المنبر الحر | سؤال الجدية في المنظومة التربوية
بقلم: يونس شهيم
أراد السلطان سليمان القانوني أن يهدم إحدى السرايا القديمة ويقيم واحدة جديدة مكانها، فسأل عن أمهر مهندس في البلاد، فقالوا له: ليس لك إلا المهندس “معمار سنان”، وبالفعل أرسل السلطان في طلب “معمار”، وأخبره بما يريد منه أن يفعل بالضبط، وقبل “معمار سنان” هذه المهمة ومضى في تنفيذها.
إلى هنا يبدو كل شيء عاديا ومألوفا، لكن ما هو غير عادي، هو أن السلطان سليمان القانوني كان يتابع كل صغيرة وكبيرة، وقد لفت نظره أن “معمار سنان” عندما بدأ بهدم السرايا، استخدم لها عمالا غير الذين استخدمهم حين بدأ في بناء السرايا الجديدة، فأرسل السلطان في طلبه وقال له: يا سيد معمار، عندما كنت تهدم السرايا استخدمت عمالا ثم استبدلتهم في البناء، لِمَ فعلت ذلك؟ فقال له معمار سنان: يا جلالة السلطان، من يصلح للتدمير لا يصلح للبناء.
ولعل ما ينقص منظومتنا التربوية معمار سنان، ذلك المهندس الخبير الذي بإمكانه تصنيف من يصلح للبناء ومن لا يتقن سوى التدمير داخل دواليب وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بكل مصالحها ومكوناتها ومختلف أطرها، حتى نقوم بهدم السرايا القديمة وبناء أخرى جديدة، لا أن نبيد الجديدة منها قبل وضع الأسس والإبقاء على القديمة فتنهار المنظومة عاجلا غير آجل.
فمن لا يصلح سوى للتدمير قد يكون مدرسا خان الأمانة، فتغيب عن الحصص الرسمية وداوم على الساعات الخصوصية، أو تأفف وسخط فانتقم من متعلم لا حول له ولا قوة إما نهرا أو تعنيفا أو لامبالاة لمساره ومصيره، أو تحالف ضد زميل له أو رئيس له نصرة لتنظيم معين أو جهة معينة، أو لكبرياء وهوى ليس إلا.
وقد يكون مفتشا ضيع حق مرؤوس معين في الترقية أو التأطير أو جنح للكيل بمكيالين أثناء تعامله مع مختلف الوضعيات التعليمية التربوية.
وقد يكون إداريا يظن أن المؤسسة تعود لملكيته الخاصة فيعيث فيها تصرفا مزاجيا، فلا يقيم للمرفق العمومي آدابه.
وقد يكون موظفا أو رئيس مكتب أو رئيس مصلحة أو رئيس قسم تجند ضمن “لوبي” فاسد لطحن كل إطار تربوي أو إداري مبدع، مبادر، ملتزم، شريف، إما حسدا أو غيرة.
وقد يكون مسؤولا إقليميا أو جهويا أو مركزيا يبارك الظلم والعدوان ويصمت عن الفساد والمفسدين، ويضيع الحقوق والأمانة.
وقد يكون شريكا للمنظومة التربوية، إما نقابة أو جمعية أو سلطة معينة خول لها المشرع المساهمة في البناء والإصلاح فأبت إلا أن تهدم إما بصياغة بيانات كاذبة ظالمة إرضاء لمنخرط لا ضمير له، وإما بتجنيد زبانيتها ضد مسؤول أو إطار نزيه شريف فيتم القضاء على آخر نزهاء وشرفاء هذه المنظومة.
إن عاهل البلاد، شافاه الله وعافاه، ما فتئ يوصي المشرع في كل مناسبة بجودة التشريعات التي من شأنها أن تقضي على المناطق الرمادية وسد الثغرات والتأويلات القانونية، غير أن إصدار المراسيم المتعلقة بمنظومة التربية والتكوين ببلادنا، دائما يصاحبها لغط كبير ونقاش وسوء تأويل وتفريخ فئات متضررة، كما يحث جلالته على التحلي بالأخلاق الوطنية وتفضيل المصلحة العامة على المصالح الخاصة، ولعل خطاب العرش الأخير تضمن إشارات واضحة وحلولا ناجعة للمضي قدما في درب التقدم والنماء، حلول أجملها حفظه الله، في عبارة “الجدية”، فمن يصلح للبناء لا بد له أن يكون جديا، وأن يبارك جهود المجدين ويحفزهم لا أن يقتل فيهم روح المبادرة والتفاني في العمل.
إن الأمثلة كثيرة جدا من واقع حال منظومتنا التربوية ولا يهمنا في هذا المقال توجيه الأصابع إلى فرد معين أو جهة معينة وإن كنا نملك من الأدلة الدامغة ما يفي بكشف الفساد، أدناها أن تتم مراقبة سجل الصادرات الخاص بكل مؤسسة تربوية وجرد جميع الرخص مثلا، ثم تتبعها للتأكد من مسكها من طرف المديرية والوقوف على سبب مسك حالات دون أخرى وعلاقة ذلك بفساد المسؤول الإقليمي.. بقدر ما يهمنا أن تُلتقط الإشارات وأن نكون جميعا، كل من موقعه، عونا وسندا لقائد الأمة في تنزيل رؤيته الإصلاحية.