، وذلك في جميع الظروف والأحوال))، وختم الملك رسالته بالتالي: ((إن هدفنا الذي تسعى إليه بلادنا هو تحقيق السلم الذي نود أن تعم أسسه وتدعم بفضل التعاون السلمي، وإننا لنأبى على أنفسنا كيفما كانت الأحوال أن نأخذ المبادرة باللجوء إلى استعمال القوة أو أن نتبارى مع غيرنا في التسابق نحو التسلح وأخذ العدة للحرب.
إن المغرب يشهد على نفسه باحترامه لهذا الوعد أمام هيئة الأمم المتحدة ويجدد التأكيد على عزمه في أن يصرف كل جهوده وجميع إمكانياته لأجل توفير وسائل الرخاء لشعبه، وهو يرى أنه يمكن اعتبار هذا الاختيار مساهمة منه في تعميم الرخاء والاستقرار الدولي وأمن جميع الشعوب التي تؤمن مخلصة بمبادئ الأمم المتحدة وبالتعايش السلمي والتعاون الدولي)).
لا نتوفر على الجواب الذي قدمه أمين عام هيئة الأمم المتحدة على مبادرة الملك الحسن الثاني، كما لا يمكننا معرفة هل كانت هناك مبادرات أخرى في هذا الاتجاه، بل كل ما يمكن التأكد منه، أنه بعد هذه المرحلة، بدأت المياه الراكدة بين البلدين تتحرك.. فقد دخلت العلاقات المغربية الجزائرية مرحلة من التحسن، ثم تبادل زعيما البلدين الزيارات، وتوج هذا الانفراج بعد ذلك بمعاهدة إفران يوم 15 يناير 1969، وهي ((معاهدة أخوة وحسن الجوار والتعاون بين المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية))، تضمنت ثمانية مواد كان من أبرزها المادة الخامسة، القاضية بأن ((يتعهد الطرفان بعدم الانخراط في أي حلف أو تحالف موجه ضد أحدهما))، وفي المادة الأخيرة، نصت المعاهدة على أن ((تبقى المعاهدة سارية المفعول لمدة عشرين سنة ابتداء من تاريخ دخولها حيز التنفيذ، وتجدد تلقائيا لمدة عشرين سنة أخرى ما لم يصدر عن أحد الطرفين المتعاقدين إشعار كتابي إلى الطرف الآخر بالرغبة في إلغائها، وذلك قبل انتهائها بسنة)).
وهكذا مضى المغرب والجزائر في تطوير علاقاتهما الثنائية، وكان من أهم الخلافات القائمة بينهما، مسألة الحدود، ورغبة من البلدين في طي صفحة الماضي، قررا الاتفاق على ترسيم الحدود، ومن أجل ضرب المثل للدول الإفريقية، استغل قائدا الدولتين مناسبة المؤتمر التاسع للقمة الإفريقية الذي عقد في المغرب يومي 15 و16 يونيو 1972، ليقوما بالتوقيع على الاتفاقية المتعلقة بالحدود.
وبمناسبة التوقيع على الاتفاقية المغربية الجزائرية المتعلقة بالحدود يوم 15 يونيو 1972، ألقى الملك الحسن الثاني خطابا بالمناسبة، وبعده ألقى الرئيس الجزائري هواري بومدين خطابا قال فيه: ((إن وحدة الشعبين المغربي والجزائري، والتضامن في الكفاح المشترك بالأمس، يجعلان من قضايا أحدهما قضايا الآخر، وهل نحن بعد هذا في حاجة إلى تجديد التعبير عن تضامننا المطلق مع المغرب الشقيق في كفاحه حتى يسترجع سيادته على أراضيه الوطنية التي لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار)).
