المنبر الحر | لماذا تضعف الأحزاب المغربية كلما مرت من سراط السلطة ؟
بقلم: بنعيسى يوسفي
إذا أردت أن تمتحن صحة ومناعة حزب مغربي كيفما كانت طبيعته، فامنحه فرصة المشاركة في الحكم واتركه يتذوق حلاوة الكرسي وربطة العنق، ومتِّعه بامتيازات لم يكن يحلم بها ذات يوم، من سيارة فارهة، وسكن فاخر، والخدم والحشم، والمكتب المكيف والكرسي الوثير، وما إلى ذلك من المتاع السياسي الذي إذا استلذه المرء يصعب التخلص منه بسهولة، وبعد ذلك، انزع منه كل تلك الامتيازات وانتظر كيف ستؤول الأمور، فأنا جد متأكد من أن أي حزب سياسي في المغرب تختلف طبائعه وسلوكاته بمجرد ما يمر على سراط السلطة، ثم يعود إلى حالته الأولى التي قد نسميها المعارضة، يكون الحزب هادئا والنقاشات فيه في مستوى عال حيث الطوباوية تفعل فعلتها في بعض الأحيان، حيث يسود الوئام والود بين الإخوة والمناضلين، لأن الكل تقريبا تحدوه نفس الرغبة، أي تهييء الحزب وتجييش القواعد للوصول إلى هدف واحد هو السلطة، فتجد الاختلافات بينهم نادرة إذ الكل يدعو إلى كلمة سواء بينهم وهي قطع الطريق على كل المنافسين الذين يتوجسون منهم خيفة في أي استحقاق من الاستحقاقات.. تجد الخطاب السائد والمهيمن هو التماسك والالتحام والكلمة الواحدة والاستقلالية في القرار، والمشهد عموما في هذه المرحلة، مرحلة ما قبل الاستئثار بالسلطة، يكاد يكون مثاليا ولا تشوبه شائبة، وحينما ينتقل الحزب إلى دكة الحكم يبقى صامدا بعض الوقت ووفيا لوضعيته السابقة، لكن مع مرور الوقت، تطفو إلى السطح ممارسات وخطابات ومفاهيم ومصطلحات جديدة تعكس حالة من التحول في بنية وفكر الحزب، وتصادفك كلمات ومقولات جديدة لم تكن تجد لها أثرا فيما قبل، وكل ما كان جميلا وطبيعيا ولائقا فيما مضى، لم يعد كذلك في مرحلة الحكم حيث المناخ الجديد يستدعي قاموسا جديدا يتناغم وظروف المرحلة، والصورة الوردية التي كان الحزب يكونها عن نفسه بدأت تميل إلى الرمادي، ليجد نفسه مع متغيرات وأجواء سياسية تحتاج إلى دهاء وخبرة سياسية للتعامل معها.. فكم من حزب شارك في الحكومة ولا تكاد تجد له بصمة تميزه أو تؤرخ لمروره السياسي على الأقل، فقليلة هي الأحزاب التي استطاعت أن تصمد وأن تؤثر ولو بالنزر القليل في المسار السياسي المغربي على مر التاريخ.. فلماذا تضعف الأحزاب بعد مشاركتها أو حتى خلالها في الحكم؟ لماذا تتغير خطاباتها ولهجتها وتصبح أكثر مهادنة وأكثر نعومة؟ لماذا تغير الأحزاب بعض توجهاتها وقناعاتها؟ ألهذه الدرجة تنزع السياسة من المرء شهامته ومروءته ويصبح كائنا ضعيفا ينحني أمام أضعف عاصفة؟
