المنبر الحر | “السبايس”.. مغاربيون في خدمة الاستعمار
بقلم: يونس شهيم
السبايس أو الصباحية أو الصبايحية، هي فرق عسكرية من الخيالة، ويعود أصل التسمية إلى كلمة “سباهي” التي تعني الجندي في اللغة الفارسية، فانتقل المصطلح إلى اللغة الفرنسية “Spahi”، وقد كان الصباحية يقومون بدور الوساطة بين الدايات والأهالي إبان الحكم العثماني، لكن وظيفتهم تطورت بعد المد الاستعماري الفرنسي ليصبحوا موالين لفرنسا وسياستها التوسعية، حيث عملت على تجنيدهم للانخراط في الجيش الفرنسي من أجل قتل المعارضين لسياسة الاحتلال والتوسع من المقاومين، وفي دحر ثورات الأهالي المحليين، وتقول الرواية الجزائرية أن سبب تسمية “الصبايحية” يعود إلى كون أفراد هذه الفرقة كانوا يستعملون نفس كلمة السر “صباحكم بالخير” فيما بينهم.
وقد نشطت هذه الفرق أولا بالجزائر، حيث وصل عددهم سنة 1845 إلى ثلاثة فيالق، لتقوم فرنسا بمضاعفة عددهم والاستعانة بهم في مخططها الاستعماري لباقي دول شمال إفريقيا، كما قامت باستنساخ هذه الفرق داخل كل من تونس وسوريا ولبنان والمغرب، حيث عمدت فرنسا للاستعانة بأبناء الوطن الواحد قصد قتل ومحاربة بعضهم البعض، كما نجحت في جعلهم يتنافسون ويبذلون الجهد ويتمنون الالتحاق بصفوف جيشها، إذ كان المجال مفتوحا في البداية للعامة من الناس فأصبح الانخراط فيما بعد محصورا في أبناء الأعيان والشيوخ والقياد، ونجحت في وضع شروط للمحاربة إلى جانب صفوفها، منها أن يمتلك الراغب في الانخراط حصانا قويا يصلح للحرب، وأن يكون شابا في عنفوان القوة والشباب قادرا على حمل السلاح والفتك بإخوته، وأن يؤدي القسم على القرآن بولائه لفرنسا ولسياستها الاستعمارية، كما كانت فرنسا تخضعهم لنظام التعاقد، حيث يقضي الصبايحي المنخرط ثلاث سنوات قابلة للتجديد في حالة حصوله على رضى فرنسا، وبعدما يبدي قتالا منقطع النظير وشراسة وضراوة ووحشية تجاه أبناء وطنه.
وللتذكير، فإن شمال إفريقيا كان بمثابة قطعة حلوى أسالت لعاب الدول الأوروبية التي قامت دبلوماسياتها بمجموعة من الرحلات المكوكية داخل العواصم الأوروبية قصد عقد الاتفاقيات الرامية إلى تقسيم هذه الحلوى بين الدول الاستعمارية، ولعل الملفت للنظر أن الخلافات كانت تسود هذه الدول الأوروبية، سواء على المستوى الخارجي، أي في علاقات دولها ببعض، وللمثال لا الحصر، نذكر علاقة فرنسا المتشنجة ببريطانيا، أو على المستوى الداخلي كما هو الحال بالنسبة لإسبانيا التي كانت تعيش تحت وطأة النزعات والخلافات السياسية الداخلية وتبادل الاتهامات حول أسباب ضياع آخر مستعمراتها: كوبا، واندحارها أمام القوات الأمريكية، ورغم ذلك، استطاعت هذه الدول أن تتفق وأن تتوحد من أجل قضم شمال إفريقيا ونهب خيراته واستعباد سكانه، فلم تتوان دولة من دوله لتقديم يد العون لدولة أخرى وتمكينها من التوغل ومن تنفيذ المخطط الاستعماري، وفي هذا الصدد، قامت فرنسا بمساندة إسبانيا في دحر ثورات القبائل الريفية باللجوء إلى “السبايس”، ثم بإرشاد إسبانيا إلى استنساخ تجربة “السبايس” عبر تأسيسها لما سمي آنذاك “القوات العسكرية الأهلية”، وهو الاسم الذي أطلق على المغاربة الذين غيروا ولاءهم في ساحة القتال وتنصلوا من حركات المقاومة والذود عن حوزة الوطن وفضلوا الانخراط في صفوف الجيش الإسباني جراء الاستمالة المادية الاستعمارية لهذه الفئة التي بيعت بثمن بخس لا يصل إلى بسيطة واحدة (العملة الإسبانية).