عودة سباق التسلح مع قضية الصحراء المغربية
غير أن الأمور لم تمش على ما يرام بعد ذلك.. فقد دخلت الجزائر والمغرب في صراع جديد، عندما أرادت المملكة استكمال الوحدة الترابية للبلاد، عندها أنشأت الجزائر منظمة البوليساريو ودعمتها بكل الوسائل من أجل إقامة دولة سادسة في المنطقة، وهو ما مهد إلى عودة السباق حول التسلح بين البلدين، بل والدخول في حرب بالوكالة، واستمر الوضع على ما هو عليه إلى أن خفت نسبيا هذا السباق بين الجارين خلال مرحلة التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة، بسبب الحرب الأهلية في الجزائر، إلى أن جاءت سنتا 2014 و2015، عندما خصصت الجارة الشرقية خلال السنتين المذكورتين على التوالي، أكبر ميزانية لها على التسلح في تاريخ البلاد، يومها طرح السؤال التالي: لماذا الاهتمام بالتسليح في هذا الوقت بالذات؟ ومن أين جاء ذلك؟ عندها تم التأكيد على أن الجزائر تواجه مناخا إقليميا غير مستقر أكثر فأكثر، بسبب تفاقم الوضع الأمني في المنطقة ككل، ونمو الحركات الجهادية في ليبيا وتونس ومالي المجاورة، بالإضافة إلى انتشار السلاح بشكل واسع في منطقة الساحل، وكل هذه التطورات تدعو الجزائر إلى الترقب والتأهب لأي خطر محدق.
أما بخصوص هل هنالك سباقا نحو التسلح بين الجزائر وجيرانها في المنطقة وخاصة المغرب؟ فقد اعتبر المراقبون أنه لطالما كانت الجزائر والمغرب في سباق متواصل نحو التسلح، لكن ارتفاع وتضاعف نفقات البلدين خلال سنتي 2014 و2015 في مجال الأسلحة والدفاع من الجانبين، يعكس حالة عدم الاستقرار الأمنية في منطقة الساحل ودول الجوار أكثر من التنافس التقليدي الموجود بين البلدين.
حروب ضد الجهاديين والإسلاميين على حدود الجزائر من كل جهة، في ليبيا وتونس ومالي.. يومها طرح السؤال التالي: هل تتحضر الجزائر لحرب جديدة ضد الإرهاب بعد تجربتها المريرة سنوات التسعينيات؟ وهل يأتي نوع العتاد الحربي الذي تشتريه في هذا المنوال (طائرات بدون طيار، آلات مراقبة على الحدود، طائرات مروحية…)؟
غير أن الوضع اختلف منذ صعود عبد المجيد تبون الرئيس الجزائري الحالي للسلطة، عن تلك المرحلة، فمنذ تولي الرجل شؤون حكم البلاد، دخلت العلاقات بين الجزائر والمغرب في أزمة أدت إلى إغلاق الحدود الجوية، وقطع العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد، ويمكن القول أنه منذ هذه اللحظة بدأ صراع حقيقي وسباق كبير نحو التسلح، فخلال ميزانية السنة الحالية، رصدت السلطات الجزائرية ميزانية دفاع قاربت 23 مليار دولار وهي الأكبر في تاريخ البلاد.
وورد في قانون الموازنة، الذي عرض على البرلمان الجزائري، أنه تم رصد حوالي 3186 مليار دينار (قرابة 23 مليار دولار) لنفقات الدفاع الوطني، دون تفاصيل حول طبيعتها، وظهرت مؤشرات حول توجه الجزائر نحو صفقات تسلح جديدة، من خلال استقبال قائد أركان الجيش، الفريق أول سعيد شنقريحة، لعدة مسؤولين عسكريين أجانب، في مقدمتهم مدير الهيئة الفيدرالية للتعاون العسكري التقني الروسية، ديمتري شوغاييف، وحسب تقارير دولية، تعد الجزائر ثالث مستورد للسلاح الروسي في العالم، فيما تعتبر موسكو أول ممول للجيش الجزائري بالأسلحة والأنظمة الحربية بنسبة تفوق الـ 50 في المائة، وبهذا أصبح ينظر إلى هذه الميزانية على أنها ميزانية حرب وليست ميزانية للدفاع، وفي ظل هذه الظروف أصبح العديد من المراقبين يترقبون إمكانية نشوب حرب بين المغرب والجزائر في أي وقت.
ويختلف اليوم عن سنة 1967 وما تلاها، حيث كانت لدى المغرب رغبة في إنهاء الخلاف مع جارته الشرقية، وإنهاء سباق التسلح، كما قابله صعود قيادة جديدة في الجزائر كانت لها الرغبة الحثيثة في الدفع بالعلاقات بين البلدين إلى الأمام، كما أن السياق الدولي اليوم مختلف عن الأمس، حيث كانت خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي منظمة عدم الانحياز، وكانت في أوج نشاطها، وهي التي ساهمت بشكل كبير في التقارب بين البلدين، ثم المصالحة.