إن كل ما أتينا عليه من تشريح للواقع الحزبي في المغرب، كنا نعتقد في وقت من الأوقات أن المسألة تخص أحزابا بعينها، أحزاب جُبِلت على هكذا أسلوب، لكن أن تنتقل العدوى إلى أحزاب أخرى كنا نخالها عتيدة ولها تاريخ وعاشت تجارب سياسية مريرة، كحزب الاستقلال مثلا، وبعده الاتحاد الاشتراكي، الذي في الحقيقة أعطى للسياسة في المغرب طعما خاصا وعاش المغاربة معه في تجربة التناوب التوافقي أياما وزمنا سياسيا تشتم فيه رائحة الديمقراطية والممارسة السياسية الحقيقية ولو في حدودها الدنيا على الأقل، ثم جاء عهد الحزب الإسلامي الأول في المغرب “العدالة والتنمية” الذي كان يجر وراءه قاعدة جماهيرية كبيرة بوأته الصدارة مرتين على التوالي، وترأس الحكومة مرتين، ليقترف من الأخطاء ما جعله يندحر، والتي كانت من نتائجها أن رمت به صناديق الاقتراع إلى المراتب الأخيرة في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة في أسوأ سيناريو يمكن أن يتوقعه المرء، فدب الوهن والضعف في مفاصل الحزب، الذي لا يزال بعد مرور سنتين على الانتكاسة يعيش أوضاعا لا يُحسد عليها، وكل هذه الأحزاب التي ذكرتها بالتحديد، كان لها وزن كبير في المجتمع وعلى الساحة السياسية عامة، وكان جل المواطنين يراهنون عليها لتحقيق العديد من المتطلبات والمكتسبات، لكنها لم تفلح في ترجمة الوعود المهمة والبرامج التي وعدت بها إلى أرض الواقع، قامت حقيقة ببعض الإنجازات في مستويات عدة، لكنها لم ترق إلى مستوى الطموحات الشعبية المشروعة، ونتيجة هذه الإخفاقات المتكررة لهذه الأحزاب في تدبير شؤون الدولة، صارت تبدو أحزابا صغيرة وجد عادية، وأمست لا تختلف عن باقي الأحزاب الأخرى التي تربت بين أحضان الإدارة.
إن أخطر شيء يقتل السياسة في أي بلد ومعها الديمقراطية، هو أن تكون الأحزاب ضعيفة، أو أن تكون قوية وتنتهي ضعيفة، والأمرُّ في ذلك، هو أن يكون سبب الضعف هو المشاركة في الحكم كما هو الحال في المغرب، فالمعروف هو أن الأحزاب حينما تشارك في الحكم تدافع بشراسة عن مواقفها وتوجهاتها تحسّبا لأي مواجهة أو أي استحقاق، وتعد العدة التي تجعلها واقفة شامخة وعلى استعداد تام لخوض أي تجربة سياسية كيفما كان نوعها، وحتى إن لم يحالفها الحظ تقوم بنقد ذاتي وترمِّم الصفوف وتصحح الأخطاء والهفوات بصراحة وشفافية، وتكون أكثر تجاوبا مع قواعدها حتى يزداد منسوب الثقة بينهما، وبالتالي، تجد من يدعمها ويقف وراءها حينما تكون في حاجة إليهم في أي محطة من المحطات، هذا ما ينقص الأحزاب المغربية عامة، ففضلا عن غياب الديمقراطية الداخلية وسيادة التعتيم، وعدم وجود قيادات بمواصفات كبيرة، وطغيان الحسابات الضيقة، وعدم مصارحة القواعد بالحقائق وأسباب النجاح والفشل، فإنها أيضا لا تملك تصورات سياسية حقيقية لمواجهة الأزمات والتحديات التي تعترضها، ولا تملك خطابا سياسيا متماسكا يعكس خبرة أو نضجا سياسيين ينهل من نظريات الفكر السياسي والممارسة الديمقراطية، كما هو الشأن في المجتمعات الديمقراطية المتقدمة، هذا ما يجعلها ترسب في أول امتحان سياسي تجتازه، وتفقد معه قوتها وألقها، ويمكن أن تدخل في دائرة النسيان.