المنبر الحر | لمن الأولوية.. النبش في التاريخ أم بناء الإنسان ؟
بقلم: بنعيسى يوسفي
تتبعت باهتمام بالغ بعض فعاليات مهرجان “تويزا” في دورته السابعة عشر، والذي نظم بمدينة طنجة مؤخرا، بمشاركة ثلة من الباحثين والدارسين يتقدمهم الشاعر والكاتب السوري الكبير أدونيس، الذي شارك بثقله في إحدى فقرات هذا المهرجان، لكن ما شد انتباهي حقيقة ليس أدونيس أو غيره، بل الذي شدني هو الندوة المتعلقة بتاريخ المغرب والفتح الإسلامي أو شيء من هذا القبيل، والتي شارك فيها ثلة من الأكاديميين المغاربة بشكل خاص، كالدكتور عبد الخالق كلاب، والمفكر أحمد عصيد، والأستاذ محمد جبرون، وفي سياق هذه الندوة طرحت أفكار وقضايا وإشكاليات كثيرة تاريخية بالخصوص، أهمها السؤال المحوري القديم الجديد: ما هو أصل المغاربة؟ ومن أين أتوا؟ ثم علاقة المغاربة بالفتح الإسلامي وكيف تم ذلك؟ إلى آخره من الأسئلة الفرعية التي أخذت حقها في النقاش والتوضيح، ونحن في هذا السياق لن نعيد ما قاله المتدخلون في الندوة، والذي لا يمكن أن يختلف اثنان في كونهم قاربوا الموضوع من زوايا مختلفة وكانت قراءاتهم وتحليلاتهم غنية ومفيدة من حيث المعلومات التاريخية والفكرية التي وسمت مرحلة من مراحل تاريخ المغرب القديم والوسيط.
إن ما نود التطرق إليه في هذا المقام، هو ملاحظات حول طبيعة الأسئلة التي كانت محور الندوة، ومدى راهنيتها وجدواها في الوقت الراهن، وهل ستبقى هذه الأسئلة تطاردنا كل يوم وكأنها كابوس يقض مضجعنا في كل لحظة وحين؟ أليس المطلب اليوم هو توفير مناخ آخر ثقافي وفكري وسياسي يعفينا من طرح كل تلك الأسئلة وتجريدها من البعد الإديولوجي الذي يحفها ويدثرها؟ وحتى إذا سلمنا بهذا النقاش وبهذه الطريقة والكيفية، لا يجب أن يأخذ أبعادا أخرى، ولا يجب أن يثير أي صراع أو أي تشنج بين تيارات المجتمع المتباينة، وخاصة التي تتبنى أطروحات مخالفة حد التضاد مع تلك التي طرحت في الندوة، يجب أن يبقى هذا النقاش في سياقه وإطاره الأكاديمي وحسب، لأن كل الإشكاليات التي تم التطرق إليها تحتاج إلى نضج ووعي اجتماعيين عميقين من طرف الجميع ليسهل التواصل والتفاهم والفهم، وبالتالي، يتم جسر الهوة وتذويب العقبات، وهذا ما لم نصل إليه بعد في مجتمعنا المغربي، مما يدفعنا إلى القول بضرورة أن يأخذ الجميع الاحتياطات اللازمة للخوض في هذا النقاش حتى لا تتكرر سيناريوهات مشوبة بالعنف والقوة بين فصائل بعينها.
من نافلة القول، أن العالم في الزمن الراهن وجميع النقاشات السائدة فيه، لم تعد تعطي كبير اهتمام لمسألة الأصل والفرع، ومن نحن ومن أين أتينا؟ أصبح لديهم هذا السؤال كلاسيكيا ومتجاوزا، وأصبح التفكير بشكل كبير في كيف يمكن أن نخلق الرفاهية والعيش الكريم للإنسان كإنسان دون النظر إلى من هو وإلى أي بلد ينتمي، ومن أي عرق يتحدر؟ وهذا يظهر جليا في الدول المتقدمة التي تعطي أهمية للفرد وللإنسان، ليس الذي ينتمي إليها وحسب، بل حتى القادمين إليها من دول أخرى، والذين يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها السكان المحليون حتى لا نقول الأصليين، فالشعوب اليوم في مختلف القارات تعمل جاهدة لتحديد الأوليات التي تهم بلادها وقاطنيها، ومن تم يبدأ الاشتغال عليها، والهدف الأسمى الذي يراودها، هو التأسيس للديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والعيش الكريم والتنمية المستدامة والمساواة، فالإنسان إذا توفرت له كل هذه الشروط، ويشعر أنه يعيش كإنسان مكتمل، فمن المؤكد أن خطابات مثل الأصل والهوية وما شابه ستكون هامشية وليست ذات قيمة، لأنه في خضم التقدم والازدهار، لن يلتفت أحد إلى هذه الأمور إلا من قبيل التثقيف وإشباع الفضول المعرفي ليس إلا، ولهذا يبدو من الضروري تغيير بوصلة نقاشنا إلى وجهات أخرى أكثر راهنية وأهمية، ولا نهدر الزمن في نقاشات استهلكت حد التخمة، ولم تقدم على أرض الواقع شيئا يذكر، بل الوجهة السليمة التي يجب أن نيمم وجوهنا شطرها، هي البناء الديمقراطي والبناء المؤسساتي وتقوية الجبهة الاقتصادية والاجتماعية، وتقوية منظومة الحريات والدفاع المستميت عنها وتعليم المجتمع وتثقيفه.. كل هذه الأمور هي المفضية إلى العيش بكرامة، وهي التي تجعل الإنسان يحس بأنه إنسان، فما تبقى في نظري من قبيل الأصل ومن قبيل اللسان الذي تتكلم به، ومن قبيل الظلم التاريخي الذي تعرض له هذا الطرف أو ذاك، لا يمكن أن يخدم المشروع المجتمعي الذي نريده لهذا البلد، فلنتقدم في نقاشاتنا، فالزمن زمن التكنولوجيا والثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي، فكفانا استخفافا بعقول المغاربة.