المنبر الحر | أي دور للمثقف اليوم في زمن التكنولوجيا والتفاهة ؟

بقلم: بنعيسى يوسفي
إلى عهد قريب كان موضوع المثقف ودوره في التغيير في المجتمعات العربية والإسلامية يحتل مكانة مركزية ومهمة في جل النقاشات الفكرية والسياسية، بين المثقفين أنفسهم وبين مختلف الأوساط الاجتماعية بشكل عام، وكانت هناك في الحقيقة نقاشات عميقة وقيمة وإن كانت لم تصل إلى مداها وتأثيرها في الواقع لم يكن ظاهرا بالشكل المطلوب، وذلك راجع بالأساس إلى العديد من الظروف والمعطيات والمتغيرات، تاريخية وسياسية بالأساس، إلا أنها على الأقل أسست في مرحلة من المراحل لوعي اجتماعي وسياسي وفكري متقدم، وأثثت لحقل ثقافي ثري ومتنوع، وتشكلت بناء على ذلك فئات مثقفة في المجتمع لا زالت تصارع من أجل إثبات الذات والتأثير في المشهد العام، ولا زالت تؤمن بأن التغيير المنتظر في المجتمعات العربية والإسلامية مدخله الأول ثقافي بدون منازع، فتارة يحالفها التوفيق فيما تصبو إليه، وتارة يطوقها الإخفاق من كل جانب وهكذا دواليك، إلى أن وصلنا إلى الوقت الراهن، وإلى ما نحن عليه الآن، فتلاشت وكادت أن تغيب تلك النقاشات الصاخبة والحوارات والجدالات السابقة، وأصبحت هامشية إلى حد بعيد، وأصبح المثقف ومن ولاه يعيشون عزلة قاتلة في مجتمعاتهم، وطفت إلى السطح العديد من الممارسات والسلوكات التي حجبت كل المجهودات التي يقوم بها المثقف للقيام بما يمليه عليه ضميره حيال مجتمعه، وأصبحت تبدو خافتة وباهتة، حتى بدأ يخال للجميع أنهم يعيشون عصرا آخر غير عصر المثقف والثقافة.. إنه زمن ما يسميه المفكر الكندي آلان دونو: “زمن التفاهة” الذي أحكم قبضته ليس على المجتمعات العربية والإسلامية وحسب، بل وحتى على المستوى العالمي، وساهم ذلك في الثورة المعلوماتية، ومواقع التواصل الاجتماعي التي سلبت الناس إرادتهم وأصبحوا يتعبدون في محرابها صباح مساء في استهلاك يومي فظيع للمبتذل والسخيف، حتى تكون لنا في النهاية فرد نمطي هش قابل للاحتواء، تتجاذبه تيارات جارفة وهو يعيش هوية أو متعة مزيفة، سرعان ما تنكشف خيوطها ويلفي نفسه وهو يتجرع مرارة الواقع الذي يعيشه والظروف التي تحيط به دون أن يملك القدرات والأدوات التي تسعفه على تغييرها، يستهلك أكثر مما ينتج، ويمكن أن توجهه صوب أي جهة شئت.. كل هذا ساهم بشكل أو بآخر في هذا التحول الخطير في مكانة المثقف الذي كان ينظر إليه وكأنه حامل مشعل التغيير وأمسى اليوم وكأنه إنسان عادي، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وسرقت منه الأضواء، وسحب البساط من تحت قدميه، ومن هنا يتضح ما صارت عليه الأوضاع في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية على جميع المستويات، وهذا التراجع المروع لمنظومة القيم.
فالمسؤوليات فيها مشتركة وليس المثقف هو الوحيد الذي يتحمل وزرها، بل يمكن القول أن الكل يتقاسمها بدون استثناء، من المواطن العادي البسيط إلى هذا الانتشار الكبير وغير العقلاني لوسائط التواصل إلى الماسكين بزمام السلطة، حيث كلما ساد الاعتقاد أن هناك تقدما بخطوة، نجد أنفسنا وقد تراجعنا خطوتين إلى الوراء، في انتظار إقلاع حقيقي يضع هذه الأمة المنهوكة على السكة الصحيحة، سكة الديمقراطية والتقدم والتنمية والعيش الكريم.
فنحن لا نزعم أننا سنحيط بكل تلك المعوقات التي جعلتنا نعيش زمنا أصبحت فيه الثقافة وكل ما هو ثقافي ليست له أي قيمة في الوقت الراهن، لأن كل واحدة منها تستدعي مقالا منفردا، ولأنها أيضا كلها معوقات عميقة تحتاج دراسة وتحليلا وتفكيكا على مهل، ثم إن الخلفية الأساسية من طرحها ليس من قبيل البحث لها عن أجوبة شافية، بقدر ما كانت الخلفية في العمق هي أن نوضح أن الموضوع شائك ومؤرق، تتداخل فيه عوامل كثيرة، وسيبقى مثار نقاش وجدل وتجاذب الأفكار ووجهات نظر ومقاربات مختلفة على امتداد الزمن، وقد تكون متباينة في أحايين كثيرة، ومن جهة أخرى ننبه إلى هذا الخطر الداهم الذي يمتطي صهوة التكنولوجيا ليقضي على ما تبقى من ملامح ومعالم المشهد الثقافي الهادف والرصين والقيم الإنسانية النبيلة، وفسح المجال للرداءة لتصول وتجول بكل حرية دون حسيب ولا رقيب.. فهل يجوز لنا الآن أن نطرح السؤال التالي، في ظل هذه التفاهة التي ترفل فيها المجتمعات العربية والإسلامية حتى النخاع: هل مازال الرهان على المثقف ليقوم بالتغيير المنشود والتصدي لكل هذه الانفلاتات الخطيرة التي أفرزها زمن التفاهة ؟
فالإشكال قد يكون في المجتمع نفسه كما هو الحال في المجتمعات العربية والإسلامية التي تجد فيها الفرد لا يمتلك هو نفسه حدودا دنيا من الثقافة وغارق في الجهل والسفاسف، وإذا أضفنا إلى الوضع هذا البؤس الثقافي الذي يرخي سدوله على المدارس والثانويات والجامعات، فضلا عن بعض وسائل الإعلام التي تروج للسخافات والضحالة وتغرد خارج السرب، تكون قد اكتملت الصورة، وبالتالي، تبنى أمام التغيير سدود منيعة يصعب اختراقها، فتجد المواطن العربي أو الإسلامي لا يتورع في دعوة المثقف إلى التغيير، وهو نفسه لا يعرف أي شيء عن التغيير ولا يعرف ماذا يريد، فاقد للبوصلة، ومن تم، فهو غير قادر على الانخراط في مشروع مجتمعي بعينه، والذي لا يمكن أن ينجح إلا إذا التقت إرادة المثقف وإرادة هذا المواطن فيه، وهو أمر ليس بالأمر الهين في الوقت الراهن على الأقل.
فالمثقف العربي والإسلامي لم يستطع أن يؤسس لهذه العلاقة بينه وبين المواطن في وقت كانت هنالك ظروف مناسبة نسبيا فما بالك اليوم والأمور تغيرت وتعقدت أكثر واتسعت الهوة، وقد فعل الغزو التكنولوجي فعلته في عقول المجتمعات، فأصبح هو الموجه، والمؤثر رقم واحد في تشكيل شخصية ونفسية الفرد في العصر الحالي.