المنبر الحر | النظام العالمي الجديد من التشكل إلى التجلي
بقلم: نزار القريشي
منذ بداية الحرب الأوكرانية، حرب الاستنزاف الكبرى لأوروبا وروسيا وأمريكا، وكما قلنا سابقا وبإسهاب ولأكثر من مرة على صفحات هذه الجريدة الغراء، فإن هذه الحرب لن تؤدي إلى أي نتيجة، إذ أن سير عملياتها واستمرارها لن يفضي إلى بروتوكول إخضاع طرف لطرف من طرفي هذه الحرب بالرغم من أن قرار الحرب في أغلب الأحيان لا يتيح سوى نتيجة الانتصار أو الهزيمة، ومن مخرجاته بروتوكول إخضاع المنهزم لقرارات المنتصر.. فبعد حوار القاهرة التمهيدي بخصوص النقاش الذي تم حول معاهدة “ستارت” جديدة تضم إليها كلا من الصين وبريطانيا وفرنسا كإضافة لطرفي المعاهدة الرئيسيين: أمريكا وروسيا، اتضحت بوادر رغبة الأطراف المتنازعة بإنهاء هذا الاستنزاف الذي طال أمده.
وبعد 18 شهرا من الاقتتال، بات من المؤكد أن موسكو قضمت الشرق الأوكراني وأضافته لجزيرة القرم، غير أن إنهاء هذه الحرب سيتطلب مع التشبث الروسي بالشرق والقرم الأوكرانيين سابقا، قبول ما تبقى من غرب أوكرانيا بالانضمام لعضوية “الناتو”، وهو ما يؤكد أن روسيا حققت هدفها مما أسمته بالعملية العسكرية وبتكلفة جد عالية تجاوزت ما توقعته وزارة الدفاع الروسية، في مقابل ذلك، فإن تكلفة هذه الحرب والفاتورة التي أداها “الناتو” اقتسمت بين أكثر من ثلاثين دولة، مما جعل تكلفتها بالنسبة للغرب أقل من تكلفتها بالنسبة لروسيا، غير أن الغرب وبعد تقسيم أوكرانيا، سيحقق هدفه السابق، الذي كان سببا في هذا النزاع، وذلك بضم كييف لحلف شمال ألطلسي، وبذلك سيتموقع على حدود روسيا – شرق أوكرانيا سابقا – ليتضح بعد هذا الاستنزاف الذي خاضت فيه روسيا هذه الحرب، عدم جدوى هذه العملية العسكرية، لأنه من غير هذه المعادلة ستستمر الحرب إلى ما لا نهاية، إذ يبقى احتمال استمرار الحرب والاستنزاف الذي يطال طرفي الاشتباك العسكري، إلى مدى لا يتجاوز نهاية يناير 2025، وهو تاريخ تنصيب رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية، حيث من المحتمل أن يرشح الحزب الديمقراطي ميشال أوباما في مواجهة محتملة لدونالد ترامب، إن نال ثقة الجمهوريين من جديد في الترشح للانتخابات الرئاسية.
إلى ذلك، يبقى الغموض يلف موقف الصين، إذ يجب الانتباه لوجود احتمال ولو ضئيل لرغبة بكين في الركوب على الاستنزاف الدولي على الساحة الأوكرانية، وهو ما سترفضه مجموعة “بلدربيرغ” و”اللجنة الثلاثية” رفضا تاما بكل ما أوتوا من مصادر القوة التي يملكونها والمتجلية في نفوذهم الواسع الذي يشمل كل بقاع المعمور، وهم الذين تربطهم أيضا علاقة وطيدة بالحضارات الذكية(..)، إذ يوجهون أوامرهم لـ”جماعة المتنورين”، والذين بدورهم يوجهون أوامرهم لـ”تجمع البنائين”، حيث تقوم المحافل الدولية بتوزيع الأدوار على الساسة ورجال الأعمال والجيوش، وذلك في تراتبية هرمية تشكل النظام العالمي منذ تشكله إلى غاية تجلياته وتمظهراته، مما يؤكد ضرورة انخراط بكين وموسكو في التعديل الذي سيطال النظام العالمي نحو نظام عالمي جديد وبدون معارضة أكثر، إذ أن معارضته ستعزل روسيا والصين وتحشرهما في الزاوية، وهو ما أدى أيضا إلى ما يتجلى في المتاعب التي تواجه بنيامين نتنياهو داخل إسرائيل عندما فكر في الاقتراب من بكين، وذلك في خطوة خاطئة بعد سوء تقدير منه بحساب الوضع الدولي، إذ طاله انتقاد رئيس “الموساد” السابق، تامير باردو، الذي ترأس الجهاز من سنة 2011 إلى 2016، لأن تقدير نتنياهو بالتوجه نحو الصين يلغي الشراكة الاستراتيجية بين أمريكا وإسرائيل، والتي قامت على القيم المشتركة بينهما، وهو ما أدى إلى خسارته السابقة للانتخابات التي جاءت بنفتالي بينيت، كما أن موقف نتنياهو من إيران ولبنان أقل تقدير لخطورة الموقف الذي قد يطال أمن إسرائيل ووجودها، وهو ما يفسر الضغط الذي يمارس عليه من الداخل، إذ ترى استخبارات “أمان” و”الشاباك” في تقييمهما للموقف، خطورة الخوض في حرب مع إيران و”حزب الله” وسوريا وحماس معا، بعد توحيد حسن نصر الله لهذه الجبهات، خاصة في هذه المرحلة، خصوصا وأنها ستكون على عدة جبهات، وأن إسرائيل غير قادرة على امتصاص أي رد فعل إيراني بحكم مساحتها الضيقة إن قررت طهران وحلف الممانعة توجيه ضربات لها.
ومن جهة أخرى، فإن السياق الدولي بات يدعو كافة الدول إلى الانخراط في النظام العالمي الجديد، الذي سيضمن للدول الكبرى والإقليمية والصغرى الشراكة البناءة في الحكومة العالمية، وبتوزيع عادل للأدوار، والتي يرجح أن يدار مجلس إدارتها من لندن أو طنجة أو القدس، مما يؤكد إلغاء الخيار النووي الذي كثر الحديث عنه ومجريات الحرب الأوكرانية، وتغييرات قادمة ستشمل النظام المالي العالمي بعد وفرة الموارد الطبيعية، خصوصا بعد الأرقام الجديدة التي تتعلق بالتخفيض الذي طال عدد سكان كوكب الأرض، إذ سيترتب عن ذلك تحقيق الاستقرار في العالم وتأمين الأمن الغذائي والمائي للسكان، والقضاء على الفقر والمجاعة والأوبئة والانحباس الحراري، وهو ما تؤكده ضرورة المرحلة بجلوس الأطراف الدولية على طاولة التفاهمات لإنهاء الأزمات التي يعيشها الكوكب وساكنته، وخاصة بعد تأهيل أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا لمرحلة ما بعد المسيحية والدين، كما هو الشأن بالنسبة لدول شرق آسيا، وذلك لاستقبال التقدم العلمي والازدهار بعيدا عن الانقسامات والصراعات التي تغذيها الديانات، من أجل حياة أفضل للجنس البشري الصالح.