المنبر الحر | إهانة رجال ونساء التعليم في المنظومة التعليمية

بقلم: مصطفى السباعي
في لقاء عابر على رصيف مقهى رفقة رجال تعليم، تسارع الحديث عن مواضيع سياسية ذات طابع وطني ليستقر فجأة عند اختلالات المنظومة التربوية والتعليمية بالمغرب، عبر مناقشة نسبة النجاح في الدورة العادية من امتحانات البكالوريا لهذا الموسم الدراسي، والمستوى الحقيقي للناجحين، حيث استغرب بعض الأساتذة صراحة من نجاح تلاميذ لا يعرفون “الألف من الزرواطة” كما يقال، والدور الحاسم للغش في هذا النجاح، وفي السياق أثيرت قضية إهانة رجال ونساء التعليم في عقر دارهم: الفصول الدراسية، حيث تم سرد أشكال وأنواع ومراتب وأصناف وألوان وأوزان العقاب النفسي والجسدي الذي يتعرض له أصحاب أنبل مهنة في التاريخ داخل أهم فضاء لبناء المجتمع، سواء من طرف الإدارة التربوية بتراتبيتها، أو من طرف التلاميذ، وحتى من طرف زملاء المهنة.
وفي خضم النقاش، تطرق أحد الأساتذة لما اعتبره أسوأ إهانة لرجل التعليم، وهي الخريطة المدرسية التي تضرب بعرض الحائط عمل الأستاذ من مبتدئه حتى خبره، وطرح السؤال: لماذا لا تحترم المنظومة القرار التربوي للأستاذ؟ وهل للأستاذ قرار تربوي أصلا؟
وبحثا عن جواب لهذا السؤال، تمت العودة إلى النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية (تحيين أكتوبر 2007) الذي فاجأنا صراحة بخلوه من أي مقتضى ينص أو يؤشر على احترام مهمة الأستاذ داخل الفصل، ذلك أن المواد 15 و21 و26 من هذا النظام لخصت عمل الأستاذ في القيام بمهام التربية والتدريس مع إمكانية التكليف بمهام الإدارة التربوية، إضافة إلى عملية تصحيح الامتحانات التعليمية المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية، والواضح أن هذه المواد خالية تماما من التنصيص على دور الأستاذ في التقييم والتقويم، وبالتالي، تجريده بقوة القانون من اتخاذ قرار نجاح أو رسوب التلميذ.
وتعتبر الخريطة المدرسية ونظام التفريغ أكبر وأسوأ إهانة لرجل التعليم ومصدر باقي الإهانات، إذ تهمشه في اتخاذ القرار التربوي في حق التلميذ، فقد كرس مخطط الاستدراك لتفعيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين (البرنامج الاستعجالي 2009-2012، الذي أصدرت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي تقريره التركيبي تحت عنوان: “جميعا من أجل مدرسة النجاح”)، (كرس) هذا التهميش عندما حدد الأهداف التالية للعملية التعليمية التعلمية:
1) وجوب بلوغ 90 % من التلاميذ المسجلين بالسنة الأولى من التعليم الابتدائي، نهاية التعليم الابتدائي، (ونسطر على كلمة “وجوب” هنا)؛
2) وجوب بلوغ 80 % منهم نهاية سلك الثانوي الإعدادي؛
3) ينبغي أن ينهي 60 % من التلاميذ المسجلين بالسنة الأولى من سلك التعليم الابتدائي دراستهم الثانوية، وينبغي أن يحصل 40 % منهم على البكالوريا.
وصيغ الوجوب هاته، لا تعني إلا شيئا واحدا، هو أن التلميذ سواء تمكن من الكفايات والمهارات المطلوبة خلال هذه المستويات أو لم يتمكن منها، سوف يتدرج من مستوى لآخر ويراكم النجاحات المغشوشة رغما عن أنف أستاذه.
وللإشارة، فإن نسبة النجاح في الدورة العادية للامتحان الوطني الموحد لنيل شهادة البكالوريا دورة يونيو 2023، التي أعلنت عنها وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة والتي بلغت 59.74 %، هي في الحقيقة 59.74 % من 40 % من التلاميذ الذين ينبغي أن يحصلوا على البكالوريا من 100 % من التلاميذ المسجلين بالسنة الأولى من التعليم الابتدائي لهذا الفوج.
وقد رسخت الدولة في شخص الوزارة المعنية هذا التوجه وأمعنت في إهانة الأستاذ، عندما قررت تقليص الهدر المدرسي والفشل الدراسي للتلاميذ في التعليم الابتدائي بتحقيق نسبة استكمال التمدرس في الابتدائي بدون تكرار، من موسم دراسي لآخر بنسبة تصل إلى 90 % أحيانا، وفي الثانوي الإعدادي بتحقيق نسبة استكمال التمدرس في الإعدادي تصل إلى 80 % في أغلب الأحيان.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الهدر المدرسي ينتجه نظام التفريغ والخريطة المدرسية المشار إليهما، وليس بالضرورة العوامل الاجتماعية التي يقدمها “محللو” المنظومة التربوية الرسميون وغير الرسميين في كل مناسبة وبدونها، وجلي أن الدولة تواجه “الهدر المدرسي والفشل الدراسي” المولودين من رحم المنظومة نفسها، بالإنجاح القسري الجماعي للتلاميذ دون احتكام للكفاءة ولا لمدى التمكن من الكفايات المطلوبة.
وتتوالى الرؤى الاستراتيجية وخرائط الطريق والمخططات الإصلاحية ويزداد الأمر سوء خطة بعد خطة ورؤية بعد رؤية.. ومن أقوى الأدلة على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تبوؤ المغرب المرتبة ما قبل الأخيرة في “اختبارات التمكن من القراءة ومهاراتها وكفاياتها لدى تلاميذ المستوى الرابع ابتدائي”، حسب نتائج “الدراسة الدولية للتحصيل الدراسي في القراءة” الشهيرة اختصارا باسم (PIRLS) في التصنيف الدولي الذي صدر شهر ماي 2023.
ولا ننسى طبعا تأثير إدماج ما يسمى بالحقوق في المقررات الدراسية دون الواجبات، وتقييد سلطة الأستاذ بموجب ذلك في مقابل ترك الحبل على الغارب للتلميذ، في تكريس واقع “الأستاذ المهزوم” أمام تلميذه، وسعيه الحثيث دائما لطلب “السلة بلا عنب” كما يقال في مواجهة التلميذ، الذي استقوى بخطاب حقوقي وهمي.
هذا غيض من فيض هموم قطاع التعليم، ويبقى السؤال المطروح: إلى متى سيظل الأستاذ مجرد ساعي بريد للمعرفة؟ وإلى متى يستمر هذا التواطؤ بين جميع مكونات العملية التعليمية التعلمية والمتدخلين فيها: الوزارة، إدارة المؤسسات التعليمية، رجال ونساء التعليم، التلاميذ، والآباء والأمهات؟ كل منهم يسعى بكل الوسائل غير “الشرعية” لتحقيق أهدافه باعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وكل موسم دراسي ورجال ونساء التعليم يراكمون الإهانات والتلاميذ يراكمون النجاحات المغشوشة.