المنبر الحر | العمل عن بعد بين الماضي وأسئلة المستقبل
بقلم: عبده حقي
يشير العمل عن بعد إلى ممارسة العمل خارج فضاءات المكاتب التقليدية، غالبا من البيت أو من أي مكان آخر بعيدا عن الجدران الأربعة للإدارات والشركات، ويتيح للموظفين القيام بمسؤولياتهم الوظيفية باستخدام التقنيات الرقمية، مثل أجهزة الكمبيوتر والإنترنيت وأدوات الاتصال دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكتب بشكل يومي.
تعود جذور مفهوم العمل عن بعد إلى أواخر القرن العشرين، لكنه اكتسب زخما كبيرا في السنوات الأخيرة بسبب التقدم التكنولوجي والتغيرات في ثقافة العمل، حيث بدأت فكرة العمل عن بعد في التبلور منذ سبعينات القرن الماضي، عندما أتاحت تكنولوجيا الاتصالات إنجاز إجراءات العمل بشكل أكثر مرونة، كما ساهمت أزمة النفط والحاجة إلى تقليل التنقل، في النقاشات المبكرة حول إمكانيات العمل عن بعد.
ومع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنيت في التسعينات، أصبح العمل عن بعد أكثر جدوى، وبدأت بعض الشركات في تجربة ترتيبات العمل عن بعد على الرغم من أنها كانت غير شائعة نسبيا.
وقد أدى انتشار الإنترنيت عالي السرعة وأدوات الاتصال العالية الدقة وبرامج التعاون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى جعل العمل عن بعد أكثر جدوى ويمكن الوصول إليه بيسر، وبدأت الشركات في إدراك الفوائد المحتملة بما في ذلك توفير التكاليف وتحسين التوازن بين العمل والحياة.
وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفاعا كبيرا في العمل عن بعد، مدفوعا بعدة عوامل بما في ذلك التقدم في الحوسبة السحابية، وتكنولوجيا الهاتف المحمول وتغيير المواقف تجاه العمل، غالبا ما قادت الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا إلى اعتماد سياسات العمل عن بعد، وقد اكتسب هذا المفهوم المزيد من الاهتمام مع ظهور “اقتصاد العمل الحر” وتوافر العمل المستقل، والعمل التعاقدي الذي يمكن القيام به عن بعد.
كان لجائحة “كوفيد 19” تأثير هام للغاية على وظيفة العمل عن بعد.. فقد أجبرت عمليات الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي العديد من الشركات على الانتقال بسرعة إلى إعدادات العمل عن بعد لضمان سلامة موظفيها، كما أظهرت هذه الفترة أن العمل عن بعد لم يكن ممكنا فحسب، بل يمكن أن يكون مثمرا أيضا للقيام بالعديد من الأدوار.
وقد أدى الوباء إلى تسريع قبول العمل عن بعد ودفع العديد من الشركات إلى التفكير في ترتيبات عمل أكثر مرونة حتى بعد الأزمة، إذ من المحتمل أن يظل العمل عن بعد جزء مهما من المشهد العام مع زيادة انتشار النماذج الهجينة (مزيج من العمل عن بعد والعمل داخل المكتب)، ومن المرجح أن يستمر مستقبل العمل عن بعد في التطور مع تغير التكنولوجيا وثقافة العمل والظروف العالمية، حيث يتوقع العديد من الخبراء أن تصبح نماذج العمل الهجينة هي القاعدة السائدة، وهذا يعني أن الموظفين سيتمتعون بالمرونة للعمل عن بعد وفي مكاتبهم، مما يحقق التوازن بين فوائد العمل عن بعد (المرونة، وتقليل التنقل، وتحسين التوازن بين العمل والحياة)، والتعاون الشخصي.
من جانب آخر، يمكن أن يؤدي التقدم المستمر في أدوات الاتصال والواقع الافتراضي والواقع المعزز، إلى جعل التشارك عن بعد أكثر سلاسة، وقد تصبح الاجتماعات الافتراضية أكثر نشاطا وحيوية، وتحاكي إلى حد بعيد الشعور بالتواجد في نفس الغرفة مع الزملاء.
أيضا من المرجح أن تحول الشركات تركيزها من مراقبة ساعات العمل إلى قياس المخرجات والنتائج، حيث يتيح هذا المنهج القائم على النتائج للموظفين العمل بالسرعة التي تناسبهم وفي البيئات المفضلة لديهم مع ضمان الوفاء بجودة العمل والمواعيد النهائية، كما يمكن أن يؤدي العمل عن بعد إلى محو الخطوط الفاصلة بين العمل والحياة الشخصية، لذلك من المرجح أن تزداد الجهود المبذولة لمساعدة الموظفين على وضع الحدود والحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة.
ومع تزايد قبول العمل عن بعد، يمكن للشركات الاستفادة من مجموعة المواهب العالمية، وتوظيف أفضل المرشحين بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، وهذا يمكن أن يؤدي إلى فرق أكثر تنوعا وتخصصا، كما قد تتحول المساحات المكتبية الفعلية إلى مراكز تعاون بدلا من مساحات عمل يومية، وقد تصبح أماكن لممارسة الأنشطة التي تتطلب التفاعل الشخصي.
سيظل الأمن السيبراني وخصوصية البيانات أمرا بالغ الأهمية، حيث ستحتاج الشركات إلى الاستثمار في تدابير أمنية قوية لحماية المعلومات الحساسة وضمان الوصول الآمن عن بعد إلى شبكات الشركة.
وسيكون التعلم المستمر وتحسين المهارات ضروريا للعاملين عن بعد للبقاء على صلة بسوق العمل سريع التغيير، وستلعب منصات وموارد التعلم عبر الأنترنيت دورا مهما في مساعدة العمال على اكتساب مهارات جديدة.
على مستوى التكيف الإداري والقيادي، فسيحتاج المدراء إلى تكييف أساليب قيادتهم لإدارة الفرق البعيدة بشكل فعال، ستصبح الثقة والتواصل الواضح والتفاهم أكثر أهمية، ومن المرجح أن يستمر المشهد القانوني والتنظيمي المحيط بالعمل عن بعد في التطور، وستكون هناك حاجة إلى معالجة القضايا المتعلقة بالضرائب وعقود العمل وحقوق العمال، أما من جانب الأثر البيئي، فيمكن أن يساهم تقليل التنقل واستهلاك الطاقة المكتبية بسبب العمل عن بعد بشكل إيجابي، في جهود الاستدامة البيئية.
وهكذا، فإن مستقبل العمل عن بعد، بالإضافة إلى تبعات جائحة “كورونا”، سيتأثر بعوامل مختلفة بما في ذلك التقدم التكنولوجي، والظروف الاقتصادية، وثقافات الشركات، والتغيرات المجتمعية.