المنبر الحر | النظام العالمي الجديد من منظور إسلامي
بقلم: ذ. الحسن العبد
قال المهدي المنجرة: “لم تعد لدينا أي شرعية حقيقية دوليا، فأمريكا تقول إنها تعتبر قرارها ودفاعها عن شعبها هو الشرعية، وتمنح لنفسها الحق في التدخل في أي مكان تريد، وفي أي وقت تريد، ولا أحد يعارضها”، وبالفعل نحن اليوم بين إرهاب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (بني صهيون)، والدول الأوروبية غير المتحركة لنصرة حقنا، وكل من يحالفهم ضدنا (باستثناء الأحرار منهم)، من جهة، والنظام العالمي القديم/الجديد من منظور إسلامي (الأمة الإسلامية من جهة أخرى.. فأي مستقبل ينتظرنا في ظل طغيان أمريكا وإسرائيل؟ وهل من سبيل للتخلص من هيمنة الأقوياء بعدة دول إسلامية؟
تزخر كل مكتبات العالم الورقية والإلكترونية، ومعها أرشيفات البيت الأبيض وغيرها من دول القارة الأمريكية، بتاريخ الأمريكيتين السياسي منذ الاكتشافات الجغرافية الأوروبية، وقبلها رحلات أخرى سابقة لبعض الشخصيات العالمية، ومنها العربية بشكل خاص، فالثورة الأمريكية، والحركات التحررية اللاتينية، وكذلك عزلة الولايات المتحدة والحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب، إلى دخولها الحربين العالميتين وما نتج عن ذلك من نتائج سياسية، بطلتها اليوم الولايات المتحدة كدولة حديثة العهد، وكقطب عالمي بنظامه الجديد، وقد صرح أحد الإعلاميين الغربيين بأن الرئيس جو بايدن أثار ضجة خلال تجمع لقادة الأعمال في البيت الأبيض، حين لمح إلى “نظام عالمي جديد” سيحل في أعقاب أزمة أوكرانيا، وهذا هو حديث الساعة في العالم، فعن أي نظام جديد يتحدث هذا الرئيس، وما هي مواصفاته بعد أن سبقه إلى ذلك قادة أمريكيون آخرون؟ إذ خاطب بايدن الاجتماع الفصلي للرؤساء التنفيذيين الذي تعقده الطاولة المستديرة للأعمال، وضم قادة “جنرال موتورز” و”آبل” و”أمازون”، واختتم ملاحظاته بالقول: “الآن هو وقت تتحول فيه الأمور.. نحن نتجه إلى ذلك، سيكون هناك نظام عالمي جديد، وعلينا أن نتولّى قيادته، وخلال ذلك، علينا أن نوحد بقية العالم الحر”.
إن النظام العالمي الجديد الذي ما فتئ يتجدد باستمرار مع كل ما هو جديد، ليس إلا استمرارا للنظام العالمي الاستعماري القديم، وقد أعلن الرئيس الأسبق، بوش الابن بنفسه، وأمام مرأى ومسمع العالم، بأنه هو الخير (الغرب)، أي الأنا القوي المقدس، وأن الآخر (المشرق العربي والغرب الإسلامي) بالذات، أي التقي النقي، ومعه باقي الدول السائرة في طريق النمو، هي الشر! وأن العالم قد انقسم، كما أعلن الرئيس بنفسه إلى الأنا والآخر، أي الغرب وبقية العالم.
فالنظام العالمي الجديد في حلته الجديدة، يعني “القانون الغربي الاستعماري”، دائما أبدا بالأنا، أي بمركزية ثقافية مهيمنة، فيتحكم في العالم ويقسمه حسب رؤيته ومشيئته، وينكر بذلك تاريخ الآخر وإنسانيته وهويته، فهم يريدون أن تختفي القيم والأخلاق والمرجعيات، ليعظموا المنفعة المادية والاستهلاكية العالمية، ذلك أن تقدم أي دولة خارج المدار الغربي، وخاصة الدول السائرة في طرق النمو، فيه تهديد لمصالح هذا النظام، لذلك يجب – كما يقول الأستاذ عبد الوهاب المسيري – أن يتم التقدم تحت مظلة البنك الدولي وصندوق النقد، داخل إطار النظام العالمي الجديد الذي تحكمه بنية التفاوت والمنظومة القيمية الاستهلاكية، لذا يجب ألا يسمح بإدخال التنمية المستقلة، فهي أيضا تُحدث ثغرة في النظام الدولي، فهي قد توقف توسع الشركات متعددة الجنسيات، وقد تعوق التنمية تحت مظلة البنك الدولي، وربما هذا ما يفسر وقوف الكثير من الدول الغربية سدا منيعا ضد توفق مشروع الدولة الحضاري التركي الذي يعتمد على القدرات الذاتية بإمكانيات البلاد الخاصة، وكذا الإقلاع الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول الآسيوية والإفريقية.
والمثير في هذا النظام العالمي الجديد، أن القوة العسكرية لم تعد الركيزة الأساسية للسيطرة على العالم فقط، وإن كانت الحروب قد أنهكت كاهل الدول الغربية كذلك، بفعل تهورها وطغيانها، لكن ثورة المعلومات لها مقدرة هائلة على الاختراق، وتساعد على نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم بعد أن كانت محصورة إلى حد كبير في الغرب، وخاصة مع تواجد نخب محلية تنتمي “اسما” إلى شعوبها، ولكنها تنتمي “فعلا” من ناحية الرؤية والتطلعات والأحلام وأسلوب الحياة، إلى العالم الغربي.
إننا اليوم نعيش تصاعدا خطيرا كما يؤكد بعض الساسة والمثقفين العرب، في معدلات العلمنة والترشيد والأمركة في كل أنحاء العالم، وخاصة مع الانفتاح الكلي على ثقافة المقدس الغربي، بمبادئه الأساسية، حيث نلمس اختراقا كثيرا من أعضاء النخب الثقافية، كما يتم للأسف الشديد الاستيلاء على أبنائهم، فبدأت أمركة العالم تجني ثمارها لغويا وثقافيا، وقد تم المرور بكثير من الدول العربية، على سبيل المثال، بطريقة سلسة محكمة، من “دار للا الفرنسية” إلى “دار سيدي الإنجليزي”.
وفي المقابل، ولحسن الحظ، مع الجد والمثابرة والثقة في الذات، بدأت تظهر بعض المراكز الاقتصادية غير الغربية، تحافظ على لغاتها وثقافاتها، لأنها تُطور نفسها خارج شبكة الهيمنة الغربية مثل اليابان والصين وماليزيا وكذا تركيا أردوغان، ولا يمكن استثناء المغرب من هذه الدول وإن كان التوجه اليوم نحو الأنجلوساكسونية، مع الحفاظ على اللغات الأم والتركيز عليها، فيمكن اعتباره قد أصبح واعيا بمصالحه الاقتصادية نظرا للآليات التي يدير بها شؤونه في شتى المجالات، محاولا الحفاظ على هويته وإرثه رغم التفتح على الثقافات والحضارات الأخرى.
فالمغرب اليوم تحول إلى دولة تستمد سيادتها من الشعب، كما قال محمد الطوزي، من خلال العلاقة بين السيادة الوطنية ومسؤولية الدولة، التي لم تعد في إطار الرعاية، إذن، هي سيادة وطنية، وللشعب المغربي أمجاده وإرثه التاريخي الثقافي والحضاري، ولنا عقيدة متلألئة شعائريا وشرائعيا تبشرنا بمستقبل واعد، بأسلمة العالم بنظام عالمي قديم مع “إرث السلف” وجديد مع “اجتهاد الخلف”.