معلوم أن الحركة الاستعمارية الأوروبية صاحبتها مجموعة من المبادرات الفكرية والأدبية والفنية والدينية لكتاب وأدباء ومفكرين دافعوا عن الطرح الاستعماري ولمعوا التدخل العسكري وعملوا على التأثير في الرأي العام الأوروبي وإقناعهم بإيجابيات التوغل الاستعماري الأوروبي في شمال إفريقيا وباقي الدول المستعمرة، فكانت بداية القرن العشرين مرحلة دراسة وبحث لخصوصية وطبيعة ومكونات منطقة مسالمة تغط في سبات عميق ولا تدري ما يدبر لها، فاتحة أبوابها للمحتل المتخفي تحت غطاء الحملات التبشيرية والحملات الفكرية، ومن بين الأفكار التي تقدم بها هؤلاء، مسألة ضرورة القيام بإصلاحات جديدة في صفوف الجيش الإسباني، فطرحت فكرة تأسيس فرقة عسكرية تضم مجندين مغاربة مطيعين لإسبانيا خادمين لمشروعها التوسعي مسيرين من طرف ضباط متخصصين في الشأن الإفريقي.
وتمكنت إسبانيا من تأسيس أول فرقة عسكرية من أصل مغربي صرف سنة 1909، وفي هذه السنة بالذات بدأت إسبانيا تجني ثمار تدخلات هذه الفرقة المكونة من المغاربة الموالين الأوفياء للمخطط الإسباني، سواء في ساحات الوغى والقتال أو من خلال إرشاد وتوجيه باقي الجنود الإسبان نحو الهدف ونحو التوغل ومزيد التحكم في المناطق المغربية، وبلغت هذه الفعالية أوجها مع احتلال منطقة كبدانة بإقليم الناظور، حيث أن الضباط الأفريقانيين (المخصصون لغزو شمال إفريقيا) لم يترددوا في الاعتراف بما كان لهؤلاء الجنود الأوفياء من صبايحية ومن هم على شاكلتهم من القوات العسكرية الأهلية، من دور فعال في إنجاح الاحتلال الإسباني، كما دعا مسؤولو الجيش الاستعماري – في مراسلاتهم إلى الملك ألفونسو الثالث عشر – إلى ضرورة توسيع الإطار التنظيمي لهؤلاء المرتزقة والعمل على الرفع من أعدادهم باعتبارهم الركيزة الأساسية لإنجاح المخطط الاستعماري ولفعاليتهم المثلى في مشروع الاحتلال.
لقد شهد التاريخ القديم والمعاصر العديد من قصص الخيانات التي غيرت مجرى التاريخ، ولازال التاريخ يتيح للباحث المتفحص دروسا سارية المفعول ومفاتيح لفهم ما يدور، والمجال لا يتسع للإحاطة بجميع هذه القصص، ويكفي الاستدلال بما وقع للأندلس من تشرذم واندحار نتيجة الانقسام إلى دويلات وطوائف ونتيجة الخيانة التي عجلت بسقوط حضارة يصعب الإتيان بمثلها، لذلك قيل إذا أردت تحرير وطن ضع في مسدسك عشر رصاصات، تسعة للخونة وواحدة للعدو، ولولا خونة الداخل ما تجرأ عليك عدو الخارج.